الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمد الخضر حسين أحد زعماء النهضة الإسلامية
أحمد البختري (1)
يقف قلم الكاتب أمام ما يمليه عليه فكر حائر، لم يدر ما يكتبه عن حياة هذا العصامي والقطب العلمي، الذي تدور رحاه حول هذا العالم الإسلامي دوران الشمس في الأفق بشعاع نورها الوهاج، فيملأ أديم الأرض بأسرار العلم والحكمة الإلهية، ناشراً على زواياها المدلهمة ذلك النور المشرق من سماء الفكر، الذي خصّ الله به الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر بن الحسين بن علي بن عمر النفطي شيخ الجامع الأزهر الشريف.
* حياته:
زاول الأستاذ تعليمه بـ "نفطة" حيث ولد، فحفظ القرآن الكريم حفظاً جيداً، كما تغذى من مبادئ العلوم الدينية، ثم التحق بالكلية الزيتونية إلى أن صار من أعلامها الأفذاذ، وتصدى للدفاع عن عزة الإسلام. ولكن سلط الحماية إذا ذاك لم يرق لها هذا النشاط منه، ففكرت جهلاً منها إغراءه بإسناد خطة القضاء الشرعي، لعلها تصدّه وتحدّه عن نشاطه المتزايد.
(1) من كتاب "الجديد في أدب الجريد" للأستاذ أحمد البختري -الشركة التونسية للتوزيع- طبعة سنة 1973 م تونس.
* خطة القضاء ببنزرت:
قبل هذه الخطة عام 1324 هـ، وفي نفس الوقت قام بمحاضرة قيمة بعنوان "الحرية في الإسلام" طبعت بمدينة تونس، وبعد أيام من قبوله للقضاء ببنزرت، قدم تسليمه منها، وغادر البلاد التونسية إلى سوريا، ثم إلى مصر.
* بمصر:
وفي هذه البلاد العربية التي استقبلته استقبال أبنائها، وفتحت له نواديها، تولى بجامعها الأزهر خطة التدريس، وأنشأ "جمعية الهداية الإسلامية"، وتولى رئاستها، وسمّى مجلتها باسمها "الهداية الإسلامية" التي حياها الأستاذ محمد البسطامي بقوله:
طلعت في سماء (مصر) لتحيي
…
في بني الشرق أنفساً وعقولاً (1)
وفي 10 محرم الحرام سنة 1352 - هجرية- عاد من زيارته إلى الأقطار الحجازية، فأقيم له حفل تكريم بنادي "جمعية الهداية" المذكورة، شارك فيها عدد كبير من العلماء والأدباء والشعراء المصريين وغيرهم، وقد ألقى الأستاذ علي سعيد أحمد منصور، (بقسم التخصص بالأزهر) قصيداً جاء فيه:
عدْ ناصر الدين عَوْدَ النصر والظفر
…
يا حجةَ العصر بل يا مرشد البشرِ (2)
إلى أن يقول فيها:
نادي "الهداية" نادى وقت ظعنكمُ
…
مَنْ لي بمجلس أنس السيد (الخَضِر)
(1) ج 9 - م 5 - 1352 هـ عن مجلة "الهداية الإسلامية".
(2)
عن المجلة المذكورة.
ثم ألقى الأستاذ محمد أفندي عجاج هذا القصيد الفريد تقتطف منه ما يلي:
صوتُ "الهداية" قد أهاب فأسمعا
…
بالله يا قومي أجيبوا مَنْ دعا (1)
* إسناد مشيخة الأزهر إليه:
وفي عهد الثورة الحالية التي حدثت بمصر 1952 م أسندت للأستاذ الخضر مشيخة الجامع الأزهر الشريف، ولكن سن الأستاذ أبى عليه البقاء بها طويلاً، وطلب من مجلس الثورة إعفاءه، وقبل منه ذلك.
وكان الأستاذ قبل تقليده ذلك المنصب أنشأ مجلة "الأزهر" تصدى فيها للدفاع عن الأزهر الشريف.
* الرحلة والتعارف في الإسلام:
ومما كتبه فضيلته في هذا الموضوع، فيقول:
أخذت السياسة التونسية تنظر إلى الفيلسوف ابن خلدون بعين جافية، فرمى بنفسه في أحضان مصر، ولقي فيها حفاوة ارتفع فيها إلى مستوى العظماء من رجالها النابتين في معاهدها العلمية. وخشي أبو المكارم هبة الله بن الحسين المصري أن تمسه السلطة المصرية بأذى، فتخلص منها إلى البلاد المغربية، وكان من عاقبه أمره أن تقلد القضاء بمدينة تونس إلى أن توفي بها سنة 586 هـ خمس مئة وست وثمانين.
ولم يطمئن المقام بالقاضي عبد الوهاب بن نصر في بغداد، فقدم إلى الديار المصرية، وأدرك فيها من الحظوة ما يستحقه الذي يقول فيه المعري:
(1) عن المجلة المذكورة.
والمالكيُّ ابنُ نصرٍ زار في سفرٍ
…
بلادنا فحمدْنا النأي والسفرا
إذا تفقَّه أحيا مالكاً جدلاً
…
وينشرُ الملك الضليل إن شعرا
ودخل أبو عبد الله المقري المغربي دمشق الشام، فأقبل عليه أهلها باحتفاء، ومنحوه رقة وأنساً، حتى أنشد مشيراً إلى انقسام فؤاده بين دمشق ووطنه:
إلى الله أشكو بالمدينة حاجةً
…
وبالشام أخرى، كيف يلتقيان؟
تشهد هذه القصص التي ملئت صحف التاريخ بأمثالها: أن العلماء ما كانوا ليستصعبوا فراق أوطانهم، حتى تفقدهم شدة ألفها عن الرحيل إلى حيث تكون سوق المعارف قائمة، وبضاعة الأدب نافقة، أو تشد وثاقهم ليقيموا على هون وغضاضة؛ لأن هممهم إنما كانت تتجه إلى الحياة الاجتماعية الأدبية، فيسهل على (العالم) -ولا سيما أن بلاد الإسلام (وطن واحد) - أن يتحول إلى حيث يكون نظام الاجتماع راقياً، ومجال العمل فسيحاً.
* بقصر آل عاشور بتونس:
ومن مصر نعود بالقارئ إلى تونس؛ لتحدثه على اجتماع علمي ضم عدداً من علماء تونس، ولم يحضره الأستاذ الخضر، وذلك بقصر الأستاذ الطاهر بن عاشور بالمرسى، فارتجل الأستاذ الطاهر بهذين البيتين، وهما (1):
(1) ذكر لي الكاتب الإسلامي الكبير، والقاضي التونسي الفاضل الأستاذ محمود الباجي رحمه الله: أنه حضر من المغرب العالمان الجليلان الشيخ شعيب الدوكالي، والشيخ عبد الحي الكتاني، ونزلا في دار الإمام محمد الطاهر بن عاشور في المرسى، ولما لم يجدا الإمام محمد الخضر حسين، أرسل الإمام الشيخ محمد الطاهر البيتين إلى صديقه الإمام الخضر في جامع الزيتونة بتونس. وروى العجز في البيت الثاني: وفي مجمع البحرين لا يفقد الخضر
تألَّقت الآدابُ كالبدر في السحرْ
…
وقد لفظ البحران موجهما الدُّررْ
فمالي أرى منطيقها الآن غائباً؟
…
وفي مجمع البحرين يُفتقد (الخَضِرْ)؟!
* شعره:
ومن شعره هذه القطعة الشعرية الرائعة في الفخر بعنوان: (نخوة)، هذا نصها بحروفها:
تبغي الليالي أن تفلَّ حُسامي
…
وتصد وجدي بالعُلا وغرامي
طفقَتْ تحثُّ خُطا المطية بعدما
…
ألقتْ بها أيدي النَّوى بزمام
أتخالني أبلى بسلوة خاملٍ؟
…
ما شطَّ عن وطني الأنيس مُقامي
العزمُ ما بين الجوانح مرهفٌ
…
والمجدُ أنّى سرتُ فهو أمامي
والسهمُ يصدرُ راغماً ويُريك منْ
…
جلدٍ ترنُّم ظافر بمرام
لولا السرى لم ترشف النكباء من
…
نفحات ثغر الزهرة البسَّام
كم من يدٍ بيضاء طوَّقني بها
…
حادي الرّكاب إلى ربوع (الشام)
وألذُّها سمرٌ يذكِّرني (البها)
…
و (ابن العميد) إلى (أبي تمام)
وله أيضاً (الهمام):
يرمي الهُمام، وما غير العُلا هدفا
…
ولا يباكرُ إلا الروضةَ الأُنُفا
والناس شعرٌ إذا ما جئت تنقده
…
ألفيتَ سَبْكَ القوافي منه مختلفا
كم بين شهمٍ يُداري الصعبَ في شممٍ
…
وخاملٍ بات في مهد الهوى دَنِفا
وللفضيلة نورٌ لا يكفكف منْ
…
شعاعه، جاحدوها حيثما انعطفا (1)
(1) هذه الأبيات الأربعة لم تنشر في ديوان "خواطر الحياة" للإمام. وقد أخذها =
انظرْ إلى السحب في الآفاق تكتمنا
…
شمس النهار، وأرخت دونه سدفا
فمدَّ قوسُ غمامٍ بينها عنقاً
…
وذكَّر الناس فضل الشمس وانصرفا
وللحشى نزعاتٌ شد ما صعدت
…
إلى الحجى، فأنالت حدَّه رهفا
وله أيضاً هذان البيتان، قالهما ابن الحسين عندما كان القطار يلتوي من ربى بلدة (تارار) (1) في فرنسا وبساط مروجها السندسية. فقال:
لجَّ القطارُ بنا والنَّارُ تسحبه
…
ما بين رائق أشجارٍ وأنهار
وإنَّ أعجب ما تدريه في سفرٍ
…
قومٌ تُقاد إلى الجنَّات بالنَّارِ (1)
* وفاته:
وقبل وفاة الأستاذ ابن الحسين، تمنى أن لا يموت حتى يرى وطنه حراً مستقلاً، وأدرك ما تمناه، وقد رثاه رجال العلم والأدب من مصر وغيرها، ودفن بالقاهرة في الثالث من رجب الأصب عام 1377 سبعة وسبعين وثلاث مئة وألف هجرية، 1958 ميلادية.
= الكاتب من كتاب (الأدب الفرنسي في القرن الرابع عشر" للأستاذ زين العابدين السنوسي.
(1)
لم يذهب الإمام محمد الخضر حسين إلى فرنسا، وهذان البيتان قالهما عندما دخل القطار في بساتين دمشق لأول مرة سنة 1330 هـ. انظر: ديوانه "خواطر الحياة"، وهما:
لج القطاربنا والنار تسحبه
…
ما بين رائق أشجار وأنهار
ومن عجائب ما تدريه من سفر
…
قوم يقادون للجنات بالنار