الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خندق البلدة
أما الخندق فقد ارتدم «1» أكثره بالأتربة وبني في عدة بقاع منه عمائر ومبان وكان يوجد في بقاع أخرى منه بساتين تشرب من سرابات البلدة المنصبة إليه وذلك فيما بين برج الثعابين إلى باب النصر. وكان الخندق ينقطع عند هذا الباب بجدار ثم يعود بستانا إلى قرب بانقوسا، فينقطع بخان يملكه بعض الناس، ثم يكون جادة قليلا، ويعود بستانا إلى وراء باب بالوج، وهناك ينقطع بالجادة، وبعدها يعود بورا مملوءا من الأتربة والأقذار المنصبة إليه من البلد، يمر هكذا على باب المقام وباب قنسرين ثم يكون فيه بستان صغير.
ثم يصير بورا ويمر من تجاه حارة الكلاسة ويصير جادة مارة على باب انطاكية وباب الجنان وباب الفرج وبعده يكون فيه عدة خانات وبيوت حتى يصل إلى برج الثعابين.
وفي سنة 1311 هـ عزمت الحكومة على أن تجعل الخندق جادة عامة فقطعت منه جميع الأشجار وأزالت الموانع وطمت «2» المنخفضات من أرضه ومن ذلك الوقت بدأ الناس يبنون فيه العمائر الضخمة من بيوت وخانات وفنادق وغير ذلك حتى أصبحت المسافة الممتدة منه من عند السهروردي إلى باب القناة من أعمر جادات حلب.
ما قاله المتقدمون في قلعة حلب
قالوا كانت قلعة حلب عديمة النظير بالحصانة والمنعة. وأول من بناها ميخائيل وقيل سليكس نيكادور «3» أحد الملوك الرومانيين «4» سنة 21 من جلوسه قبل المسيح عليه السلام بثلاثمائة واثنتي عشرة سنة، وهذا الرجل يسمى في التواريخ الحلبية سلوقوس وهو الذي جدد بناء المدينة بعد خرابها بزلزال دهمها. وموضع القلعة على جبل مشرف على المدينة وعليها سور ويقال إن في أساسها ثمانية آلاف عمود. قلت: وهذا من قبيل الخرافة إلا أن
يكون المراد بها الأعمدة المغروسة في سفحها المفروش بالرخام تقوية للتراب وسندا للرخام المفروش وعددها لا يزيد على خمسمائة. وكان للقلعة بابان أحدهما من حديد دون الآخر وفي وسطها بئر ينزل إليها بمائة وخمس وعشرين دركة «1» مهندمة تحت الأرض وقد جرفت جروفا وصيرت أزواجا ينفذ بعضها إلى بعض إلى الماء وكان فيها دير للنصارى وكان به امرأة قد سد عليها الباب منذ سبع عشرة سنة ثم ينحدر السور من جانبي هذه القلعة إلى البلد وقيل إنه لما فتح كسرى حلب وبنى سورها كما قدمناه بنى في القلعة مواضع، ولما فتح أبو عبيدة حلب كانت قلعتها مرممة بعد زلزلة أصابتها قبل الفتح فأخربت أسوار البلدة وقلعتها ولم يكن ترميمها محكما فنقض ذلك وبناه، وكذلك لبني أمية ولبني العباس فيها آثار (هي الآن غير معلومة) .
ولما استولى نيقفور ملك الروم على حلب سنة 351 هـ كما قدمناه امتنعت القلعة عليه وكان قد اعتصم بها جماعة من العلويين والهاشميين فحمتهم ولم يكن لها يومئذ سور عامر إنما كانوا يتقون سهام العدو بالأكف والبراذع «2» .
ثم لما أقلع نيقفور اهتم الملوك بعمارتها وتحصينها فبنى سيف الدولة منها بعض أسوار ثم أكملها بعده ولده سعد الدولة وسكنها، ثم عصي فيها فتح القلعي على مولاه ابن مرتضى الدولة لؤلؤ وسلمها إلى نواب الحاكم فعصي فيها عزيز الدولة فاتك على الحاكم وقتل بالمركز وكان قصره الذي ينسب إليه خانقاه القصر متصلا بالقلعة والحمام المعروف بحمام القصر إلى جانبه، فخرب القصر بعد ذلك تحصينا للقلعة وصار الخندق موضعه وكان هذا الحمام ديرا في أيام الظاهر غازي فهدمه وجعله مطبخا. ولما قتل عزيز الدولة صار الظاهر وولده المستنصر يولّيان واليا بالقلعة وواليا بالمدينة. وكان بنو مرداس قد بنوا فيها دورا وجددوا أسوارا وسكنوها ومن ذلك اليوم صارت محلا لسكنى الملوك، ولما وليها عماد الدين آق سنقر وولده عماد الدين زنكي حصنوها وأثروا بها آثارا حسنة وبنى فيها طعتكين برجا من قبليها ومخزنا للذخائر وكان اسمه مكتوبا عليه وبنى فيها نور الدين محمود زنكي أبنية كثيرة وعمل فيها ميدانا وخضّره بالحشيش فسمي الميدان الأخضر، وكذلك بنى بها ولده
الملك الصالح باشورة «1» كانت قديمة فجددها وكتب اسمه عليها ولم تزل عمارته في ازدياد إلى أن ملكها الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب وأعطاها أخاه الملك العادل سيف الدين أبا بكر فبنى فيها برجا ودارا لولده فلك الدين، كانت تعرف به، ولما ملك الظاهر غازي حصنها وحسنها وبنى فيها مصنعا كبيرا للماء ومخازن للغلات وهدم الباشورة التي كانت في سفح تلك القلعة وبناها بالحجر الهرقلي وأعلى بابها وكان قريبا من الأرض متصلا بالباشورة فوقع في سنة 600 هـ وقتل تحته خلق كثير وعمل لهذا الباب جسرا ممتدا منه إلى البلد وبنى على الباب برجين لم يبن مثلهما قط وعمل للقلعة خمس در كاوات بأزج «2» معقودة وحنايا منضودة وجعل لها ثلاثة أغلاق من الحديد وأقام لكل باب منها أسباسلار ونقيبا وبنى فيها أماكن لجلوس الجند ورجال الدولة، وكان يعلق بها آلات الحرب.
وفتح في سور القلعة بابا يسمى باب الجبل شرقي باب القلعة، وعمل له دركاه لا يفتح إلا له إذا نزل إلى دار العدل وهذا الباب وما قبله انتهت العمارة منهما سنة 611 هـ وفي سنة 616 هـ في الرابع والعشرين من شهر رمضان مهدت أرض الخندق الملاصق للقلعة فوجدت فيه لبنة من الذهب الإبريز زنتها سبعة وتسعون رطلا حلبيا والرطل سبعمائة وعشرون درهما وبنى الظاهر غازي في القلعة ساتورة «3» للماء بدرج إلى العين وبنى ممشى من شمالي القلعة إلى باب الأربعين وهو طريق بازج معقود لا تسلك إلا في الضرورة وكأنه باب السر وزاد في حفر الخندق وأجرى فيه الماء الكثير وخرق في شفيره مما يلي البلد مغاير أعدها لسكنى الأسارى في كل مغازة خمسون بيتا وأكثر وبنى في القلعة دارا تعرف بدار العز وكان في موضعها دار للملك العادل نور الدين تسمى دار الذهب ودارا تعرف بدار العواميد ودارا للملك رضوان حازت كل معنى غريب. وفيها يقول الرشيد عبد الرحمن بن النابلسي من قصيدة مدحه بها سنة 539 هـ:
دار حكت دارين في طيب ولا
…
عطر بساحتها ولا عطّار
رفعت سماء عمادها فكأنها
…
قطب على فلك السعود يدار
وزهت رياض نقوشها فبنفسج
…
غضّ وورد يانع وبهار
وضحت محاسنها ففي غسق الدجى
…
يبدو لصبح جبينها إسفار
فتقر عين الشمس أن يضحي لها
…
بفنائها مستوطن وقرار
صور ترى ليث العرين تجاهه
…
فيها ولا يخشى سطاه صوار
وموسدين على وسائد ملكهم
…
سكرا ولا خمر ولا خمّار
لا يأتلي شدو القبان رواجعا
…
فيه ولا نغم ولا أوتار
هذا يعانق عوده طربا وذا
…
دأبا يقبل ثغره المزمار
وهي طويلة جدا فإنه خرج من هذا إلى ذكر البركة والفوارة والرخام ثم إلى مدح الملك الظاهر. قال ابن شداد: «فاقتصرت منها على هذا ليعلم حسن هذا الدار» وبنى حولها بيوتا وحجرا وحمامات وبستانا كبيرا في صدر إيوانها فيه أنواع الأزهار والأشجار وبنى على بابها أزجا يسلك فيه إلى الدر كاوات التي قدمنا ذكرها وبنى على بابها أماكن للكتاب وكتاب الجيش.
ولما تزوج سنة 609 هـ بضيفة خاتون ابنة عمه الملك العادل التي حكمت في حلب بعد وفاته، أسكنها الدار المذكورة فوقعت نار عقيب العرس فأحرقت جميع ما كان فيها من الفرش والمصاغ وذلك في حادي عشر جمادى الأولى من السنة المذكورة ثم جدد عمارتها وسماها دار الشخوص لكثرة زخارفها وسعتها أربعون ذراعا في مثلها. وفي أيام الملك العزيز ابنه سنة 622 هـ وقع من القلعة عشرة أبراج مع بدناتها وكان النوء باردا وقدر ما وقع خمسمائة ذراع وهو المكان المجاور لدار العدل ووقع بعض الجسر الذي بناه أبوه فاهتم الأتابك طغرلبك بعمارتها وجمع الصناع واستشارهم فأشاروا بأن يبنى من أسفل الخندق على الجبل ويصعد بالبناء ليبقى البناء محكما فإنه متى لم يبن هكذا وقع ما يبنى عاجلا وإن قصدها عدو لم يمنعه. فرأى الأتابك أن ذلك محتاج إلى مال كثير ومدة طويلة فعدل عن هذا الرأي وقطع الأشجار من الزيتون والتوت وجعلها الأساس على التراب وبنى عليها. ولهذا لما نازلها التتار لم يتمكنوا من أخذها إلا من هذه الجهة لتمكن النقابين منها.
وفي سنة 628 هـ بنى فيها الملك العزيز دارا إلى جانب الزردخانه «1» يستغرق وصفها
الإطناب، مساحتها ثلاثون ذراعا في مثلها، وفي سنة 658 هـ استولى التتار على القلعة وخربوا أسوارها وجميع أبنيتها وأخذوا ما كان فيها من الذخائر والزرد والمجانيق. ولما هزمهم الملك المظفر قطن «1» على عين جالوت عادوا إلى حلب ثانية في محرم سنة 659 هـ رأوا في القلعة برجا حادثا للحمام فخربوه وخربوا القلعة خرابا فاحشا وأحرقوا المقامين «2» إحراقا لا يمكن جبره وذلك في الشهر المذكور، فاستمرت القلعة خرابا إلى أن جددت في أيام سلطنة الملك الأشرف خليل بن قلاوون ثم خربها تمرلنك وبقيت خرابا إلى أن جاء الأمير سيف الدين جكم نائبا إليها من قبل السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق وادعى السلطنة لنفسه وأمر ببناء القلعة وألزم الناس العمل بالخندق وتحرير التراب منه وجد في ذلك حتى عمل بنفسه واستعمل وجوه الناس بحيث كان كبار الأمراء يحملون الأحجار على متونهم وخرب السور المعروف بالغربي على كتف الخندق شرقي باب القلعة وخرب مكتب السلطان حسن تجاه باب القلعة وكان شمالي حمام الناصري قنطرة كبيرة مبنية بالحجارة الهرقلية وجانبها الشمالي على كتف الخندق يقال لها باب القوس البراني وقنطرة أخرى غربي القنطرة الأولى يقال لها القوس الجواني فبنى حجارتهما في البرجين الذين استجدهما وبنى أسوار القلعة كما كانت وبنى البرجين الذين على باب القلعة الفوقاني وأمر ببناء القصر على سطح البرجين المذكورين ولم يسقفه وذلك في سنة 809 هـ.
فلما تسلطن الملك المؤيد شيخ وجاء إلى حلب أمر بتسقيفه وأن تقطع له الأخشاب من بلاد دمشق فقطعت وجيء بها إلى حلب وهي غاية في الطول فسقف بعض القصر المذكور وصار قصرا عاليا مليحا جدا ويقال إنّ الأخشاب المذكورة أحضرها الأمير جكم من بلد بعلبك ولم يكن فيها كفاية «3» ، فأحضر الملك المؤيد غيرها وبنى الأمير جكم البرجين الذين في سفح القلعة أحدهما مما يلي سوق الخيل قبلي القلعة والآخر تجاه باب الأربعين شمالي القلعة. وكان لباب القلعة سلسلة تمنع الراكب من الدخول إليها وكان فيها كنيستان «4» إحداهما كانت قبل أن تبنى مذبحا للخليل إبراهيم عليه السلام وكان به صخرة يجلس عليها
لحلب المواشي «1» ، وهذه الكنيسة بنيت مسجدا جامعا في أيام بني مرداس كان يعرف بمقام إبراهيم وبه تقام خطبة وسيأتي الكلام عليه، وفي سنة 435 وقيل سنة 433 ظهر ببعلبك في حجر منقور رأس يحيى بن زكريا وكان من أمره ما حكيناه في الكلام على الحضرة النبوية في الجامع الأموي الكبير في حلب. وأما الكنيسة الأخرى فهي المقام الأسفل الذي كان يقيم به الخليل وبه صخرة لطيفة تزار ويقال إنه كان يجلس عليها. ولم يثبت من أنشأ هذا المقام من ملوك الإسلام سوى أن الملك العادل نور الدين محمود هو الذي جدده أيضا وزخرفه وكان كثير التعبد فيه وبنى فيه صهريجا مرصوصا يملأ في كل سنة ووقف عليه وقفا. وكان بهذه القلعة جرس كالتنور العظيم معلق على برج من أبراجها من غربيها كان يحرك ثلاث مرات في أول الليل لانقطاع الرجل عن السعي وفي منتصفه ووقت الفجر وكان تعليقه على القلعة سنة 496 وسببه أن الفرنج الصليبيين لما ملكوا انطاكية طغوا في بلاد حلب وعاثوا وأفسدوا فخافهم رضوان بن تاج الدولة تتش لعجزه عن دفعهم واضطر إلى مصالحتهم فاقترحوا عليه أشياء كثيرة من جملتها أن يحمل إليهم في كل سنة قطيعة من مال وخيل وأن يعلق بقلعة حلب هذا الجرس ويضع صليبا على منارة الجامع الكبير فأجابهم إلى ذلك فأنكر عليه القاضي يحيى بن الخشاب وكان زمام البلد بيده، فراجع الفرنج في أمر الصليب فأذنوا له في وضعه على كنيسة هيلانة وبقي بها إلى أن جعلت جامعا كما نذكره، وأما الجرس فإنه لم يبرح معلقا على البرج المذكور إلى أن ورد حلب الشيخ الصالح أبو عبد الله ابن حسان المغربي فأنكره لما سمعه ووضع إصبعه في أذنه وقعد إلى الأرض وقال:
الله أكبر، وإذا بضجة عظيمة وقعت في البلدة وانجلت عن وقوع الجرس وكسره وذلك في سنة 587 فجدد وعلق فانقطع لوقته وانكسر. وكان هذا الرجل زاهدا فاضلا مقريا محدثا من أولياء الله، قدم حلب ونزل دار الضيافة بالقرب من القلعة وكان من المثريين ببلاد المغرب فتجرد وحج وقدم حلب ومنها دخل جبل لبنان، قيل: وفيه كانت وفاته.