المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القول في تأويل قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ١٢

[ابن جرير الطبري]

الفصل: القول في تأويل قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ

القول في تأويل قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‌

(150) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المفترين على ربهم من عبدة الأوثان، الزاعمين أنّ الله حرم عليهم ما هم محرموه من حروثهم وأنعامهم = (هلم شهداءكم)، يقول: هاتوا شهداءكم الذين يشهدون على الله أنه حرم عليكم ما تزعمون أنه حرمه عليكم. (1)

* * *

وأهل العالية من تهامة توحِّد"هلم" في الواحد والاثنين والجميع، وتذكر في المؤنث والمذكر، فتقول للواحد:"هلم يا فلان"، وللاثنين والجميع كذلك، وللأنثى مثله، ومنه قول الأعشى:

وَكَانَ دَعَا قَوْمَهُ دَعْوَةً

هَلُمَّ إلَى أَمْرِكُمْ قَدْ صُرِمْ (2)

ينشد:"هلم"، و"هلموا". وأما أهل السافلة من نجد، فإنهم يوحِّدون للواحد، ويثنُّون للاثنين، ويجمعون للجميع. فيقال للواحد من الرجال:"هلم" وللواحدة من النساء:"هلمي"، وللاثنين:"هلما"، وللجماعة من الرجال:"هلموا"، وللنساء:"هَلْمُمْنَ". (3)

* * *

قال الله لنبيه: (فإن شهدوا)، يقول: يا محمد، فإن جاءوك بشهداء يشهدون أن الله حَرَّم ما يزعمون أن الله حرمه عليهم = (فلا تشهد معهم) ، فإنهم كذبة

(1) انظر تفسير ((الشهداء)) فيما سلف من فهارس اللغة ((شهد)) .

(2)

ديوانه 34، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 208، من قصيدة طويلة مضت منها أبيات في مواضع متفرقة، وهذا البيت داخل في قصة ((الحضر)) ، وما أصاب أهله، تركت نقل أبياتها لطولها.

(3)

انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 208، فهذا نص كلامه.

ص: 213

وشهود زور في شهادتهم بما شهدوا به من ذلك على الله. وخاطب بذلك جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم، والمراد به أصحابه والمؤمنون به = (ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا)، يقول: ولا تتابعهم على ما هم عليه من التكذيب بوحي الله وتنزيله، في تحريم ما حرم، وتحليل ما أحل لهم، ولكن اتبع ما أوحي إليك من كتاب ربك الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه = (والذين لا يؤمنون بالآخرة)، يقول: ولا تتبع أهواء الذين لا يؤمنون بالآخرة، فتكذب بما هم به مكذبون من إحياء الله خلقه بعد مماتهم، ونشره إياهم بعد فنائهم = (وهم بربهم يعدلون)، يقول: وهم مع تكذيبهم بالبعث بعد الممات، وجحودهم قيام الساعة، بالله يعدلون الأوثانَ والأصنامَ، فيجعلونها له عِدْلا ويتخذونها له ندًّا يعبدونها من دونه. (1)

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

14133-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:(هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا)، يقول: قل أروني الذين يشهدون أن الله حرم هذا مما حرمت العرب، وقالوا: أمرنا الله به. قال الله لرسوله: (فإن شهدوا فلا تشهد معهم) .

14134-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:(هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا)، قال: البحائر والسُّيَّب.

* * *

(1) انظر تفسير ((العدل)) فيما سلف 11: 251 - 254.

ص: 214

القول في تأويل قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام، الزاعمين أن الله حرم عليهم ما هم محرِّموه من حروثهم وأنعامهم، على ما ذكرت لك في تنزيلي عليك =: تعالوا، أيها القوم، (1) أقرأ عليكم ما حرم ربكم حقًا يقينًا، (2) لا الباطل تخرُّصًا، تخرُّصَكم على الله الكذبَ والفريةَ ظنًّا، (3) ولكن وحيًا من الله أوحاه إليّ، وتنزيلا أنزله عليّ: أن لا تشركوا بالله شيئًا من خلقه، ولا تعدلوا به الأوثان والأصنام، ولا تعبدوا شيئًا سواه = (وبالوالدين إحسانًا)، يقول: وأوصى بالوالدين إحسانًا = وحذف"أوصى" و"أمر"، لدلالة الكلام عليه ومعرفة السامع بمعناه. (4) وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى من الكتاب. (5)

* * *

وأما"أن" في قوله: (أن لا تشركوا به شيئًا) ، فرفعٌ، لأن معنى الكلام: قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربكم عليكم، هو أن لا تشركوا به شيئًا.

وإذا كان ذلك معناه، كان في قوله:(تشركوا)، وجهان:

= الجزم بالنهي، وتوجيهه"لا" إلى معنى النهي.

= والنصب، على توجيه الكلام إلى الخبر، ونصب"تشركوا"، بـ"أن لا"،

(1) انظر تفسير ((تعالوا)) فيما سلف 11: 137، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(2)

انظر تفسير ((تلا)) فيما سلف 10: 201، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(3)

في المطبوعة: ((كخرصكم على الله)) ، وأثبت ما في المخطوطة.

(4)

انظر تفسير ((الإحسان)) فيما سلف 2: 292 / 8: 334، 514 / 9: 283 / 10: 512، 576.

(5)

انظر ما سلف 2: 290 - 292 / 8: 334.

ص: 215

كما يقال:"أمرتك أن لا تقوم".

وإن شئت جعلت"أن" في موضع نصبٍ، ردًّا على"ما" وبيانًا عنها، ويكون في قوله:(تشركوا) ، أيضًا من وجهي الإعراب، نحو ما كان فيه منه. و"أن" في موضع رفع.

ويكون تأويل الكلام حينئذ: قل: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، أتلُ أن لا تشركوا به شيئًا.

* * *

فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يكون قوله (تشركوا) نصبًا بـ"أن لا"، أم كيف يجوز توجيه قوله:"أن لا تشركوا به"، على معنى الخبر، وقد عطف عليه بقوله:(ولا تقتلوا أولادكم من إملاق)، وما بعد ذلك من جزم النهي؟ قيل: جاز ذلك، كما قال تعالى ذكره:(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) ، فجعل"أن أكون" خبرًا، و"أنْ" اسمًا، ثم عطف عليه" ولا تكونن من المشركين "، [سورة الأنعام: 14] ، (1) وكما قال الشاعر:(2)

حَجَّ وَأوْصَى بِسُلَيْمَى الأعْبُدَا

أَنْ لا تَرَى وَلا تُكَلِّمْ أَحَدَا

وَلا يَزَلْ شَرَابُهَا مُبَرَّدَا (3)

فجعل قوله:"أن لا ترى" خبرًا، ثم عطف بالنهي فقال:"ولا تكلم"،"ولا يزل".

* * *

(1) قوله: ((ولا تكونن من المشركين)) ، ساقط في المطبوعة والمخطوطة، واستظهرت زيادته من معاني القرآن للفراء 1: 364، وهي زيادة يفسد الكلام بإسقاطها.

(2)

لم أعرف قائله.

(3)

معاني القرآن للفراء 1: 364، وليس فيه البيت الثالث، وفيه مكانه: * وَلا تَمْشِ بِفَضَاءٍ بَعَدَا *

ص: 216

القول في تأويل قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) ، ولا تئدوا أولادكم فتقتلوهم من خشية الفقر على أنفسكم بنفقاتهم، فإن الله هو رازقكم وإياهم، ليس عليكم رزقهم، فتخافوا بحياتهم على أنفسكم العجزَ عن أرزاقهم وأقواتهم.

* * *

و"الإملاق"، مصدر من قول القائل:"أملقت من الزاد، فأنا أملق إملاقًا"، وذلك إذا فني زاده، وذهب ماله، وأفلس.

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

14135-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:(ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) ، الإملاق الفقر، قتلوا أولادهم خشية الفقر.

14136-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:(ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) ، أي خشية الفاقة.

14137-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(ولا تقتلوا أولادكم من إملاق)، قال:"الإملاق"، الفقر.

14138-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال،

ص: 217

قال ابن جريج قوله: (من إملاق)، قال: شياطينهم، يأمرونهم أن يئِدوا أولادهم خيفة العَيْلة.

14139-

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك في قوله:(من إملاق)، يعني: من خشية فقر.

* * *

القول في تأويل قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تقربوا الظاهرَ من الأشياء المحرّمة عليكم، (1) التي هي علانية بينكم لا تناكرون ركوبها، والباطنَ منها الذي تأتونه سرًّا في خفاء لا تجاهرون به، فإن كل ذلك حرام. (2)

* * *

وقد قيل: إنما قيل: لا تقربوا ما ظهر من الفواحش وما بطن، لأنهم كانوا يستقبحون من معاني الزنى بعضًا [دون بعض] .

وليس ما قالوا من ذلك بمدفوع، غير أن دليل الظاهر من التنزيل على النهي عن ظاهر كل فاحشة وباطنها، ولا خبر يقطع العذرَ، بأنه عنى به بعض دون جميع. وغير جائز إحالة ظاهر كتاب الله إلى باطن، إلا بحجة يجب التسليم لها.

* * *

* ذكر من قال ما ذكرنا من قول من قال: الآية خاصُّ المعنى:

14140-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،

(1) انظر تفسير ((الفواحش)) فيما سلف 8: 203، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(2)

انظر تفسير ((ظهر)) ، و ((بطن)) فيما سلف ص 72 - 75، ثم انظر الأثر رقم:9075.

ص: 218

حدثنا أسباط، عن السدي:(ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) ، أما"ما ظهر منها"، فزواني الحوانيت، وأما"ما بطن"، فما خَفِي. (1)

14141-

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:(ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) ، كان أهل الجاهلية يستسرُّون بالزنى، ويرون ذلك حلالا ما كان سرًّا. فحرّم الله السر منه والعلانية = (ما ظهر منها)، يعني: العلانية = (وما بطن)، يعني: السر. (2)

14142-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:(ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، قال: كانوا في الجاهلية لا يرون بالزنى بأسًا في السر، ويستقبحونه في العلانية، فحرَّم الله الزنى في السرّ والعلانية.

* * *

وقال آخرون في ذلك بمثل الذي قلنا فيه.

* ذكر من قال ذلك:

14143-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) ، سرَّها وعلانيتها.

14144-

حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، نحوه.

* * *

وقال آخرون:"ما ظهر"، نكاح الأمهات وحلائل الآباء ="وما بطن"، الزنى.

* ذكر من قال ذلك:

(1)((زواني الحوانيت)) ، كانت البغايا تتخذ حانوتًا عليه راية، إعلامًا بأنها بغى. وانظر الأثر السالف رقم:13801.

(2)

الأثر: 14141 - مضى هذا الخبر برقم: 13802.

ص: 219

14145-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن خصيف، عن مجاهد:(ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، قال:"ما ظهر"، جمعٌ بين الأختين، وتزويج الرجل امرأة أبيه من بعده ="وما بطن"، الزنى. (1)

* * *

وقال آخرون في ذلك بما:-

14146-

حدثني إسحاق بن زياد العطار النصري قال، حدثنا محمد بن إسحاق البلخي قال، حدثنا تميم بن شاكر الباهلي، عن عيسى بن أبي حفصة قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:(ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)، قال:"ما ظهر"، الخمر ="وما بطن"، الزنى. (2)

* * *

القول في تأويل قوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا) ، (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) ، يعني بالنفس التي حرم الله قتلها، نفسَ مؤمن أو مُعاهد = وقوله:(إلا بالحق)، يعني بما أباح قتلها به: من أن تقتل نفسًا فتقتل قَوَدًا بها، أو تزني وهي محصنة فترجم،

(1) الأثر: 14145 - مضى برقم: 13803.

(2)

الأثر: 14146 - ((إسحاق بن زياد العطار النصري)) ، لم أجد له ترجمة، وفي المطبوعة ((البصري)) ، وأثبت ما في المخطوطة.

و ((محمد بن إسحاق البلخي الجوهري)) ، لم أجد له غير ترجمة في ابن أبي حاتم 3 / 2 / 195، قال:((روى عن مطرف بن مازن، وأبي أمية بن يعلي، وقيراط الحجام، ومحمد بن حرب الأبرش، وعيسى بن يونس. كتب عنه أبي بالري)) .

وأما ((تميم بن شاكر الباهلي)) و ((عيسى بن أبي حفصة)) ، فلم أعثر لهما على ترجمة ولا ذكر.

ص: 220

أو ترتدَّ عن دينها الحقِّ فتقتل. فذلك"الحق" الذي أباح الله جل ثناؤه قتل النفس التي حرم على المؤمنين قتلها به = (ذلكم) ، يعني هذه الأمور التي عهد إلينا فيها ربُّنا أن لا نأتيه وأن لا ندعه، هي الأمور التي وصَّانا والكافرين بها أن نعمل جميعًا به = (لعلكم تعقلون)، يقول: وصاكم بذلك لتعقلوا ما وصاكم به ربكم. (1)

* * *

(1) انظر تفسير ((وصى)) فيما سلف ص: 189، تعليق: 1، والمراجع هناك.

ص: 221

القول في تأويل قوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) ، ولا تقربوا ماله إلا بما فيه صلاحه وتثميره، كما:-

14147-

حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد:(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن)، قال: التجارة فيه.

14148-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) ، فليثمر مالَه.

14149-

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا فضيل بن مرزوق العنزي، عن سليط بن بلال، عن الضحاك بن مزاحم في قوله:(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن)، قال: يبتغي له فيه، ولا يأخذ من ربحه شيئًا. (1)

(1) الأثر: 14149 - ((فضيل بن مرزوق العنزي)) ، الرقاشي، الأغر. مضى برقم:5437. و ((سليط بن بلال)) ، لا أدري من هو، ولم أجد له ترجمة.

ص: 221

14150-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن)، قال:"التي هي أحسن"، أن يأكل بالمعروف إن افتقر، وإن استغنى فلا يأكل. قال الله:(وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)، [سورة النساء: 6] . قال: وسئل عن الكسوة، فقال: لم يذكر الله الكسوة، إنما ذكر الأكل.

* * *

وأما قوله: (حتى يبلغ أشده) ، فإن"الأشُدّ" جمع"شَدٍّ"، كما"الأضُرّ" جمع"ضر"، وكما"الأشُرّ" جمع"شر"، (1) و"الشد" القوة، وهو استحكام قوة شبابه وسنه، كما"شَدُّ النهار" ارتفاعه وامتداده. يقال:"أتيته شدَّ النهار ومدَّ النهار"، وذلك حين امتداده وارتفاعه; وكان المفضل فيما بلغني ينشد بيت عنترة:

عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارِ كَأَنَّمَا

خُضِبَ اللَّبَانُ وَرَأْسُهُ بِالْعِظْلِمِ (2)

ومنه قول الآخر: (3)

تُطِيفُ بِهِ شَدَّ النَّهَارِ ظَعِينَةٌ

طَوِيلَةُ أَنْقَاءِ اليَدَيْنِ سَحُوقُ (4)

(1) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: ((الأضر)) و ((الأشر)) ، ولم أجد لشيء من ذلك أصلا في كتب العربية، وهذان اللفظان محرفان فيما أرجح، ولكني تركتهما على حالهما، حتى أقف على الصواب في قراءتهما إن شاء الله. ولكنهم مثلوا له بقولهم ((قد)) و ((أقد)) وهو قريب التحريف في الأولى، ولكن الثانية مبهمة.

(2)

من معلقته المشهورة، وهذا البيت من أبيات وصف فيها بطلا مثله، يقول قبله: لَمَّا رَآنِي قَدْ قَصَدْتُ أُرِيدُهُ

أَبْدَى نَوَاجِذَهُ لِغَيْرِ تَبَسُّمِ

فَطَعَنْتُهُ بِالرُّمْحِ ثُمَّ عَلَوْتُهُ

بِمُهَنَّدٍ صَافِي الحَدِيدَةِ مِخْذَمِ

و ((اللبان)) الصدر. و ((العظلم)) ، صبغ أحمر. يصفه قتيلا سال دمه، فخصب رأسه وأطرافه، لا حراك به.

(3)

لم أعرف قائله.

(4)

((الظعينة)) ، يعني زوجته. ((الأنقاء)) جمع ((نقو)) (بكسر فسكون) ، وهو كل عظم فيه مخ، كعظام اليدين والساقين، وامرأة ((سحوق)) : طويلة كأنها نخلة مستوية قد انجرد عنها كربها.

ص: 222

وكان بعض البصريين يزعم أن"الأشد" مثل"الآنُك". (1)

* * *

فأما أهل التأويل، فإنهم مختلفون في الحين الذي إذا بلغه الإنسان قيل:"بلغ أشدّه".

فقال بعضهم: يقال ذلك له إذا بلغ الحُلُم.

* ذكر من قال ذلك:

14151-

حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا عمي قال، أخبرني يحيى بن أيوب، عن عمرو بن الحارث، عن ربيعة في قوله:(حتى يبلغ أشده)، قال: الحلم.

14152-

حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا عمي قال، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، مثله = قال ابن وهب: وقال لي مالك مثله. (2)

14153-

حدثت عن الحماني قال، حدثنا هشيم، عن مجاهد، عن عامر:(حتى يبلغ أشده)، قال:"الأشد"، الحلم، حيث تكتب له الحسنات، وتكتب عليه السيئات.

* * *

وقال آخرون: إنما يقال ذلك له، إذا بلغ ثلاثين سنة.

* ذكر من قال ذلك:

14154-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(حتى يبلغ أشده)، قال: أما"أشده"، فثلاثون

(1)((آنك)) (بالمد وضم النون) هو. الرصاص القلعي، وهو القزدير. ويعني أنه مفرد لا جمع.

(2)

الأثران: 14151، 14152 - ((أحمد بن عبد الرحمن بن وهب المصري)) ، مضى برقم: 2747، 6613، 10330، وهو ابن أخي ((عبد الله بن وهب)) و ((عمه)) ، هو:((عبد الله بن وهب)) .

ص: 223

سنة، ثم جاء بعدها:(حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ) . [سورة النساء: 6] .

* * *

وفي الكلام محذوف، ترك ذكره اكتفاءً بدلالة ما ظهر عما حذف. وذلك أن معنى الكلام:"ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده"، فإذا بلغ أشده فآنستم منه رشدًا، فادفعوا إليه ماله = لأنه جل ثناؤه لم ينه أن يُقرب مال اليتيم في حال يُتمه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، ليحِلَّ لوليّه بعد بلوغه أشده أن يقربه بالتي هي أسوأ، (1) ولكنه نهاهم أن يقرَبوه حياطةً منه له، وحفظًا عليه، (2) ليسلموه إليه إذا بلغ أشده.

* * *

القول في تأويل قوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره:"قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا" = وأن أوفوا الكيل والميزان. يقول: لا تبخسوا الناس الكيلَ إذا كلتموهم، والوزنَ إذا وزنتموهم، ولكن أوفوهم حقوقهم. وإيفاؤهم ذلك، إعطاؤهم حقوقهم تامة (3) ="بالقسط"، يعني بالعدل، كما:-

14155-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(بالقسط) ، بالعدل.

* * *

وقد بينا معنى:"القسط" بشواهده فيما مضى، وكرهنا إعادته. (4)

* * *

(1) في المطبوعة: ((ويحل)) بالواو، والذي في المخطوطة حق السياق.

(2)

في المطبوعة: ((أن يقربوا)) ، والصواب ما في المخطوطة.

(3)

انظر تفسير ((الإيفاء)) فيما سلف 9: 426، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(4)

انظر تفسير ((القسط)) فيما سلف 10: 334، تعليق: 4، والمراجع هناك.

ص: 224

وأما قوله: (لا نكلف نفسًا إلا وسعها)، فإنه يقول: لا نكلف نفسًا، من إيفاء الكيل والوزن، إلا ما يسعها فيحلّ لها ولا تحرَجُ فيه. (1) وذلك أن الله جل ثناؤه، علم من عباده أن كثيرًا منهم تَضيق نفسه عن أن تطيب لغيره بما لا يجبُ عليها له، فأمر المعطي بإيفاء رب الحق حقَّه الذي هو له، ولم يكلِّفه الزيادة، لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها. وأمر الذي له الحق، بأخذ حقه، ولم يكلفه الرضا بأقل منه، لما في النقصان عنه من ضيق نفسه. فلم يكلف نفسًا منهما إلا ما لا حرج فيه ولا ضيق، فلذلك قال:(لا نكلف نفسًا إلا وسعها) .

وقد استقصينا بيان ذلك بشواهده في موضع غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته. (2)

* * *

القول في تأويل قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (وإذا قلتم فاعدلوا) ، وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم فقولوا الحق بينهم، واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا، (3) ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم، ذا قرابة لكم، ولا تحملنكم قرابة قريب أو صداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره، أن تقولوا غير الحق فيما احتكم إليكم فيه = (وبعهد الله أوفوا)، يقول: وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك: أن

(1) انظر تفسير ((التكليف)) فيما سلف 5: 45 / 6: 129، 130 / 8:579.

= وتفسير ((الوسع)) فيما سلف 5: 45 /6: 129، 130.

(2)

انظر ما سلف 5: 45، 46 / 6: 129، 130.

(3)

انظر تفسير ((العدل)) فيما سلف من فهارس اللغة (عدل) .

ص: 225

يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم، وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك هو الوفاء بعهد الله. (1)

وأما قوله: (ذلكم وصاكم به)، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل للعادلين بالله الأوثان والأصنام من قومك: هذه الأمور التي ذكرت لكم في هاتين الآيتين، هي الأشياء التي عهد إلينا ربنا، ووصاكم بها ربكم، وأمركم بالعمل بها = لا بالبحائر، والسوائب، والوصائل، والحام، وقتل الأولاد، ووأد البنات، واتباع خطوات الشيطان (2) = (لعلكم تذكرون)، يقول: أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الآيتين، ووصاكم بها وعهد إليكم فيها، لتتذكروا عواقبَ أمركم، وخطأ ما أنتم عليه مقيمون، فتنزجروا عنها، وترتدعوا وتُنيبوا إلى طاعة ربكم.

* * *

وكان ابن عباس يقول: هذه الآيات، هنَّ الآيات المحكمات.

14156-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن صالح، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن قيس، عن ابن عباس قال: هن الآيات المحكمات، قوله:(قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا) . (3)

(1) انظر تفسير ((العهد)) فيما سلف من فهارس اللغة (عهد) .

= وتفسير ((الإيفاء)) فيما سلف ص: 224، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(2)

انظر تفسير ((وصى)) فيما ص: 221، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(3)

الأثر: 14156 - ((على بن صالح بن صالح بن حي الهمداني)) ثقة، مضى برقم: 178، 11975.

وفي المخطوطة والمطبوعة: ((علي بن أبي صالح)) ، وهو خطأ لا شك فيه، والزيادة سهو من الناسخ، وإنما هو ((علي بن صالح)) ، فهو الذي يروي عن إسحاق السبيعي، ويروي عنه وكيع، وكما في المستدرك، كما سيأتي في التخريج.

و ((أبو إسحاق)) هو السبيعي.

و ((عبد الله بن قيس)) ، راوى هذا الخبر، خص براوية هذا الخبر عن ابن عباس، ورواية أبي إسحاق السبيعي عنه. مترجم في التهذيب (5: 365) ، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 138.

وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 288، وقال:((صحيح)) ، ووافقه الذهبي. وقد أشرت إلى ذلك في تخريج الخبر رقم: 6573، فراجعه.

ورواه الحاكم أيضًا في المستدرك 2: 317، بإسناد آخر من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن ابن عباس، وقال:((هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)) ، ووافقه الذهبي.

و ((عبد الله بن خليفة الهمداني)) ، مضى برقم:5796.

ص: 226

14157-

حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا أبي قال، سمعت يحيى بن أيوب يحدّث، عن يزيد بن أبى حبيب، عن مرثد بن عبد الله، عن عبيد الله بن عديّ بن الخيار قال، سمع كعب الأحبار رجلا يقرأ:(قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم)، فقال: والذي نفس كعب بيده، إنّ هذا لأوَّل شيء في التوراة:"بسم الله الرحمن الرحيم"، قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم". (1)

14158-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن سعيد بن مسروق، عن رجل، عن الربيع بن خثيم أنه قال لرجل: هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد؟ ثم قرأ هؤلاء الآيات: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا) .

14159-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق الرازي، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة قال: قال الربيع: ألا أقرأ عليكم صحيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ = لم يقل:"خاتمها" = فقرأ هذه الآيات: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) .

(1) الأثر: 14157 - ((وهب بن جرير بن حازم الأزدي)) ، الحافظ الثقة.

وأبو ((جرير بن حازم الأزدي)) ، ثقة، روى له الجماعة.

و ((يحيى بن أيوب الغافقي)) ، ثقة، مضى برقم: 3877، 4330.

و ((يزيد بن أبي حبيب المصري)) ، مضى مرارًا، آخرها:11871.

و ((مرثد بن عبد الله اليزني)) ، الفقيه المصري، مضى برقم: 2839، 2840، 10890.

و ((عبيد الله بن عدي بن الخيار النوفلي القرشي)) ثقة، قليل الحديث، من فقهاء قريش وعلمائهم، أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرين. مترجم في التهذيب.

وهذا خبر إسناده صحيح إلى كعب الأحبار.

ص: 227