الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
14160-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: جاء إليه نفر فقالوا: قد جالست أصحابَ محمد، فحدثنا عن الوَحي. فقرأ عليهم هذه الآيات من"الأنعام":(قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا)، قالوا: ليس عن هذا نسألك! قال: فما عندنا وحيٌ غيره.
14161-
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هؤلاء الآيات التي أوصى بها من محكم القرآن.
14162-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:(وإذا قلتم فاعدلوا)، قال: قولوا الحق.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
(153) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهذا الذي وصاكم به ربكم، أيها الناس، في هاتين الآيتين من قوله:(قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) ، وأمركم بالوفاء به، هو"صراطه" = يعني: طريقه ودينه الذي ارتضاه لعباده = (مستقيمًا)، يعني: قويمًا لا اعوجاج به عن الحق (1) = (فاتبعوه)، يقول: فاعملوا به، واجعلوه لأنفسكم منهاجًا تسلكونه، فاتبعوه (2) = (ولا تتبعوا السبل)، يقول: ولا تسلكوا طريقًا سواه، ولا تركبوا منهجًا غيره، ولا تبغوا دينًا خلافه (3) ، من
(1) انظر تفسير ((الصراط المستقيم)) فيما سلف ص: 113، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2)
انظر تفسير ((الاتباع)) فيما سلف من فهارس اللغة (تبع) .
(3)
في المخطوطة: ((دينا خلاه)) ، وعلى ((خلاه)) ، حرف (ط) دلالة على الخطأ أو الشك، والذي في المخطوطة مستقيم جيد.
اليهودية والنصرانية والمجوسية وعبادة الأوثان، وغير ذلك من الملل، فإنها بدع وضلالات = (فتفرق بكم عن سبيله)، يقول: فيشتّت بكم، إن اتبعتم السبل المحدثة التي ليست لله بسبل ولا طرق ولا أديان، اتباعُكم إياها ="عن سبيله"، يعني: عن طريقه ودينه الذي شرعه لكم وارتضاه، وهو الإسلام الذي وصّى به الأنبياء، وأمر به الأمم قبلكم (1) = (ذلكم وصاكم به)، يقول تعالى ذكره: هذا الذي وصاكم به ربكم من قوله لكم:"إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل"، وصاكم به"لعلكم تتقون"، يقول: لتتقوا الله في أنفسكم فلا تهلكوها، وتحذروا ربكم فيها فلا تسخطوه عليها، فيحل بكم نقمته وعذابه. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
14163-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:(ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)، قال: البدع والشبهات.
14164-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
14165-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(ولا تتبعوا السبل) ، البدع والشبهات.
14166-
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (فاتبعوه ولا تتبعوا السبل
(1) انظر تفسير ((السبيل)) فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .
(2)
انظر تفسير ((الوصية)) و ((الاتقاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (وصى) و (وقي) .
فتفرق بكم عن سبيله) ، وقوله:(وَأَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)[سورة الشورى: 13]، ونحو هذا في القرآن. قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك مَنْ كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.
14167-
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:(ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)، يقول: لا تتبعوا الضلالات.
14168-
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا حماد، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا خطًّا فقال: هذا سبيل الله. ثم خط عن يمين ذلك الخطّ وعن شماله خطوطًا فقال: هذه سُبُل، على كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إليها. ثم قرأ هذه الآية:(وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) . (1)
14169-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:(وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)، قال:"سبيله"، الإسلام، و"صراطه"، الإسلام. نهاهم أن يتبعوا السبل سواه = (فتفرق بكم عن سبيله) ، عن الإسلام.
14170-
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبان: أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفُه في الجنة، وعن يمينه جوادُّ، وعن يساره جَوَادُّ، وثمَّ رجال يدعون من مرّ بهم. فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت به
(1) الأثر: 14168 - صحيح الإسناد، رواه أحمد في المسند رقم: 4142، 4437، بنحوه. وقد فصل ابن كثير في تفسيره شرح هذا الإسناد، وما فيه من اختلاف الرواية 3: 427 - 429. وسيأتي برقم: 14170، موقوفًا على ابن مسعود.
إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود:(وأن هذا صراطي مستقيمًا) ، الآية.
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله: (وأن هذا صراطي مستقيمًا) .
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (وَأَنَّ) بفتح"الألف" من"أن"، وتشديد"النون"، ردًّا على قوله:(أن لا تشركوا به شيئًا)، بمعنى:"قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا"،"وأن هذا صراطي مستقيمًا".
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين:"وَإِنَّ" بكسر"الألف" من"أن"، وتشديد"النون" منها، على الابتداء وانقطاعها عن الأول، إذ كان الكلام قد انتهى بالخبر عن الوصية التي أوصى الله بها عباده دونه، عندهم. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار وعوامّ المسلمين، (2) صحيح معنياهما، فبأيِّ القراءتين قرأ القارئ فهو مصيبٌ الحقَّ في قراءته.
وذلك أن الله تعالى ذكره قد أمر باتباع سبيله، كما أمر عباده الأنبياء. (3) وإن أدخل ذلك مُدْخِلٌ فيما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين:(تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) ، وما أمركم به، ففتح على ذلك"أن"،
(1) يعني بقوله: ((دونه عندهم)) ، دون النبي صلى الله عليه وسلم، عند من قرأ ذلك كذلك، كما سيظهر ذلك من الآتي بعد، انظر التعليق رقم:3.
(2)
((عوام المسلمين)) يعني: عامة المسلمين، لا يعني ((العوام)) كما استعملت بمعنى: الذين لم يتعلموا العلم.
(3)
في المطبوعة: ((عباده بالأشياء)) ، وهو كلام ساقط، لم يحسن قراءة المخطوطة فغير وزاد. وفي المخطوطة:((عباده الأساء)) ، والصواب قراءتها ما أثبت. ويعني أن هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء.
فمصيب = وإن كسرها، إذ كانت"التلاوة" قولا وإن كان بغير لفظ"القول" لبعدها من قوله:"أتل"، وهو يريد إعمال ذلك فيه، فمصيبٌ = وإن كسرها بمعنى ابتداء وانقطاع عن الأول و"التلاوة"، وأن ما أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بتلاوته على من أُمِر بتلاوة ذلك عليهم قد انتهى دون ذلك، فمصيب.
* * *
وقد قرأ ذلك عبد الله بن أبي إسحاق البصري:"وَأنْ" بفتح الألف من"أن" وتخفيف النون منها، بمعنى:"قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئًا"،"وأنْ هذا صراطي"، فخففها، إذ كانت"أن" في قوله:(أن لا تشركوا به شيئًا) ، مخففة، وكانت"أن" في قوله:(وأن هذا صراطي) ، معطوفة عليها، فجعلها نظيرةَ ما عطفت عليه.
وذلك وإن كان مذهبًا، فلا أحب القراءة به، لشذوذها عن قراءة قرأة الأمصار، وخلاف ما هم عليه في أمصارهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ثم آتينا موسى الكتاب)، ثم قل بعد ذلك يا محمد: آتى ربك موسى الكتابَ = فترك ذكر"قل"، إذ كان قد تقدم في أول القصّة ما يدلّ على أنه مرادٌ فيها، وذلك قوله:(1)(قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) ، فقصَّ ما حرم عليهم وأحلّ، ثم قال: ثم قل: "آتينا موسى"، فحذف"قل" لدلالة قوله:"قل" عليه، وأنه مراد في الكلام.
(1) في المطبوعة والمخطوطة: ((ذلك قوله)) بغير واو، والسياق يقتضي إثباتها.
وإنما قلنا: ذلك مرادٌ في الكلام، لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا شك أنه بُعث بعد موسى بدهر طويل، وأنه إنما أمر بتلاوة هذه الآيات على مَنْ أمر بتلاوتها عليه بعد مبعثه. ومعلوم أن موسى أوتي الكتاب من قبل أمر الله محمدًا بتلاوة هذه الآيات على مَنْ أمر بتلاوتها عليه. و"ثم" في كلام العرب حرف يدلّ على أن ما بعده من الكلام والخبر، بعد الذي قبلها.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (تمامًا على الذي أحسن)، فقال بعضهم: معناه: تمامًا على المحسنين.
* ذكر من قال ذلك:
14171-
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(تمامًا على الذي أحسن)، قال: على المؤمنين.
14172-
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(تمامًا على الذي أحسن) ، المؤمنين والمحسنين.
* * *
= وكأنّ مجاهدًا وجّه تأويل الكلام ومعناه إلى أن الله جل ثناؤه أخبر عن موسى أنه آتاه الكتاب فضيلة على ما آتى المحسنين من عباده.
* * *
فإن قال قائل: فكيف جاز أن يقال: (على الذي أحسن) ، فيوحِّد"الذي"، والتأويل على الذين أحسنوا؟
قيل: إن العرب تفعل ذلك خاصة في"الذي" وفي"الألف واللام"، إذا أرادت به الكل والجميع، كما قال جل ثناؤه:(وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، [سورة العصر: 1،2] ، وكما قالوا:"كثر الدِّرهم فيه في أيدي الناس". (1)
(1) في المطبوعة: ((أكثر الذي هم في أيدي الناس)) ، وهو كلام غث لا معنى له، زاد ((فيه)) على ما كان في المخطوطة. وكان فيها:((أكثر الدرهم في أيدي الناس)) ، وصواب قراءتها ما أثبت، أو:((ما أكثر الدرهم في أيدي الناس)) .
وقد سلف هذا البحث فيما مضى، وفيه نحو هذا الشاهد 4: 263، 270 / 6:125.
وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود: أنه كان يقرأ ذلك:" تمامًا عَلَى الَّذِينَ أَحْسَنُوا"، وذلك من قراءته كذلك، يؤيد قول مجاهد.
وإذا كان المعنى كذلك، كان قوله:"أحسن"، فعلا ماضيًا، فيكون نصبه لذلك.
* * *
وقد يجوز أن يكون"أحسن" في موضع خفض، غير أنه نصب إذ كان"أفعل"، و"أفعل"، لا يجري في كلامها. (1)
فإن قيل: فبأيِّ شيء خفض؟
قيل: ردًّا على"الذي"، إذ لم يظهر له ما يرفعه = فيكون تأويل الكلام حينئذ: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي هو أحسن، ثم حذف"هو"، وجاور"أحسن""الذي"، فعرِّب بتعريبه، (2) إذ كان كالمعرفة من أجل أن"الألف واللام" لا يدخلانه،"والذي" مثله، كما تقول العرب:"مررت بالذي خيرٍ منك، وشرٍّ منك"، (3) كما قال الراجز:(4)
إِنَّ الزُّبَيْرِيَّ الَّذِي مِثْلَ الحَلَمْ
…
مَسَّى بِأَسْلابِكُمُ أَهْلَ الْعَلَمْ (5)
(1) الإجراء: الصرف.
(2)
في المطبوعة: ((فعرف بتعريفه)) ، وهو كلام لا معنى له، لم يحسن قراءة المخطوطة، إذ كانت غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. و ((التعريب)) ، هو ((الإعراب)) .
(3)
انظر معاني القرآن للفراء 1: 365، وفيها خطأ ظاهر، لأنه كتب هناك:((مررت بالذي هو خير منك، وشر منك)) ، فزادوا ((هو)) ، والصواب حذفها، فلتصحح هناك.
(4)
لم أعرفه.
(5)
معاني القرآن للفراء 1: 365، وروايته كما في مطبوعة المعاني: مَشَّى بِأَسْلابِكَ فِي أَهْلِ الَعَلَمْ
كأنه يعني أنه سلبه ثيابه ولبسهما، وهو يمشي بها في الناس. ((ومشى)) بتشديد الشين. يقال:((مشى)) و ((تمشي)) و ((مشى)) بمعنى واحد.
وأما رواية أبي جعفر، فهي بالسين لا بالشين، لا شك في ذلك، كأنه يقول: صبحه بالغارة، ثم أمسى بما سلبه عند ((أهل العلم)) ، وهو موضع. و ((العلم)) ، الجبل. و ((الحلم)) (بفتحتين) : القراد الصغير، يصف هذا الزبيرى الذي سلبه ثيابه وأمواله، بأنه قميء قصير.
فأتبع"مثل""الذي"، في الإعراب. ومن قال ذلك، لم يقل: مررت"بالذي عالمٍ"، لأن"عالمًا" نكرة،"والذي" معرفة، ولا تتبع نكرة معرفة. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: تمامًا على الذي أحسن"، موسى، فيما امتحنه الله به في الدنيا من أمره ونهيه.
* ذكر من قال ذلك:
14173-
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:(ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذين أحسن) ، فيما أعطاه الله.
14174-
حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:(ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن)، قال: من أحسن في الدنيا، تمم الله له ذلك في الآخرة.
14175-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة قوله:(ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن)، يقول: من أحسن في الدنيا، تمت عليه كرامة الله في الآخرة.
* * *
وعلى هذا التأويل الذي تأوّله الربيع، يكون"أحسن"، نصبًا، لأنه فعل ماض، و"الذي" بمعنى"ما" = وكأنّ الكلام حينئذ: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على ما أحسن موسى = أي: آتيناه الكتاب لأتمم له كرامتي في الآخرة، تمامًا على إحسانه في الدنيا في عبادة الله والقيام بما كلفه به من طاعته.
* * *
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 365.
وقال آخرون في ذلك: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على إحسان الله إلى أنبيائه وأياديه عندهم.
* ذكر من قال ذلك:
14176-
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:(ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن)، قال: تمامًا من الله وإحسانه الذي أحسن إليهم وهداهم للإسلام، وآتاهم ذلك الكتاب تمامًا، لنعمته عليه وإحسانه.
* * *
"وأحسن" على هذا التأويل أيضًا، في موضع نصب، على أنه فعل ماض،"والذي" على هذا القول والقول الذي قاله الربيع، بمعنى:"ما".
* * *
وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك:"تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ" رفعًا= بتأويل: على الذي هو أحسن.
14177-
حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا الحجاج، عن هارون، عن أبي عمرو بن العلاء، عن يحيى بن يعمر.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، وإن كان لها في العربية وجه صحيح، لخلافها ما عليه الحجة مجمعة من قرأة الأمصار.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: معناه: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا لنعمنا عنده، على الذي أحسن موسى في قيامه بأمرنا ونهينا = لأن ذلك أظهرُ معانيه في الكلام، وأن إيتاء موسى كتابه نعمةٌ من الله عليه ومنة عظيمة. فأخبر جل ثناؤه أنه أنعم بذلك عليه لما سلف له من صالح عمل وحُسن طاعة.
* * *
ولو كان التأويل على ما قاله ابن زيد، كان الكلام: ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسنّا = أو: ثم آتى الله موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن.
وفي وصفه جل ثناؤه نفسه بإيتائه الكتاب، ثم صرفه الخبر بقوله:"أحسن"، إلى غير المخبر عن نفسه بقرب ما بين الخبرين = الدليلُ الواضح على أن القول غير القول الذي قاله ابن زيد.
* * *
وأما ما ذكر عن مجاهد من توجيهه"الذي" إلى معنى الجميع، فلا دليل في الكلام يدل على صحة ما قال من ذلك. بل ظاهر الكلام بالذي اخترنا من القول أشبه. وإذا تنوزع في تأويل الكلام، كان أولى معانيه به أغلبُه على الظاهر، إلا أن يكون من العقل أو الخبر دليلٌ واضح على أنه معنيٌّ به غير ذلك.
* * *
وأما قوله: (وتفصيلا لكل شيء)، فإنه يعني: وتبيينًا لكل شيء من أمر الدين الذي أمروا به. (1)
* * *
= فتأويل الكلام إذًا: ثم آتينا موسى التوراة تمامًا لنعمنا عنده وأيادينا قِبَله، تتم به كرامتنا عليه على إحسانه وطاعته ربَّه وقيامه بما كلّفه من شرائع دينه، وتبيينًا لكل ما بقومه وأتباعه إليه الحاجة من أمر دينهم، (2) كما:-
14178-
حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(وتفصيلا لكل شيء) ، فيه حلاله وحرامه.
* * *
(1) انظر تفسير ((التفصيل)) فيما سلف 113، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2)
في المطبوعة: ((ما لقومه)) باللام، لم يحسن قراءة المخطوطة.
القول في تأويل قوله: {وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: آتينا موسى الكتاب تمامًا وتفصيلا لكل شيء = (وهدى) ، يعني بقوله"وهدى"، تقويمًا لهم على الطريق المستقيم، وبيانًا لهم سُبُل الرشاد لئلا يضلوا = (ورحمة)، يقول: ورحمة منا بهم ورأفة، لننجيهم من الضلالة وَعمى الحيرة. (1)
وأما قوله: (لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون)، فإنه يعني: إيتائي موسى الكتاب تمامًا لكرامة الله موسى، على إحسان موسى، وتفصيلا لشرائع دينه، وهدًى لمن اتبعه، ورحمة لمن كان منهم ضالا لينجيه الله به من الضلالة، وليؤمن بلقاء ربه إذا سمع مواعظ الله التي وعظ بها خلقه فيه، فيرتدع عما هو عليه مقيمٌ من الكفر به، وبلقائه بعد مماته، فيطيع ربه، ويصدِّق بما جاءه به نبيه موسى صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) ، وهذا القرآن الذي أنزلناه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ="كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه"، (2) يقول: فاجعلوه إمامًا تتّبعونه وتعملون بما فيه، أيها الناس (3) = (واتقوا) ،
(1) انظر تفسير ((الهدى)) و ((الرحمة)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) و (رحم) .
(2)
انظر تفسير ((مبارك)) فيما سلف 7: 25 /11: 530.
(3)
انظر تفسير ((الاتباع)) فيما سلف من فهارس اللغة (تبع) .