المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الأول من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٤

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة مريم

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة طه

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأنبياء

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحج

- ‌الربع الأول من الأول من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المؤمنون

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والثلاثسنفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النور

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والثلاثسنفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الفرقان

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)(القسم الأول من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)(القسم الأول من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)(القسم الثاني من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)(القسم الثاني من هذا الربع)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الشعراء

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النمل

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة القصص

- ‌الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌تعليق وتحقيق

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة العنكبوت

- ‌الربع الثاني من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الأول من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الأول من الحزب الثاني والثلاثين

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

في حصة هذا اليوم سنتناول الربع الأول من الحزب الثاني والثلاثين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة طه المكية:{بسم الله الرحمن الرحيم طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} إلى قوله تعالى في نفس السورة: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} .

ــ

لقد جاء مطلع هذه السورة مبدوءا بحرفين اثنين هما: الطاء والهاء، فهي من جملة السور التي اختار الله لها أن تكون مبدوءة ببعض الحروف الهجائية المقطعة، إشارة إلى أن الحروف الهجائية التي يتلى بها كتاب الله هي في متناول الناس جميعا، ولكنهم جميعا عاجزون عن أن يؤلفوا منها كتابا إلهيا معجزا {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].

وبمجرد افتتاح هذه السورة تناول كتاب الله وهو يخاطب نبيه توضيح معالم الرسالة المحمدية، فقال تعالى: {طه * مَا

ص: 57

أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى* إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى}، كما تناول في ختام هذه السورة نفسها تحديد أعباء الرسالة المحمدية ومسؤولياتها، فقال تعالى:{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} - {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} .

وقوله تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} يفيد معنى أساسيا هو إثبات أن الله تعالى عندما بعث إلى الإنسانية خاتم رسله، إنما أراد إسعاد البشر بالحنيفية السمحة. فقد بعث إليهم رسولا {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وهذا المعنى يؤكد قوله تعالى في آية ثانية:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله تعالى في آية ثالثة:{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. فلا إرهاق في أي من أوامر الله، ولا تكليف بما فوق الطاقة في أي نهي من نواهيه، بل إن شعائر الإسلام وشرائعه تدخل كلها في نطاق المقدور الميسر لجميع المكلفين نساء ورجالا، ومعنى (الشقاء) في اللغة العناء والتعب.

ويتصل بهذا المعنى بوجه من وجوه المناسبة أن كتاب الله رغما عما يتضمنه من حقائق ودقائق ورقائق تحاول البشرية أن تكشف عن مدلولاتها جيلا بعد جيل، ورغا عما اتسم به كتاب الله من إعجاز في اللفظ والمعنى والأسلوب، فقد يسره الله للذكر والفهم والاعتبار، وجعله قريبا من فطرة الناس التي فطرهم

ص: 58

عليها، مصداقا لقوله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} فلا ألغاز معميات، في آيات الله االبينات.

وقوله تعالى: {إِلَّا تَذْكِرَةً} يفيد أن الله تعالى انزل القرآن إيقاظا للغافل وتذكيرا للناسي، فقد عاهد البشر ربهم وواثقوه بميثاق الإيمان والطاعة والعبادة، وهم لا يزالون في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم، ثم نسوا ما عاهدهم الله عليه، فكان لا بد من تذكيرهم، وفاء من الله بالوعد، وذاك قبل إقامة الحجة عليهم ومؤاخذتهم على خيانة العهد.

وقوله تعالى: {لِمَنْ يَخْشَى} إشارة إلى أن أقرب الناس إلى التدبر والاعتبار، والاتعاظ والانزجار، هم أولئك الذين يراقبون الله، فيخافون سخطه ويرجون رضاه.

وقوله تعالى: {تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} يؤكد لمن لا يزال عنده شك أن هذا القرآن إنما هو تنزيل من " خالق الكون " الحكيم العليم، وما دام تنزيلا من خالق السماوات والأرض وما بينهما، فلا بدع أن يتجلى في آياته البينات علم الله المحيط، وحكته البالغة، وقدرته الباهرة، ولا غرابة في أن يكون أصدق وأجمع دستور لهداية الإنسان وسعادته، وبذلك كان أسمى كتاب عرفه الوجود، لا فرق بين الكتب الإلهية السابقة، والكتب الإنسانية السابقة واللاحقة، فالكتب الإلهية السابقة على القرآن قد أصابها التحريف والتزييف، فاختلط فيها الحابل بالنابل، والكتب الإنسانية قديمها وحديثها مليئة بالأغلاط والأخطاء، وتناقص الآراء. أما القرآن الكريم فهو الكتاب الوحيد

ص: 59

الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} ، وآياته البينات هي سجل الوحي الفريد، الذي تعهد الله بحفظه فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] إشعار بما له من منزلة سامية لا يتطاول إليها أي كتاب، وعظمة خارقة للعادة لا يفي بوصفها أي إنسان، مهما بالغ في التحليل والإطناب.

والاستواء على العرش في قوله تعالى هنا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كناية عن انفراده سبحانه وتعالى بالملك والسلطان، وهيمنته المطلقة على جميع الأكوان، فلا عرش في الحقيقة إلا عرشه، ولا ملك إلا ملكه {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} [المائدة: 120]. " والعرش " في كلام العرب مرتبط بمعنى الملك، يقولون: ثُلَّ عرش فلان إذا ذهب ملكه، وتفاديا من أن يفهم معنى الاستواء على وجه فيه تجسيم وتكييف أجاب الإمام مالك بن أنس من سأله عن الاستواء في هذه الآية فقال:" الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب ".

ومما يستلفت النظر في هذا السياق أن كتاب الله اختار فيه من بين أسماء الله الحسنى اسم (الرحمن) بالخصوص، فقال تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ولم يقل القهار أو الجبار مثلا، إشعارا للعباد بأن رحمة الله تسع كل شيء، حتى في هذا المقام، مقام العظمة والجلال، مما يجعله جلالا مقرونا بالجمال، ويفتح في وجوه المذنبين والمنحرفين باب الأمل في

ص: 60

فضل الكبير المتعال، ونفس الاختيار لاسم (الرحمن) في مثل هذا المقام نجد في قوله تعالى {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].

وقوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} تذكير للإنسان بأن قدرة الله الباهرة، وسطوته القاهرة، لا يفلت من قبضتها شيء، فما على الإنسان العاقل إلا أن يسلم وجهه لله، ويوفق بين إرادته وإرادة الله، بصفته جزءا لا يتجزأ من هذا الكون الفسيح، الذي يسير في حركاته وسكناته وفقا لمشيئة الله، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23].

وقوله تعالى: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} إشارة إلى أن الحق سبحانه وتعالى عليم بذات الصدور لا يخفى عليه منها شيء، لا فرق بين ما يعرفه الإنسان من نفسه ويكتمه عن الغير، وما لا يعرفه الإنسان من نفسه بالمرة، لأنه مغيب عنه في أعماق وجدانه وهو لا يعيه، أو مغيب عنه وراء حجب المستقبل وهو لا يدريه، والإتيان بهذه الحقيقة في هذا السياق فيه حظ للإنسان على أن يتقبل هدية الله وهدايته التي جاء بها القرآن الكريم {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} فالله تعالى أعلم بمصلحة الإنسان من الإنسان بنفسه، وأرحم به من نفسه التي بين جنبيه، وخالق الإنسان، أولى من غيره بهداية الإنسان {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ

ص: 61

وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].

وقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} إعلان لوحدانية الله المطلقة، ومن لا شريك له في خلقه، لا شريك له في ملكه، والمراد (بالأسماء الحسنى) الأسماء التي تطلق على الحق سبحانه وتعالى، إشارة إلى ذات العلية، أو صفاته الأزلية، أو أفعاله القدسية، والتسمية بها أمر توقيفي لا دليل عليه إلا الشرع، من كتاب أو سنة أو إجماع. قال أبو منصور التميمي البغدادي في كتابه (أصول الدين):" ومن سماه بالقياس صار من القياس في اياس "، وذكر أسماء الله الحسنى في هذا السياق فيه تنبيه لعباده على أن يتوسلوا إليه بهذه الأسماء، حين الابتهال والدعاء، ولا سيما في حالة الاضطرار والالتجاء، طبقا لقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180]، وقوله تعالى:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110] ويقول الرسول عليه السلام فيما رواه أبو هريرة مرفوعا: " إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة ". والغرض من هذا الحديث فيما يراه المحققون مجرد الإشارة إلى أن معاني أسماء الله الحسنى بأجمعها مجموعة في هذه الأسماء التسعة والتسعين، لا حصر الأسماء الحسنى كلها في هذا العدد، لورود الشرع بغيرها من الأسماء.

وبعد أن أوجز كتاب الله في صدر هذه السورة الحديث عن الرسالة الإلهية التي تضمنها القرآن الكريم، وبين وجوه عظمة

ص: 62

الذكر الحكيم، شرع يقص على رسوله والمؤمنين قصة موسى مع فرعون وقومه، التي هي أكثر قصص الأنبياء والمرسلين ورودا في القرآن، وذلك ابتداء من قوله تعالى في هذا الربع:{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا} إلى قوله تعالى في الربع الثالث من هذا الحزب: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} . وهكذا استغرقت قصة موسى في " سورة طه " التي نحن بصدد تفسيرها حوالي ثلاثة أرباع الحزب، حيث عرضت عرضا واسعا مفصلا، علاوة على ما سبق من حلقات هذه القصة المثيرة في سورة البقرة، وسورة المائدة، وسورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة الإسراء، وسورة الكهف، وبالإضافة إلى ما سيأتي من الإشارات إليها في السور القادمة، وعند الانتهاء من عرض هذه القصة عقب كتاب الله عليها في الربع الثالث من هذا الحزب، فقال تعالى:{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} ، إشارة إلى أن الحكمة المتوخاة من إيراد قصة موسى وغيرها من قصص الأنبياء والمرسلين هي النظر فيها للتدبر والاعتبار، وتنوير البصائر والأبصار. وسيرا في هذا الاتجاه سنقف وقفة خاصة عند كل موطن من مواطن العبرة في هذه القصة:

فقوله تعالى: {يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} إشارة إلى أن خلع النعلين تصرف مناسب للخشوع والتواضع عند مناجاة الحق سبحانه وتعالى من جهة، ومظهر من مظاهر احترام الأماكن المقدسة وتعظيمها من جهة

ص: 63

أخرى، وكذلك فعل السلف حين طافوا بالبيت فدخلوا الحرم حفاة دون نعال. قال القاضي أبو بكر (ابن العربي):" إن قلنا إن خلع النعلين كان لينال بركة التقديس فما أجدره بالصحة، فقد استحق التنزيه عن النعل، واستحق الواطئ التبرك بالمباشرة، كما لا تدخل الكعبة بنعلين، وكما كان مالك لا يركب دابة في المدينة برا بتربتها المحتوية على الجثة الكريمة ". والمراد (بالمقدس) المطهر، من القدس بمعنى الطهر.

وقوله تعالى: {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} إشارة إلى أن حسن الاستماع لكلام الله ووحيه أمر مرغوب فيه، قال وهب بن منبه:" من أدب الاستماع سكون الجوارح، وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى ". ويوجد تناسب تام بين أمر الله تعالى لموسى بالاستماع هنا وخطابه لجمهرة المؤمنين في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [لأعراف: 204]، وقد مدح الله {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} ووصفهم بقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ} .

وقوله تعالى خطابا لموسى عليه السلام: {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} يعم كافة المكلفين، ويصدق عليهم أجمعين، وهذه الآية تحتمل جملة من المعاني، باعتبار أن لفظ " الذكر " الوارد فيها إما أن يكون مصدرا مضافا إلى الضمير، أو مضافا إلى الفاعل، أو مضافا إلى ضمير المفعول، كما نبه على ذلك القاضي أبو بكر (ابن العربي)، فيكون معنى الآية أقم الصلاة لتذكرني فيها

ص: 64

عند المناجاة، وهذا هو السر في تسمية الصلاة ذكرا، كما جاء في قوله تعالى:{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} ، أو أقم الصلاة لأذكرك في ملأ خير من الملأ الذي ذكرتني فيه، أو أقم الصلاة إذا ذكرتها أو ذكرت بها، ويرتبط بهذا المعنى الأخير قوله صلى الله عليه وسلم:(من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها). أما قوله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ) الحديث، فالمراد به رفع الإثم لا رفع الفرض عنه، إذ لا بد من توفية التكليف حقه بإقامة القضاء مقام الأداء، ونقل القاضي أبو بكر (ابن العربي) معنى آخر لهذه الآية، إذ قال ما خلاصته:" قالت المتزهدة: معنى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} أقمها لمجرد ذكري، ولا تذكر فيها غيري ". ثم عقب (ابن العربي) على ذلك قائلا: " وهذا لمن قدر عليه هو الأولى، فمن لم يفعل كتب له منها بمقدار ذلك فيها ".

وقوله تعالى حكاية لدعاء موسى: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} تنبيه لكل حامل رسالة، أو قائم بدعوة، أن يلجأ إلى الله بادئ ذي بدء، ويلتمس منه العون، حتى يشرح الله صدره، فلا يتبرم بأعباء الرسالة، ولا يتضايق من متاعب الدعوة، وحتى ييسر الله أمره، فلا تقف دونه العراقيل والمعوقات، وحتى يفتح له قلوب الخلق، فيقبلون عليه وينتفعون به.

وقوله تعالى حكاية لتتمة الدعاء الذي دعا به موسى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} تنبيه على

ص: 65

أن الدعوة إلى الله ومثلها جميع المهام، التي تهدف إلى خدمة الصالح العام لا تنجح ولا تنتشر على أوسع نطاق إلا إذا وجد القائمون بها أعوانا على الخير يؤازرونهم في العمل، ويشاركونهم في المسؤولية، وبذلك تتضاعف النتائج وتزكو الثمرات.

وقوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} بشارة من الله لكل من التجأ إلى بابه الكريم، مادا إليه أكف الضراعة بصدق ويقين وإخلاص، أن يحقق له الأمل، ويعطيه ما سأل {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62].

وقوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} يستفاد منه أمران:

- الأمر الأول: أن الدعوة إلى الله ينبغي أن تكون مصحوبة بالتفاؤل والرجاء، لا بالتشاؤم واليأس، بحيث يكون الداعي قوي الثقة بالله، قوي الثقة بفعالية الدعوة وتأثيرها في النفوس، والوصول بها إلى النتيجة المرجوة.

- الأمر الثاني: أن الدعوة إلى الله ينبغي أن تكون لغتها لغة مهذبة، وأن يكون أسلوبها أسلوبا لينا، فلا فحش ولا غلطة ولا جفوة، ونفس التوجيه الذي تلقاه موسى وهارون عليهما السلام تلقاه خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليه، إذ خاطبه ربه قائلا:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. قال القرطبي: " القول اللين هو القول الذي لا خشونة فيه، وإذا كان موسى أمر

ص: 66

بأن يقول لفرعون " قولا لينا " فمن دونه أحرى بأن يقتدي بذلك في خطابه، وأمره بالمعروف في كلامه، وقد قال تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} .

وقوله تعالى: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} يتضمن وعدا من الله لكل من جند نفسه لهداية الخلق، والأخذ بيدهم إلى طريق الحق، أن يمده بمدده، ويجعل السكينة مهيمنة على روحه وجسده، فيواجه الناس دون خوف ولا وجل، ويمضي قدما إلى إنجاز ما يسر له من العمل.

وقوله تعالى ضمن ما لقنه موسى كي يخاطب به فرعون: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} يحتوي علي خير مثال يحتذى في مخاطبة الطغاة الظالمين، والعصاة الضالين. فاختيار كلمة (الرب) وكلمة (السلام) لهما أكثر من مغزى في هذا المقام، ولذلك استعمل خاتم النبيئين والمرسلين صيغة {السَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} في رسائله التي دعا بها أقطاب العالم في عصره إلى الإسلام، والتصريح في نفس الآية (بأن العذاب على من كذب وتولى) يتضمن تحذيرا غير مباشر، وهو في نفس الوقت لا يدمغ المخاطب بكونه ممن كذب وتولى فيثور ويغضب، بل على العكس من ذلك يدفعه إلى أن يستوعب الخطاب الموجه إليه بقابلية وتفتح، قال ابن عباس:" هذه الآية {أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} هي أرجى آية للموحدين، لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا ".

ص: 67

هذا مجمل ما ورد في الربع الأول لسورة طه، من مواطن العبرة البارزة في قصة موسى عليه السلام {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} . أي لذوي العقول السليمة المستقيمة، الذين يعتمد عليهم، وينتهى إلى رأيهم.

ص: 68