المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٤

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة مريم

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة طه

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأنبياء

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحج

- ‌الربع الأول من الأول من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المؤمنون

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والثلاثسنفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النور

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والثلاثسنفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الفرقان

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)(القسم الأول من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)(القسم الأول من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)(القسم الثاني من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)(القسم الثاني من هذا الربع)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الشعراء

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النمل

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة القصص

- ‌الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌تعليق وتحقيق

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة العنكبوت

- ‌الربع الثاني من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثين

بالمصحف الكريم (ت)

عباد الله

نحن الآن بصدد تفسير الربع الأخير من الحزب الثامن والثلاثين في المصحف الكريم، ونظرا لما يضمنه هذا الربع من المواقف الفريدة، والمحاورات العديدة، المتعلقة بقصة سليمان وملكة سبإ، وما تقتضيه تلك المواقف والمحاورات من تحليلات، وتوحي به ذيولها من توجيهات، فسنفرد الثمن الأول منه بحصة اليوم، وسنخصص للثمن الثاني منه حصة الغد بحول الله وقوته، وتبتدىء حصة هذا اليوم من قوله تعالى في سورة النمل المكية:{قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} وتنتهي عند قوله تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} .

ــ

لا يزال كتاب الله يواصل الحديث عن قصة سليمان، ويبرز جوانب متنوعة من شخصيته، وسياسته الحكيمة في رعيته، مما فيه عبرة للمعتبرين، من المسؤولين القدماء والمحدثين، فها هو سليمان بعدما استمع إلى الهدهد يتحداه ويقول:{أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} يجيبه بكل هدوء

ص: 423

قائلا: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} ، فلم يسرع إلى ما وعده به من العذاب أو الذبح لأول ما وجده غائبا، طبقا لما قال:{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} ، وإنما وقف عند حد ما التزم به في الأخير إذ قال:{أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} ، فالأمر مرهون في النهاية بالحجة والبرهان، لا بالسطوة والسلطان، ومراد سليمان بالنظر في صدق الهدهد أو كذبه عندما قال له:{سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} هو التأمل فيما اعتذر به الهدهد عن غيبته، وفيما أخبر به مما اكتشف في رحلته، عملا بما يجب من التحري في تلقي الأخبار، والتعرف على الأسرار، ومن هذه الآية التي حكى كتاب الله على لسان سليمان استنبط الإمام القشيري في كتابه (لطائف الإشارات)" أن خبر الواحد لا يوجب العلم، بل يجب التوقف فيه على حد التجويز، وأنه لا يطرح، بل يجب ان يتعرف هل هو صدق أم كذب، وأن الوالي يمنعه عدله من الحيف على رعيته، ويقبل عذر من وجده في صورة المجرمين إذا كان صادقا في معذرته ". ونفس الرأي أخذ به القاضي أبو بكر (ابن العربي) وتابعه عليه القرطبي في تفسيره حيث قال: " في قوله أصدقت أم كنت من الكاذبين دليل على أن الإمام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته، ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم، ولكن للإمام أن يمتحن ذلك إذا تعلق به حكم من أحكام الشريعة، وفي الصحيح: " ليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل "، وحيث أن " الهدهد هو الذي قال ما قال لزمه الخروج من عهدة ما قال "، وقد كان لما أحاط به من العلم بشأن مملكة سبأ، واقتناع

ص: 424

سليمان بصدقه في الخبر أثر بالغ في ترشيحه للسفارة عنه، ونقل كتابه إلى الملكة الجالسة على عرشها، فأصدر إليه سليمان أمره قائلا:{اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} .

ويلاحظ على سليمان أنه لم يصدع بهذا الأمر إلى الهدهد فور ما سمعه يقول: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} ، وإنما اهتز لذلك، ونطق بأمره، بعدما سمعه يقول:{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، فالأمر هنا لا يتعلق بالتوسع في الملك، والمزيد من السطوة والسلطان، بقدر ما يتعلق بنشر التوحيد وعبادة الله، بدلا من عبادة الطبيعة والأوثان، وإنما قال:{فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} بضمير الجمع بدلا من (ألقه إليها) لينسجم مع قوله قبل ذلك: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} فالكتاب موجه إليها وإلى قومها، بدليل قوله تعالى فيه حسبما يأتي:{أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} بصيغة الجمع أيضا، ومعنى قوله:{ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ} الق الكتاب وتنح عنهم، التزاما للأدب، لكن كن حريصا على استيعاب ما يدور بينهم من مراجعة في القول حول مضمون الكتاب {فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} قال أبو حيان:" وفي قوله: {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ} دليل على إرسال الرسل من الإمام إلى المشركين يبلغهم الدعوة، ويدعوهم إل الإسلام، وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وغيرهما من الملوك ".

وهنا انتقل كتاب الله إلى حكاية ما دار بين ملكة سبأ وقومها

ص: 425

حول كتاب سليمان، بعد وصول كتابه على يد سفيره الناصح الناجح {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} .

ومصداقا لقوله تعالى في سورة الأعراف: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الآية: 176]، استخرج علماؤنا رضوان الله عليهم بثاقب فكرهم من هذه القصة عدة توجيهات قرآنية، لها تأثير عميق في الحياة الإسلامية:

- أولها التزام الشورى في الشؤون العامة، وعدم الاستبداد بالبت فيها وتصريفها، ودعوة أهل الحل، والعقد للنظر فيها، وعرض ما جد من الأحداث على أنظارهم دون تحفظ ولا اختزال، وهذا التوجيه يدل عليه ما حكاه كتاب الله من قول ملكة سبأ:{قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} وقولها: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} . وقد كان مجلس الشورى على عهد ملكة سبأ مؤلفا من ثلاثمائة وثلاثة عشر عضوا، كل عضو يمثل عشرة آلاف، حسبما رواه التاريخ.

- والتوجيه الثاني تصدير الكتاب والمرسلات باسم الله

ص: 426

الرحمن الرحيم، وهو استفتاح شريف في مبناه، فريد في معناه، ثم ذكر اسم المرسل للكتاب قبل اسم المرسل إليه، وقد كان رسم المتقدمين إذا كتبوا كتابا أن يبدأوا بأنفسهم: من فلان إلى فلان، وبذلك جاءت الآثار. روى الربيع عن أنس رضي الله عنه قال:" ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه إذا كتبوا إليه كتابا بدأوا بأنفسهم ". على أن البدء باسم المكتوب إليه جائز وشائع، وقد يكون هو المناسب في بعض الأحيان، ومأخذ التوجيه الثاني هو قول ملكة سبأ:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وإنما وصفت ملكة سبأ كتاب سليمان بأنه (كتاب كريم) لأنه صيغ في لهجة مهذبة لا يشتم منها طمع في الملك، ولا رغبة في التوسع، وإنما تتضمن دعاء إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ} أي لا تتكبروا {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي مذعنين منقادين، مستعدين لمفارقة الشرك والدخول في ملة التوحيد، ووصف الكتاب بالكريم هو غاية الوصف، ألا ترى إلى قوله تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} قال الإمام القشيري: " لما عرفت قدر الكتاب وصلت باحترامها إلى بقاء ملكها، ورزق الإسلام وصحبة سليمان ".

- والتوجيه الثالث ما يجب أن تكون عليه الرعية ونوابها من نصرة الراعي، والاستعداد لبذل النفس والنفيس في حماية الأوطان والدفاع عنها كلما توقعت خطرا أو تعرضت لخطر، والالتحام التام بين الراعي والرعية، مع الاعتراف بالمنزلة السامية التي تمتاز بها الرياسة والقومية، وذلك ما يتضمنه جواب الملأ لملكة سبأ، إذ

ص: 427

{قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} ثم أضافوا قولهم: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} .

- والتوجيه الرابع ما ينبغي أن يكون عليه الراعي من حصافة الرأي وتقليب وجوه النظر، والجنوح إلى الوسائل السليمة في معالجة المشاكل السياسية، بدلا من الوسائل الحربية، وهذا المعنى هو الذي تشير إليه ملكة سبأ صراحة وضمنا، إذ {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} ، تريد بقولها أن الاشتباك في الحرب مع الغزاة ليس مضمون النتيجة، فقد تكون الغلبة لهم، والهزيمة لمن وقفوا في وجوههم، وتتعرض بلادهم بذلك للخراب والدمار، ويسلك الغزاة في معاملتهم مسلك الانتقام وأخذ الثأر، ولفظ (الملوك) في هذا السياق يعني " الملوك الغزاة " ومثلهم " الغزاة ولو كانوا غير ملوك " فالأمر يتعلق بالغزو والتغلب والاستيلاء على البلاد عنوة أولا وأخيرا، قال جار الله الزمخشري:" وقد يتعلق الساعون في الأرض بالفساد بهذه الآية، ويجعلونها حجة لأنفسهم، ومن استباح حراما فقد كفر، فإذا احتج له القرآن على وجه التحريف فقد جمع بين كفرين ".

والظاهر أن ملكة سبأ غلب على ظنها أن سليمان يطمع في ملكها ويريد مقاسمتها ثروتها، لا ان له هدفا دينيا ساميا من وراء دعوتها ودعوة قومها إلى موالاته، والدخول في زمرته، بالرغم مما تضمنه كتابه إليها صراحة في الموضوع، فوجهت له وفدا يترأسه

ص: 428

مبعوث خاص من كبار قومها، حاملا معه هدية عظيمة، وقد تنافس رواة الإسرائيليات في وصف هذه الهدية وتفصيل أنواعها، ولا يوجد لروايتهم سند إسلامي صحيح، وإلى خبر هذه الهدية يشير قولها:{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} ، إلا أن سليمان لم يقبل هديتها ورد وفدها على عقبه، لأن الهدف الديني الأسمى الذي قصده من وراء دعوتها لا تعدل به أي هدية، ولا تقبل فيه فدية، والهدية في مثله إنما هي رشوة كما قال القاضي أبو بكر (ابن العربي)، {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ} أي جاءه وفد ملكة سبأ {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} .

وحيث إن الملأ من قوم سبأ عندما عرضت عليهم ملكتهم كتاب سليمان أظهروا منتهى الاعتزاز بقوتهم وشجاعتهم، ولم يبادروا إلى الاستجابة لدعوته إذ {قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} اضطر سليمان إلى أن يرد عليهم بما هو من جنس لهجتهم، فقال لرئيس وفدهم ولمبعوثهم الخاص مؤكدا قوله بالقسم:{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} أي لا طاقة لهم بمقاومتها، لأنها جنود ملك فريد من نوعه، جمع النبوة والملك، وحيث أن ملكة سبأ ذكرت الملأ من قومها بأن الغزاة إذا دخلوا قرية " أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة "، خشية أن يقع لمملكتها، إذا اشتبكت مع سليمان في حرب، ما وقع لغيرها، ها هو سليمان ينذرها وقومها بنفس المصير إذا لم يأتوه مسلمين، فيصبح ما توقعوه أمرا واقعا، وها هو يردد نفس المعنى ونفس

ص: 429

اللفظ إذ يقول لرئيس وفدهم ومبعوثهم الخاص: {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} ومعنى ذلك أنهم يتعرضون لسلب ملكهم، والنفي من أرضهم، والعيش في ديار الغربة عيشة الصغار والهوان.

غير أن سليمان عليه السلام لم يلبث إلا قليلا حتى اوحي إليه بأن ملكة سبأ قد اقتنعت هي وقومها بأنها لا تستطيع الوقوف في وجه ملك مؤيد بالنبوة من عند الله، وأنها لا يسعها إلا المسير إلى خدمته والدخول في زمرته، فقرر أن يفاجئها عند وصولها إلى حضرته بأمر يبرز قدرة الله الواحد الأحد، الذي يدعوها إلى الإيمان به، كما يبرز لها ولقومها ما أكرمه الله به من تسخير قوى الطبيعة وطاقاتها في أقل من لمح البصر، دون جيش ولا حرب، واختار أن يكون ذلك الأمر هو نقل عرشها بالذات إلى تحت مملكته، قبل وفادتها عليه {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} ، فتبارى في تنفيد امره عفريت من الجن وعالم من الإنس، وتعهد الأول بأن يأتيه بعرشها بكل أمانة دون تبديل ولا تغيير، قبل أن يقوم من مجلسه، بينما تعهد الثاني بأن يأتيه بعرشها في طرفة عين، وكان المؤهل الأكبر المرشح للقيام بهذه المهمة الخطيرة في نظر العفريت هو ما يتمتع به الجن من القوة، بصفته أقوى الجميع، بينما كان المؤهل الأعظم للقيام بها في نظر العالم من الإنس وهو صاحب سليمان ما يتوفر عليه من علم الكتاب، الذي هو " علم إلهي المصدر " تتضاءل دونه " القوة " المجردة من العلم، ولا سيما إذا كان قبسا من

ص: 430

العلم الإلهي المحيط، ففاز علم الثاني على قوة الأول في المباراة، وذلك شأن العلم في كل حين، وعن هذه المباراة وما دار فيها من حوار مع سليمان يتحدث كتاب الله إذ يقول:{قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} وشاء الله ان تكون هذه الكرامة المنبثقة عن علم الكتاب، التي ظهرت على يد صاحب سليمان، إشراقة إلهية، سابقة على ما كشف عنه لخلقه في هذا الزمان، من علم أسرار الجو والطيران.

ولعل البعض يستغرب ويتساءل كيف تحقق هذا الأمر على يد " صاحب سليمان " وهو مجرد تابع، ولم يتحقق على يد سليمان نفسه وهو النبي المتبوع الذي قال الله في حقه وحق والده:{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} وقال في كتابه على لسان سليمان: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} لكن من تذكر ما واجه به الهدهد وهو مجرد طير من الطيور سليمان عليه السلام عندما قال له فيما حكاه كتاب الله سابقا: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} لا يستغرب من هذا الأمر شيئا، فالله تعالى هو الذي أحاط بكل شيء علما، على أن مثل هذا السؤال قد سبق إلى وضعه أحد علماء التصوف الكبار وهو محمد بن علي الترمذي الحكيم ضمن الأسئلة التي وضعها لتمحيص المدعين في طريق القوم من غيرهم واختيارهم ومجموعها مائة وخمسة وخمسون سؤالا تصدى للجواب عنها جميعا (ابن عربي)

ص: 431

الحاتمي في فتوحاته المكية، وخلاصة جوابه عن هذا السؤال ما معناه: أن العلم بهذا الأمر لم يطو عن سليمان، وإنما طوي عنه الإذن في التصرف به، تنزيها لمقامه، كما أن ظهور هذا الأمر على يد " صاحب سليمان " كان أتم في حق سليمان، ما دام هذا الصاحب تابعا له، مصدقا بنبوته، قائما في الخدمة بين يديه تحت أمره ونهيه، وكل من رأى بركة هذا الرسول التي عادت على صاحبه - سواء أكان من أتباعه الأولين، أو من الوافدين عليه من مملكة سبأ - سيزداد رغبة في متابعته والتعلق به والدخول في دينه، حتى ينال ما ناله هذا التابع، إذ متى كان أمر التابع بهذه المثابة كان امر المتبوع فوق كل تقدير. وواضح ان كرامة الولي متى ثبتت ولايته تكون ملتحقة بمعجزة النبي، إذ لو لم يكن النبي صادقا في نبوته، لم تكن الكرامة تظهر على يد الخواص من أمته، إلى مثل هذا المعنى ينظر قول الشاعر:

والمرء في ميزانه أتباعه

فاقدر إذن قدر النبي محمد

والآن وقد حقق الله لسليمان على يد صاحبه تلك الأمنية الغالية، وأصبح وصول ملكة سبأ إلى بلاطه قاب قوسين أو أدنى، وتم إعداد المفاجأة الكبرى لها بحضور عرشها بين يديه، قبل أن تقدم هي عليه، لترى رأي العين أن ملك سليمان مؤيد من الله بمعارف وأسرار، لا تقف دونها الحصون والأسوار، ها هو يشكر الله تعالى على ما أحاطه به من مظاهر العناية الإلهية، وها هو كتاب الله يصف مشاعره الدفينة، في أبهى حلة وأجمل زينة، إذ يقول: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي

ص: 432

لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}، لكنه سلك مسلك الأدب مع الله، فقابل نعمته بالشكر على الامتنان، لا بالاستعلاء والطغيان، فنجح في الامتحان، وفاز في الرهان، {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} .

ص: 433