الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق وتحقيق
حول الرجل الذي لقيه موسى
وبقي اسمه " مبهما " في طي الكتمان
من دون أن يكشف عنه القرآن.
ــ
والآن وبعد أن فرغنا من تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بهجرة موسى من مصر وحلوله بأرض مدين، وما جرى له مع بنتي " شيخ مدين الكبير " وما انتهى إليه أمره معه من مؤاجرة ومصاهرة، وإقامة بجواره خلال عشر سنوات، من حق أي سائل أن يتساءل: من هو ذلك " الشيخ الكبير " الذي لم يصرح كتاب الله باسمه، وإنما تركه " مبهما "؟ هل صحيح ما جرى على كثير من الألسنة والأقلام، من أن المراد به هو نفس النبي شعيب عليه السلام؟ أم ان ذلك مجرد تخمين أو التباس، أوقع فيه ما هو متعارف من كون " مدين " هي وطن النبي " شعيب "، وكون " شعيب " هو " أخ مدين " المرسل إلى أهلها، حتى أصبح اسم " مدين " مقرونا باسم " شعيب " واسم " شعيب " مقرونا باسم " مدين "، من باب " تداعي الخواطر والمعاني والأفكار "؟
وجوابا على هذا السؤال الملح نقدم الملاحظات التالية التي انتهينا إليها، بعد أن أعدنا النظر في هذا الموضوع، ودققنا البحث فيه بقدر المستطاع.
- أولا: إن شعيبا عليه السلام حسبما حكى عنه كتاب الله ـ لم يكن فريدا ولا وحيدا دون أتباع ولا أنصار، بل كان له
- كبقية الأنبياء - " رهط " من قومه المؤمنين به يقفون بجانبه في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، حتى أن كفار مدين ـ رغما عن مهاجمتهم إياه وتحديهم له ـ لم يسعهم إلا الاعتراف بأن له عصبة قوية تقف في وجوههم، وتدفع عنه أذاهم، وهم يتفادون المواجهة معها، بدليل قولهم لشعيب وهم يخاطبونه:{وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} كما حكى عنهم كتاب الله في سورة هود [الآية: 91]، بينما " الشيخ الكبير " الذي سقى موسى لبناته يصوره كتاب الله فريدا وحيدا عاجزا عن القيام بشؤونه، ولذلك لجأ إلى تكليف بناته برعي غنمه وسقيها، وعندما يرد بناته " ماء مدين " يقفن منتظرات، من دون أن يبادر أحد من الرعاة الأشداء إلى مساعدتهن، اللهم إلا هذا الغريب و " عابر السبيل " الذي وفد من مصر إلى مدين ذات يوم، قبل أن ينبأ، واسمه " موسى "، ولو كان " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته هو نفس النبي شعيب عليه السلام لما وكله " رهطه " والمومنون برسالته إلى نفسه، ولما تركوا بناته يقمن بهذا العمل المضنى، ولكان نبيهم هو أول من يسقون له ويرعون غنمه، ويقومون بخدمته، ولاسيما وهم يرون انه بلغ سن الشيخوخة والكبر، الذي يعجز فيه أغلب الناس عن كثير من الأعمال، ويحتاجون إلى المزيد من البرور والإحسان.
- ثانيا: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه "، وفي لفظ آخر:" ما بعث الله نبيا إلا وهو في عز من قومه ومنعة في بلده " ـ رواه الإمام أحمد في مسنده. وهذا
الحديث يتفق معناه مع الآية السابقة الواردة في سورة هود، التي تثبت أن لشعيب عليه السلام " رهطا " ينصرونه ويقفون بجانبه، وبذلك كان شعيب عليه السلام فعلا في " عز قومه ومنعة في بلده "، بينما " الشيخ الكبير " الذي لقي موسى بناته لما " ورد ماء مدين " يصوره كتاب الله في عزلة تامة لا يأخذ بيده إلا بناته المحتشمات من دون غيرهن، ولا يأخذ بيدهن أحد، لولا المفاجأة التي حصلت لهن عند حلول موسى بأرض مدين.
- ثالثا: إن كتاب الله وضح في سور عديدة المآل الذي آل إليه أمر شعيب عليه السلام، بعد أن بذل كل جهوده في تبليغ الرسالة إلى قومه ومحاجته لهم، ولم يبق له أمل في إيمانه الكثرة الساحقة منهم، وهو أنه " تولى عنهم " وفارقهم بالمرة، غير " آسف عليهم ولا محزون "، ووكلهم إلى عقاب الله وعذابه، فأصاب كفار مدين من العذاب ثلاثة ألوان: عذاب " يوم الظلة "، وهي سحابة اظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، وعذاب " الصيحة " التي جاءتهم من فوق رؤوسهم، وعذاب " الرجفة " التي جاءتهم من تحت أرجلهم، فزهقت منهم الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام، {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} . ومعنى هذا أن قوم مدين الذي أرسل الله إليهم أخاهم شعيبا فكفروا به بادوا وانقرضوا. وإذن " فالأمة من الناس " الذين وجدهم موسى يسقون لما " ورد ماء مدين " لا يمكن أن يكونوا هم قوم شعيب الذين عاقبهم الله وقطع دابرهم، ولا يعقل أن يكونوا من الفئة القليلة التي آمنت به، إذ لو كانوا من المؤمنين برسالة شعيب، وشعيب لا
يزال حيا يرزق بين أظهرهم، لما أهملوا أمره وأمر أهله إلى هذا الحد، بل لا شك أنهم قوم آخرون عمروا هذا المكان، واستقروا به بعد ذهاب أهله وانقراضهم، وانتهاء عصر شعيب ورسالته، ودخولهما في ذمة التاريخ.
- رابعا: على فرض أن النبي شعيبا عليه السلام عاش ولم يفارق مدين حتى ادركه موسى، وأنه هو الذي استضافه وصاهره واستأجره، فقضى موسى بجانبه عشر سنوات كاملة، هل يعقل أن لا يتحدث كتاب الله عن عشرتهما الطويلة ـ والحال ان الأول نبي ورسول، والثاني مرشح في علم الله للنبوة والرسالة ـ إلا حديثا مقتضبا لا يتجاوز سبع آيات، من الآية 21 إلى الآية 28 في هذا الثمن، ومن دون أن يمس في الصميم أي جانب من جوانب الدين الأساسية، التي طالما حاور شعيب قومه في شأنها، والتي سيحاور موسى في شأنها فرعون وملأه بعد فترة من الزمن، عندما يفارق مدين ويبعث من ربه رسولا. بينما نجد كتاب الله يطيل النفس في الحديث عن لقاء موسى، بعد نبوءته، بعبد من عباد الله آتاه الله من لدنه علما، ويفصل القول في تسجيل حوارهما الممتع والمثير، ويصف المفاجآت التي فوجئ بها موسى من طرف محاوره الصالح الحكيم أدق وصف وأغربه. وها هي سورة الكهف شاهدة على ذلك، فقد خصصت للقائهما اثنتين وعشرين آية، من الآية 60 إلى الآية 72، هذا وموسى وقتئذ هو الرسول، ومحاوره إنما هو رجل صالح علمه الله ما لم يكن يعلم، وليس في عداد الأنبياء، ألا يدل هذا كله على أن " الشيخ الكبير " الذي
لقيه موسى بمدين لم يكن هو النبي شعيبا عليه السلام؟
- خامسا: إن كتاب الله عندما قص في سورة الأعراف قصة آدم في ست عشرة آية أتبعها بقصص مجموعة من الأنبياء والمرسلين على التتابع، فبدأ بقصة نوح مع قومه، التي استغرقت خمس آيات، أولها:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} ، ثم ثنى بقصة هود مع عاد، التي استغرقت سبع آيات، أولها:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} ، ثم ثلث بقصة صالح مع ثمود، التي استغرقت سبع آيات أيضا، أولها:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} ، ثم ربع بقصة لوط مع قومه، التي استغرقت أربع آيات، أولها:{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} ، ثم خمس بقصة شعيب مع مدين، التي استغرقت ثمان آيات، أولها:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} ، وعقب على قصص هذه المجموعة من الرسل بقوله تعالى:{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا} إلى قوله تعالى تعقيبا على الجميع، وإلحاقا بكل ما سبق من أخبار أولئك الرسل وأقوامهم:{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} ، واستغرقت قصة موسى التي جاءت مستقلة عما سبقها من قصص الرسل السابقين أربعا وخمسين آية. قال الزمخشري:" الضمير في قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} للرسل أو للأمم، عني الأمم التي أرسلوا إليها ". وقال ابن كثير: " يقول تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي من بعد الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين،
{مُوسَى بِآيَاتِنَا} أي بحججنا ودلائلنا البينة " انتهى كلام ابن كثير. وقال علاء الدين المعروف بالخازن: " قوله عز وجل: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني ثم بعثنا بعد الأنبياء الذين تقدم ذكرهم، وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام {مُوسَى بِآيَاتِنَا} يعني بحججنا وأدلتنا الدالة على صدقه " انتهى كلام الخازن. وبشهادة هذه الآية الصريحة الواردة في سورة الأعراف وتفسيرها البين يتضح لكل ذي عينين أن شعيبا عليه السلام، كان سابقا على موسى، ولم يكن معاصرا له حتى يمكن أن يتم بينهما اللقاء، وإذن " فالشيخ الكبير " الذي آجر موسى وصاهره ليس هو شعيب المعروف " بخطيب الأنبياء "، لكن الظاهر من حاله ومقاله أنه أحد الصالحين الأتقياء.
قال ابن كثير ما نصه: " قد اختلف المفسرون في هذا الرجل من هو على أقوال: أحدهما انه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين، وهذا هو المشهور عند كثير من العلماء، وقال آخرون: بل كان ابن أخي شعيب، وقيل رجل مومن من قوم شعيب، وقال آخرون: كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة، لأنه قال لقومه: (وما قوم لوط منكم ببعيد} وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام بنص القرآن، وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة، كما ذكره غير واحد، وما قيل: إن شعيبا عاش مدة طويلة إنما هو - والله أعلم - احتراز من هذا الإشكال. ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان إياه
لأوشك أن ينص على اسمه في القرآن ها هنا، وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم يصح إسناده ". ثم أشار ابن كثير إلى بعض الأقوال الأخرى التي حاولت تعيين الرجل الذي لقيه موسى، رغما عن " إبهام " القرآن لاسمه، وختم كلامه بما انفصل عليه ابن جرير الطبري في الموضوع من دون أدنى اعتراض إذ قال: " الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر، ولا خبر تجب به الحجة في ذلك "، وإذن فلنقف عند حدود القرآن، فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم فيما " أبهمه " ولم يثبت في شأنه أي بيان، والله تعالى أعلم.