الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب الواحد والثلاثين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حصة هذا اليوم تتناول الربع الثالث من الحزب الواحد والثلاثين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة مريم المكية:{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} إلى قوله تعالى في نفس السورة: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} .
ــ
في القسم الأول من هذا الربع واصل كتاب الله الحديث عن قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام، فوصف حالها أثناء الحمل وعند المخاض، وما أصابها من قلق بالغ وحزن عميق، لخروج أمرها عن العادة {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} أي بعيدا من أهلها {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} ، غير أن الله تعالى هدأ روعها {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} . المراد بالسري عيسى عليه السلام، وبه قال جماعة من مفسري السلف، والمنادي هنا إما الملك، وإما ابنها عيسى، واختاره ابن زيد وابن جرير في تفسيره، وفي هذا الظرف الدقيق تلقت مريم نداء من السماء بهذا الخطاب الرقيق {وَهُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا}.
ثم أشار كتاب الله إلى ما واجهها به الشاكون والمفترون من بني إسرائيل عندما جاءتهم وهي تحمل ولدها عيسى {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} . غير أن الله تعالى أسعفها بكلام ابنها عيسى، وإن كان لا يزال في المهد، تأكيدا لبراءة أمه وإثباتا لطهارة عرقه، وتعريفا للشاكين والمفترين بمعجزة الله التي وقعت في ولادته وخلقه {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} ، وهذا إخبار عما سيؤول إليه أمره عندما يصبح نبيا ورسولا، " وإن كان من (الجائز) أن يرسل الله الصغير إلى الخلق كامل العقل والعلم، مؤيدا بالمعجزة، لكن لم يرد بذلك خبر، ولا كان فيمن تقدم " حسبما حققه القاضي أبو بكر (ابن العربي). ثم قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} .
وكما نوه كتاب الله بيحيى إذ قال في حقه من قبل: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} حكى على لسان عيسى عليه السلام أيضا قوله وهو يتحدث بنعمة الله عليه {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} .
ثم عقب كتاب الله على ما حكاه في قصة مريم وابنها
عيسى عليهما السلام بقوله تعالى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} إشارة إلى أن ما يدعيه اليهود على مريم العذراء إنما هو زور وبهتان، وإلى أن ما يعتقده النصارى من ان المسيح ابن الله إنما هو مجرد غلو فاحش، وادعاء باطل كل البطلان، وإذا كان المسيح يجعل فاتحة كلامه عندما نطق وهو لا يزال في المهد الاعتراف بعبوديته لله، فيقول بصيغة التأكيد {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} فكيف يزعم النصارى أنه إله أو ابن إله {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} أي تنزه عن أن يكون له ولد، وإذا كان عيسى ابن مريم قد ولدته أمه دون والد، فتلك معجزة من بين المعجزات المثيرة التي خرق الله بها العوائد {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، لكن وقوع معجزة كهذه المعجزة لا يقلب الحقائق، ولا يرفع إلى درجة الألوهية أي واحد من الخلائق، {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} .
وقوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} إشارة إلى ما وقع من اللعنة والشطط في شأن عيسى ابن مريم عليهما السلام، منذ ولادته إلى الآن وحتى الآن، بين الفرق المتعددة داخل الملة المسيحية نفسها من جهة، وبين اليهود والنصارى من جهة أخرى، فلا يزال أمره عند الكثير منهم لغزا من الألغاز، بينما أمره في الإسلام أوضح من فلق الصبح، و " الأحزاب " جمع حزب، وهو عبارة عن الفرقة المنفردة برأيها عن غيرها، وقد جاء كتاب الله في شأن عيسى وأمه مريم بالقول الفصل، لكن المفترين عليهما، والمسرفين في حقهما، أصروا على عنادهم، واستمروا
في ضلالهم، ومهما طال بهم الأمد فمردهم جميعا إلى الله {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} - {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
وانتقل كتاب الله من قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام إلى قصة إبراهيم عليه السلام وأبيه، واقتصر في هذا السياق على ما دار بين الأب وابنه من محاورة فريدة من نوعها حول عقيدة التوحيد الثابتة، ومعتقد الشرك الباطل، وما تبع ذلك من تهديد أبيه له بالقطيعة والقتل رجما بالحجارة، وما أنعم الله به عليه من نعمة الذرية الصالحة التي اصطفاها لنبوته وحمل رسالته من بعده، فقال تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} ، ويتجلى في هذا الخطاب الذي خاطب به إبراهيم أباه ما تقوم عليه الدعوة إلى الله من الاستناد إلى العلم، والتزام الحكمة والموعظة الحسنة، والإقناع بالحجة البالغة، والجدال بالتي هي أحسن، وما تختاره لنشرها من أساليب التلطف والتعطف التي يكون لها وقع طيب في القلوب، فها هو إبراهيم يكرر قوله:{يَا أَبَتِ} أربع مرات في حديثه إلى أبيه، تأليفا لقلبه، وتطييبا لخاطره، وأخذه بيده إلى صراط الله السوي، دون أن يخرج عاطفته، ولا أن يهين كرامته، ثم يحكي كتاب الله
جواب أبيه الذي انطبع بطابع الوثنية والجاهلية، فيبدو جوابه جافيا نابيا، مليئا بالتهديد والوعيد، خاليا من كل حجة أو دليل، اللهم إلا مجرد التقليد الأعمى والرأي السقيم العليل {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} أي زمنا طويلا.
وعندما يسمع إبراهيم رد والده المطبوع بطابع التعسف والعنف، يجيبه بجواب كله أدب ولطف {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} أي عودني اللطف بي وإجابة دعائي.
وبعد أن بلغ إبراهيم رسالته إلى أبيه وقومه، ووجه إلى معبوداتهم سهامه النافذة، وزلزل قواعدها من الأساس، فلم تبق لها حرمة في النفوس، فارقهم جميعا، واعتزلهم متبرئا منهم ومن آلهتهم، فكان أسوة لأصحاب الكهف من بعده الذين اعتزلوا مشركي قومهم وما يعبدونه من دون الله، وإلى هذا الموقف الحاسم يشير قوله تعالى على لسان إبراهيم:{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} .
وأشار كتاب الله إلى أن هذه الفترة التي اعتزل فيها إبراهيم أباه وقومه، لإصرارهم على الشرك، كانت فترة خير وبركة على إبراهيم وعلى ذريته، فقد وهب الله له أثناءها ولده إسحاق، ثم وهب لابنه إسحاق وهو على قيد الحياة حفيده يعقوب، ثم ضاعف الله إكرامه لخليله إبراهيم فأنعم على ذريته بالنبوة والذكر
الحسن الباقي بين الناس، وذلك قوله تعالى:{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ويعقوب هو ولد إسحاق الذي عاش إلى جانب جده إبراهيم {وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} ، وبذلك تعززت عقيدة التوحيد، وتركزت دعوتها الخالدة جيلا بعد جيل.
ولعل الحكمة في الحديث عن إبراهيم الخليل في كتاب الله عموما، وفي أمر الرسول بأن يتلو على مشركي قريش ما أنزله الله في كتابه عن إبراهيم {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ} هي تذكيرهم بأن إبراهيم الذي ينتسبون إليه، ويقرون بأنهم من سلالته وولده لم يكن مشركا ولا يهوديا ولا نصرانيا، وإنما كان حنيفا مسلما، يكره الأوثان والأصنام، ويوجه إلى عبادها المغفلين أنفذ السهام، ولذلك اعتزل قومه وأباه، وهاجر إلى مكة وبنى فيها البيت الحرام مع ابنه إسماعيل لتوحيد الله، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127]. ولا يعتنق الشرك إلا من فقد عقله وحسه {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130].
وأشار كتاب الله إلى اصطفاء موسى للرسالة والجمع له بينها وبين النبوة، وشد أزره بمعونة أخيه هارون، فقال تعالى منوها بقدره:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} أي يناجي ربه {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} . وكانت نبوة هارون إكراما من الله لموسى، مصداقا لقوله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه: 36] وهذه الآية نفسها إشارة إلى قول موسى فيما حكاه عنه كتاب الله {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29، 30، 31، 32]، وقوله أيضا:{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص: 34]{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35].
ثم عاد كتاب الله إلى الحديث عن ذرية إبراهيم، فأشار إلى ولده إسماعيل، والد العرب العدنانية، الذي كان له الفضل في إقامة قواعد البيت الحرام مع أبيه، بانفراد وتخصيص، فقال تعالى مثنيا عليه أجل الثناء:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} .
وقوله تعالى في حق إسماعيل: {وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} دليل على مزية إسماعيل وفضله على أخيه إسحاق، فقد جمع الله لإسماعيل بين النبوة والرسالة بمقتضى هذه الآية، بينما كان حظ أخيه إسحاق منحصرا في النبوة لا غير، مصداقا لقوله تعالى فيما سبق:{وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} وثبت في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل) الحديث.
وأخيرا تحدث كتاب الله عن إدريس الذي يقال أنه أول مرسل بعد آدم علي السلام، فأثنى عليه ونوه بقدره إذ قال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا
عَلِيًّا}. وفي حديث الإسراء الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بإدريس وهو في السماء الرابعة فحياه إدريس بقوله: (مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح) وقد حمل بعض مفسري السلف قوله تعالى هنا: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} على ان المراد به أن إدريس رفع إلى السماء ولم يمت، على غرار تفسيرهم لقوله تعالى في شأن عيسى:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وحمله آخرون على شرف النبوة والزلفى عند الله.
وبعدما استعرض كتاب الله هذه المجموعة المختارة من الأنبياء والرسل من زكريا إلى إدريس كنموذج صالح للاقتداء والاتباع، منوها بنصر الله لهم ولدعوتهم، معرفا بقدرهم عنده ومكانتهم، أجمل كتاب الله القول مرة ثانية عن عموم الأنبياء، وأثنى على سلسلتهم الذهبية أعطر ثناء، فقال تعالى مشيرا إلى جنسهم على العموم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} [الآية: 58]، وكأنه يقول لخاتم الأنبياء والمرسلين نفس ما قاله له في آية أخرى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]. ثم مضى كتاب الله يقول في حقهم جميعا: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} أي أنهم إذا سمعوا كلام الله في كتبه المنزلة، وتدبروا حججه البالغة، خشعت قلوبهم، واهتزت جوارحهم، فخروا على أذقانهم ساجدين لعظمة الله، باكين من خوف الله، قال ابن كثير:" فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هنا، اقتداء بهم، واتباعا لهم ".
ومن خلال ما ذكره كتاب الله في وصف أنبيائه ورسله الذين أنعم عليهم يتبين للمومن ما يرضى عنه ربه من الخصال الحميدة، وفي طليعتها إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} على لسان عيسى عليه السلام، {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} في الحديث عن إسماعيل عليه السلام، والبرور بالوالدين:{وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ} في وصف يحيى عليه السلام، {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} على لسان عيسى عليه السلام، والحنان والتواضع:{وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} في وصف يحيى عليه السلام، {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} على لسان عيسى عليه السلام، والصدق والإخلاص:{إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} في وصف إبراهيم عليه السلام، {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} في وصف إسماعيل عليه السلام، {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} في وصف موسى عليه السلام.
فهذه بعض خصال الذين أنعم الله عليهم، ممن نسأل الله تعالى في " فاتحة الكتاب " عند كل صلاة أن يهدينا إلى سلوك طريقهم فنقول:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} .