الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب السادس والثلاثين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نعالج تفسير الربع الثاني من الحزب السادس والثلاثين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة النور المدنية:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى قوله تعالى في نفس السورة: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} .
ــ
بعد أن عرض كتاب الله في الآيات السابقة من هذه السورة ما يجب أن يكون عليه نظام الأسرة المسلمة، التي هي الخلية الأولى للمجتمع الإسلامي، وحجر الزاوية في بناء الدولة الإسلامية، وبعد أن رفع الستار عن الحكمة الربانية التي تكمن وراء تلك التشريعات والتوجيهات، إذ قال تعالى في ختام الربع الماضي:{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} لفت كتاب الله أنظار البشرية جمعاء، إلى أن الإنسان بالرغم مما رزقه الله من عقل لا يمكن له أن يستغني عن الاستنارة بنور الله في تدبير شؤونه الخاصة والعامة، وكما أن " الطبيعة " إنما تسير بانتظام وفقا للنواميس والسنن التي وضعها الله
فيها وأودعها إياها، فلا بد للإنسان وهو كائن مخير إذا أراد أن يسير في حياته سيرا متئدا موفقا سعيدا، من التزام الشرائع الإلهية، التي هي بالنسبة إليه مثل النواميس الكونية بالنسبة للطبيعة المسخرة، وقد وصف كتاب الله الهداية الإلهية بكونها نورا يخرج الناس من الظلمات في عدة آيات، منها قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد: 9]، وقوله تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257]، وقوله تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [إبراهيم: 1]، وقوله تعالى:{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، وقوله تعالى:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، وقوله تعالى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]. وعلى ضوء هذا المعنى يكون قوله تعالى في بداية هذا الربع: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تعقيبا مناسبا على جميع آيات الأحكام التي سبق تفسيرها من سورة النور المدنية في الربعين الماضيين، ويكون مرتبطا بها كلها في سياق واحد، ومن نسق واحد، وأضيف لفظ (النور) في هذه الآية إلى السماوات والأرض للدلالة على سعة إشراقه وإنارته، وقوة انتشاره وإضاءته، إذ يستضيء به أهل السماوات والأرض جميعا، فنور الله لازم لتدبير شؤون الإنسان كيفما كان، كما هو لازم لتسخير بقية الأكوان، والعالم كله علويه وسفليه مشحون بالأنوار، ما بين أنوار
روحية وعقلية، وأنوار مادية وحسية. قال ابن عباس في تفسير هذه الآية {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}:" الله هادي السماوات والأرض، فهم بنوره يهتدون، وبهدايته من حيرة الضلالة ينجون ".
وكما من الله على المؤمنين من عباده بنور من عنده يكون لهم في حياتهم قرينا وخفيرا، إذ قال تعالى في سورة الزمر:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الآية: 22] ضرب كتاب الله هنا أروع الأمثال لذلك النور الإلهي الذي يهتدي به المؤمن في كل حين، فشبه حاله وهو يقتبس من نور الله بالمشكاة، وهي الكوة غير النافذة التي يتوسطها مصباح قوي الضوء، شديد الإنارة، وهذا المصباح من زجاج شفاف في غاية اللمعان، والزيت الذي يوقد منه هذا المصباح أشد الزيوت صفاء وإشراقا، وجلاء وبريقا، حتى أنه ليكاد ينير ما حوله ببريقه وحده دون أن يوقده أحد، لأن الشجرة التي يستخلص منها ذلك الزيت شجرة مباركة، تتلقى من الهواء الذي تنمو فيه ما يساعدها على النضج التام، حتى يكون حملها أجود حمل، ودهنها أصفى دهن. قال ابن عطية " إنها في وسط الشجر لا تصيبها الشمس طالعة ولا غاربة، بل تصيبها بالغداة والعشي ". وهكذا تعاونت المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، مما ضرب الله به المثل، على تقوية هذا النور أضعافا مضاعفة، وواضح أن المصباح إذا كان في مكان ضيق كالمشكاة الممثل بها هنا كان أضوأ له وأجمع لنوره، بخلاف المكان المتسع، فإن الضوء ينبث فيه وينتشر، فيضعف أثره ويتضاءل، وإلى هذه المعاني مجتمعة يشير قوله
تعالى في إيجاز وإعجاز: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ} ، قال أبي بن كعب في تفسير هذه الآيات مع الاقتصار على أهم الفقرات:" هذا مثل المؤمن، فالمشكاة نفسه، والزجاجة قلبه، والمصباح ما جعله الله فيه من الإيمان والقرآن، {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ} هي شجرة الإخلاص لله وحده {لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ} هي خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت، وكذلك المؤمن يحترس من أن يصيبه شيء من الفتن، وقد يبتلى بها فيثبته الله فيها، فهو بين أربع خلال: " إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل " {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} أي يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يتبين له، لموافقته إياه، وإلى هذا المعنى ينظر قوله صلى الله عليه وسلم:(اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله){نُورٌ عَلَى نُورٍ} فهو يتقلب في خمسة أنوار: قوله نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره يوم القيامة إلى النور، أي مصداقا لقوله تعالى:{يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} [الحديد: 12]، انتهى ما رواه المفسرون عن أبي بن كعب في تفسير هذه الآيات. والمراد بمدخل المؤمن ومخرجه هنا سره وعلانيته. ثم قال تعالى:{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي يوفق لإصابة الحق من يشاء من عباده، إما اعتمادا على الذكر الحكيم، أو استنادا إلى العقل السليم، أو استئناسا بالفطرة التي
فطر الله الناس عليها، فنزلوا عند حكمها مضطرين كلما تحاكموا إليها. ونبه كتاب الله في نهاية هذا السياق إلى أن الغاية من ضرب المثل الذي تضمنته الآيات السابقة هي تصوير الأثر البالغ، الذي يحدثه النور الإلهي، عندما تتخلل أضواؤه زوايا قلب المؤمن، فتنيره من كل جانب، فالأمر يتعلق بتقريب الانفعالات الروحية، والظواهر النفسية، إلى الأفهام العادية، تيسيرا على عامة الناس، وتسهيلا لإدراك الحقائق حتى يزول عنها وعنهم كل التباس، أما الحق سبحانه وتعالى فهو غني عن ضرب المثل، لأنه يعلم ما ظهر وما بطن منذ الأزل، وذلك قوله تعالى:{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وكما فصل كتاب الله في الربع الماضي ما يلزم تطبيقه من الأحكام على بيوت الناس المسكونة وغير المسكونة، مما هو داخل في ملكهم الخاص، تناول في هذا الربع بيوت الله في الأرض، التي هي قطعة من الملأ الأعلى في الملأ الأدنى، وهي بيوت عامة مفتوحة الأبواب في وجوه كافة المؤمنين والمؤمنات، وتصدق على جميع المساجد حيثما كانت وأينما كانت، فقال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} والمراد " بالإذن " هنا الأمر، أي أمر الله أن ترفع.
- ورفع بيوت الله يدل على معنيين جليلين:
- المعنى الأول- الأمر بتشييدها وبنائها لتؤدي الرسالة المنوطة بها في الدين على أحسن وجه، فكلمة (رفع) تستعمل بمعنى بنى، كما في قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ
بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27، 28]، وقوله تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] وهذا هو الرفع الحسي.
- المعنى الثاني- الأمر بتعظيمها وتطهيرها من الأنجاس والأقذار، على غرار ما ورد في قوله تعالى:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] وهذا هو الرفع المعنوي.
ويندرج تحت المعنى الأول وهو الأمر بتشييدها وبناءها اتخاذ المطاهر حولها، وإجراء المياه بها، حتى يتمكن الوافدون عليها من الطهارة والصلاة، وقد كانت قريبا من مسجد رسول الله آبار يستقون منها، فيشربون ويتطهرون ويتوضأون.
ويندرج تحت المعنى الثاني وهو الأمر بتعظيمها وتطهيرها من الأنجاس تنظيفها وتطييبها وتبخيرها أيام الجمع، كما كان يفعل عمر بن الخطاب كل جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنزيهها عن كل ما فيه رائحة مستكرهة، كالإتيان إليها عقب أكل البصل والثوم، وتفادي كل ما يمكن أن يجلب لها القذارة والنجاسة، فلا يسمح بالبصاق ولا بالتنخم ولا بالتمخط فوق أرضها ولا فوق فرشها، ولا يسمح بدخول المجانين وصغار الأطفال إليها خوفا من تدنيسها، ولا بمرور الحائض أو حامل اللحم النيء بها، خوفا من تلويثها بدم الحيض أو الدم المتقاطر من اللحم، ولا يقام فيها حد ولا قصاص، خوفا مما يمكن أن يرشح من المجلود أو المقطوع، ولا يدخلها أحد وقد أشهر
سلاحه، تفاديا لما يمكن أن يصيب المصلين من سلاحه إذا غفل عنه، وينبغي البدء بالرجل اليمنى عند دخول أبوابها، والمبادرة بالسلام على روادها، والقيام بصلاة ركعتين تحية للمسجد فور دخولها، كما ينبغي تجنب كل ما فيه أذى لبقية المصلين، فلا يتخطى الداخل إليها رقاب الناس، ولا يضيق على أحد منهم في الصف، ولا يمر بين يدي أحد وهو يصلي، ولا يفرقع أصابعه، ولا يعبث بشيء من جسده، قال القرطبي في كتابه (الجامع لأحكام القرآن):" " إن كل من تأذى به جيرانه في المسجد، بأن يكون ذرب اللسان سفيها عليهم، أو كان ذا رائحة قبيحة لا تريمه (أي لا تفارقه) لسوء صناعته، أو ذا عاهة مؤذية كالجذام وشبهه، وكل ما يتأذى به الناس، كان لهم إخراجه، ما كانت العلة موجودة فيه حتى تزول ". وبهذا البيان الشافي لرفع بيوت الله حسيا ومعنويا يتضح للجميع معنى قوله تعالى هنا:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ} .
أما قوله تعالى: {وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} فهو تحديد دقيق لرسالة بيوت الله التي أنيطت بها، وأقيمت من أجلها، بحيث لا يسوغ التخلي عنها بحال، وكل ما يتصل بها يجب استعباده في جميع الأحوال، ولذلك نهي عن التحدث فيها باللغو والرفث والخنى، ونهى عن إنشاد الشعر في جنباتها إذا كان لا يتضمن ثناء على الله ورسوله، ولا يؤدي غرضا شرعيا ملائما لأغراضها، ونهى عن البيع والشراء داخلها، ونهى عن مباشرة الخصومات والمحاكمات والمشاجرات ورفع الأصوات بين جدرانها، ونهى عن
المبيت والنوم بها إلا عند الضرورة القصوى لغريب أو عابر سبيل، وقد كان عمر رضي الله عنه يفتش المسجد بعد العشاء فلا يترك فيه أحدا، كل ذلك حرصا على أن تظل بيوت الله مقصورة على ما أنشئت من أجله، ألا وهو ذكر الله وتمجيده وتنزيهه، والتعريف بمظاهر قدرته وحكمته، وتبليغ الرسالة الإلهية المتضمنة لهدايته، والدعوة إلى عبادته وطاعته، وتمكين النوع الإنساني من بلوغ سعادته. وواضح أن الأمور التي نهى عنها الشرع في هذا المقام كلها منافية لذكر الله، لأنها تشوش على الذاكرين والذاكرات ذكرهم، فلا يطمئن لهم بال، وتصرف فكرهم عن الاستغراق والتأمل فيما لله من نعوت الجلال والجمال.
وبعد أن وصف كتاب الله في الآيات السابقة نوره الذي أشرقت به السماوات والأرض، وضرب المثل لنوره عندما يغشى قلب المؤمن فيخرجه من الظلمات إلى النور، وبين انه سبحانه يهدي لنوره من يشاء، تناول بالذكر فريقين اثنين لا ثالث لهما: الفريق الأول هم المهتدون الذين ملأ النور الإلهي قلوبهم فقبلوا الهداية الإلهية، والفريق الثاني هم الذين لم يلج ذلك النور قلوبهم فرفضوا هدايته رفضا باتا، فعن فريق المهتدين الذين تعد عمارة بيوت الله من أبرز صفاتهم، دون أن ينسوا نصيبهم من الدنيا، ولا أن تلهيهم دنياهم عن الدين، قال تعالى منوها بهم مبشرا إياهم بالفوز في الدنيا والآخرة: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ *
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وإطلاق (الرجال) عليهم في هذه الآية لا يعني استثناء النساء المؤمنات من هذا الفضل العظيم، فالنساء شقائق الرجال في كل خير وفضل {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35]، وإنما أنثى عليهم كتاب الله ووصفهم بكونهم " رجالا "، إشعارا بما لهم من عزائم ماضية، وهمم عالية، واستعمل لفظ " الرجال " في هذا المقام كما استعمله في مقامات أخرى مماثلة، عندما قال تعالى:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]، وعندما قال تعالى:{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]. وعن فريق الضالين الذين حبطت أعمالهم فأصبحت هباء منثورا، وخسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى منددا بهم، وضاربا المثل لخسرانهم المبين وخيبتهم المرة:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} و " القاع " ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت، وفيه يكون السراب، وجمعه " قيعة " كما قال تعالى هنا:{أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} ثم عقب كتاب الله على وصفه للفريقين فقال: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .
وفتح كتاب الله في وجوه الجاحدين والمكذبين مرة أخرى باب الموعظة الحسنة، عسى أن ينظروا ويعتبروا ويرجعوا عن ضلالهم القديم، فقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ * وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . ثم قال تعالى مقيما الحجة عليهم بعد هذا البيان القاطع: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
وانتقل كتاب الله إلى تحديد معيار دقيق لا يتخلف يميز المؤمنين من المنافقين، والمهتدين من الضالين، ألا وهو النظر إلى موقف كلا الفريقين من التحاكم إلى الله ورسوله، فمن تقبل حكم الله ورسوله، بالطاعة والإذعان، سواء كان له أو عليه، إيمانا منه بأن الله تعالى هو أحكم الحاكمين، ولا يظلم ربك أحدا، كان مؤمنا حقا وصدقا، ومن رفض حكم الله ورسوله متى كان ذلك الحكم عليه لا له، وإذا كان له لا عليه أظهر الطاعة والإذعان،
كان منافقا خارجا عن حظيرة الإيمان. وللكشف عن كلتا الحالتين والموقفين يقول الله تعالى في ختام هذا الربع: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} .