الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الأول من الحزب الأربعين في المصحف الكريم ابتداء من قوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} إلى قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .
ــ
في بداية هذا الربع أكد كتاب الله أن رعاية الحق، وعنايته بهداية الخلق، رعاية لا تنقطع على الدوام، وعناية لا تتضاءل مع مرور الأيام، وإن اعتصم كثير من الناس بحبل الضلال، ولجو في العناد والجدال، ولذلك توالت الرسالات والرسل عبر الأجيال، وبقيت أبواب الهداية مفتوحة في وجوههم دون أقفال، وها هو خاتم الكتب المنزلة تتوالى سوره وآياته، وتتلاحق نصائحه وعظاته، لخير البشرية جمعاء، وإنقاذها من الضلال العماء، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى بمنتهى الإيجاز:{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي أتبعنا رسولا بعد رسول، وأردفنا كتابا بعد كتاب.
وضرب الله المثل، لمن اغتنم فرصة ظهور الرسالة الخاتمة، ونزول الكتاب الخاتم، فبادر إلى الدخول في حظيرة الإسلام، بفريق من أهل الكتاب ما كادوا يسمعون رسول الله يتلو كتاب الله حتى أعلنوا إيمانهم، وأرضوا ضميرهم ووجدانهم، واعترفوا بأن ما جاء به من عند الله هو الحق الذي لا غبار عليه، وان مرد كل شيء إليه، مؤكدين علاوة على ذلك، أنهم كانوا على بينة من أمر هذا الكتاب، قبل أن ينزل ويرفع عنه الحجاب، وذلك ما يتحدث عنه كتاب الله إذ يقول:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} .
ويكرم الله هذا الفريق الذي لم يفرق في الإيمان، بين كتب الله ورسله، إذ آمن بخاتم الرسل وخاتم الكتب، فيثيبهم على إيمانهم ثوابا مضاعفا، حيث إن " الكتابي " الذي أدركه الإسلام كان مخاطبا من جهة نبيه أولا، ثم خوطب من جهة نبينا ثانيا، فلما أجاب نبينا واتبعه، بعدما أجاب نبيه واتبعه، فاز بالحسنيين، وكان له أجر الملتين، وذلك ما ينطق بمعناه كتاب الله إذ يقول:{أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} .
ونظرا إلى ما يتعرض له هذا الفريق من أهل الكتاب الذين دخلوا في الإسلام، وأقروا برسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، من أذى أهل ملتهم الأولى، الذين أصروا عليها عنادا واستكبارا، واخذوا على عاتقهم محاربة الإسلام سرا وجهارا، فقد وصف
كتاب الله صبرهم على أذى المكابرين، وإعراضهم عن مهاترات الكافرين، واستهانتهم بما يصب عليهم من وابل النقد والتجريح من طرف السفهاء الجاهلين، فقال تعالى:{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} و " اللغو " ما حقه أن يلغى ويترك من العبث وغيره، ثم عقب كتاب الله على هذه الظاهرة المستحسنة التي برزت في سلوك فريق من أهل الكتاب؛ فآمنوا بالدين الجديد، ونالوا أحسن الجزاء على ما قاموا به من عمل صالح والتزموه من قول سديد؛ مؤكدا لرسوله أن إلقاء نور الهداية إلى الحق في قلب هذا الفريق أو ذاك، أو هذا الفرد أو ذاك، أمر فوق طاقة الرسول مهما كان حريصا عليه؛ ولو كان الأمر يتعلق بأقرب الأقربين إليه. ذلك أن نور الهداية إلى الحق لا يحتل قلب أحد إلا إذا صاحبته العناية الإلهية، ورافقه التوفيق، في جميع خطوات الطريق {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}. ولا تناقض بين قوله تعالى هنا:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وقوله تعالى في آية أخرى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]؛ لأن المقصود بالهداية في الآية الأولى هو إمالة القلب من الباطل إلى الحق؛ وذلك من خصائص قدرة الحق سبحانه، والمقصود بالهداية في الآية الثانية هو مجرد التبليغ والدعاء إلى الحق؛ وذلك واجب في حقه صلى الله عليه وسلم؛ إذ ما بعثه الله إلا رحمة للخلق {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل: 81].
وعاد كتاب الله إلى الحديث عن أحوال وأقوال المتثاقلين عن الاستجابة لله ولرسوله، فقد زعموا انهم لو آمنوا بالله، واعتصموا بحبل الله، للحقهم ضرر كبير، وشر مستطير، متعللين بأن الجمهرة الغالبة من الناس مجمعة على خلافهم، لا تومن بهذا الدين، ولا تصدق رسالة رسوله الأمين، فإذا آمنوا وحدهم أصبحوا عرضة للانتقام والعدوان، ونالهم ما لا يطيقونه من الذل والهوان، وقد كان هذا القول هو قول مشركي مكة قبل أن يسلموا، وهو قول أمثالهم في كل جيل، وذلك هو ما يحكيه كتاب الله عنهم إذ يقول:{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} .
لكن كتاب الله بادر إلى إبطال مزاعم مشركي مكة في الحين، مذكرا لهم بأن القداسة التي تتمتع بها مكة، والحرمة التي اختصت بها وعاشوا في ظلها، إنما منحها لها الله جل جلاله، فهو الذي جعلها مقر البيت الحرام، حتى أصبحت موضع التوقير والاحترام عند جميع الأقوام {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} وهذه الخاصية في عهد الجاهلية، لن ترتفع عنها إذا تطهرت من الشرك والمشركين، وعادت من جديد مهد الملة الحنيفية، بل ستصبح مكانتها أعظم وأكبر، وسيصبح ذكرها في العالم أسير وأشهر {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .
وذكر كتاب الله كل من عنده المام ولو قليل بما تعاقب على
البشر من كوارث ونكبات، بأن الطغيان بالنعمة والغرور بها وسوء التصرف فيها، والاستكبار على الحق والخلق من أجلها، وعدم التوجه بالشكر إلى الله الذي أنعم بها، يؤدي حتما إلى زوالها، وقطع دابر أهلها بالمرة، وذلك قوله تعالى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} . وهذه الآية تحمل في طياتها تعريضا بأهل مكة، وإنذارا مباشرا لسادتها وكبرائها الذي ألفوا العيش الغض في رفاهية وترف لا نظير لهما عند بقية العرب، بفضل التجارة الواسعة التي كانوا يحتكرونها، ويسيرون قوافلها جنوبا وشمالا في ظلال الأمن الوارف، فما زادهم ذلك الأمن والاستقرار، إلا استكبارا على استكبار.
وتعرض كتاب الله في هذا السياق للحديث عن مبدأ أساسي في الإسلام يتجلى فيه العدل الإلهي المطابق، والرحمة الإلهية الواسعة، وهذا المبدأ الأساسي يتألف من شقين اثنين:
الشق الأول: أن الله تعالى لا يعاقب قوما ولا يهلكهم إلا إذا تعدوا حدود الله، وأصبح الظلم شيمتهم، والفساد في الأرض خطتهم، فلم يعودوا صالحين للخلافة عن الله فيها بعمارتها، وحسن التصرف في طيباتها.
والشق الثاني: أن الله تعالى لا يهمل القوم الظالمين، ولكنه يمهلهم ويملي لهم، ويوجه إليهم الإنذار تلو الإنذار، والإعذار تلو الإعذار، عن طريق الرسل الذين يبعثهم إليهم، والكتب التي
ينزلها عليهم، فإذا لم يستجيبوا لله ورسوله ولم يهتدوا بكتابه سقطت حجتهم، وبطلت معذرتهم، ونفذ قضاء الله فيهم، فأهلكهم ماديا ومعنويا، اجتماعيا وسياسيا، وذلك ما يتضمنه قوله تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} ، على غرار قوله تعالى في آية أخرى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
والمراد " بالقرى " في كلتا الآيتين نفس المدن الآهلة بالسكان، التي يكون لها من قوة الإشعاع والتوجيه شأن وأي شأن، لا ذلك المعنى المتعارف اليوم في تصنيف المدن والقرى، واعتبار القرية دون المدينة، و " أم القرى " هنا هي كبرى المدن التي تكون عاصمة لها أو بمنزلة العاصمة، كما كانت مكة عند ظهور الإسلام بالنسبة للعرب.
وبعدما بينت الآيات السابقة عاقبة السوء التي تؤدي إليها الأثرة والأنانية والبطر، التفت كتاب الله إلى أولئك المنهمكين في جمع الحطام من الحلال والحرام، الذين تملكتهم شهوة الطمع والشره، ففقدوا راحتهم وانسهم ونسوا الله فأنساهم أنفسهم، ملوحا لهم بالتخفيف من حدة التعب والنصب، والتعفف والاعتدال في الطلب، مذكرا إياهم بالمصير المحتوم، في انتظار اليوم المعلوم، الذي يجب له الاستعداد، والتزود بخير الزاد، وذلك ما يقتضيه قوله تعالى في هذا الخطاب، الذي لا يتذوق معناه إلا أولو الألباب: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أي من الذين يساقون مرغمين على الحضور أما الله، ويحاسبون حسابا عسيرا على ما فرطوا في جنب الله، وكما وردت كلمة (المحضرين) في هذه الآية، وردت في آية ثانية:{وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158]، وفي آية ثالثة:{وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 57].
واختار كتاب الله من مشاهد القيامة في هذا السياق مشهدين اثنين جاوزت قوة الوصف فيهما قوة المشاهدة والعيان، مما يضطر كل عاقل إلى المبادرة بالإيمان والإذعان. المشهد الأول ينطلق من قوله تعالى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} ، والمشهد الثاني ينطلق من قوله تعالى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} :
- المشهد الأول: يمثل موقف دعاة الغواية والضلال، وما نالهم من خيبة الأماني والآمال، لا بالنسبة للمتبوعين ولا بالنسبة للأتباع، وذلك قوله تعالى:{قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} .
- والمشهد الثاني: يمثل موقف الأمم والأفراد، أمام الأنبياء
والرسل عند جمع الجميع " يوم التناد " حيث يقف المكذبون بالرسالات الإلهية حائرين مبلسين، فهم جميعا سواسية في منتهى الحيرة والإفحام، والوجوم التام، وذلك قوله تعالى:{فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} على غرار قوله تعالى في آية أخرى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء: 72].
واستبعد كتاب الله من هذا الموقف المهين من خرج من الكفر إلى الإيمان، وانتقل إلى الطاعة بعد العصيان، فقال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أي من الفائزين. قال ابن كثير: " و (عسى) من الله موجبة، فإن هذا واقع بفضل الله ومنته لا محالة "، وقال الزمخشري:" و (عسى) من الكرام تحقيق ".
وانتقل كتاب الله إلى الرد على تطفل المتطفلين من عتاة المشركين، حيث أخذوا ينقصون من قدر الرسول الكريم، ويزعمون أن هناك من هو أحق منه بالرسالة، على حد قولهم:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، مبينا أن إرادة الله التي هي فوق كل اعتبار، هي أساس الاختيار لرسالة المصطفى المختار، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى هنا:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ، وكما قال تعالى في هذه الآية:{مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي أن الله تعالى لا يرسل من اختاروه هم، وإنما يرسل من اختاره هو، كما قال تعالى في آية
أخرى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. وبعدما رد كتاب الله على تطفل المتطفلين، الذين أرادوا أن يكون الترشيح للرسالة تبعا لأهوائهم، وخادما لمصالحهم، أتبع ذلك بآية كريمة تلمح إلى ما تنضح به ضمائرهم، وتنطوي عليه سرائرهم، فقال تعالى:{وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} .
وذكر كتاب الله الناس أجمعين، بحقيقة التوحيد الكبرى القائمة إلى يوم الدين، فقال تعالى:{وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي المنفرد وحده بالألوهية والربوبية وتدبير الكون، إيجادا وإمدادا، {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} أي له الحمد في الأولى على رزقه ونعمته، وله الحمد في الآخرة على عدله ورحمته، وله الحمد فيهما على تدبيره وحكمته، فلا يفعل ربك إلا خيرا، أما الحمد في الدنيا فجميع الخلائق تحمده بلسان الحال دائما، وبلسان المقال أحيانا {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]. وأما الحمد في الآخرة فمصداقه ما يجري على ألسنة الذين اصطفاهم الله من عباده عند لقائه إذ يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34]، وما يجري على ألسنة المتقين الذين فتحت لهم أبواب الجنة، {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} إذ يقولون:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74]{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10]، {وَلَهُ الْحُكْمُ} أي له الحكم
المطلق، المناسب لجلاله وكماله، الذي لا يتأثر بشهوة، ولا يصدر عن هوى، والحكم الأوفق بطبيعة الإنسان والأضمن لمصلحته شرعا وقدرا، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [المائدة: 50] {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] ثم قال تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أحببتم أم كرهتم، فرادى كما خلقكم أول مرة {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94].
وكمثال بارز على ألوهيته وربوبيته وتدبيره الحكيم دعا الناس أجمعين في هذا المقام إلى التفكير في ظاهرة كونية يرونها من دون انقطاع، لكنهم كثيرا ما يغفلون عن الحكمة الإلهية المتمثلة فيها، وعن المنفعة الكبرى التي يجنيها الإنسان والحيوان والنبات منها، وعن الوضع المفزع والمفجع الذي تتعرض له الأحياء جميعها لو لم تتكرر هذه الظاهرة الكونية في مواعيدها، وتتجدد كل مطلع شمس ومغربها في مواقيتها، ألا وهي ظاهرة تعاقب الليل والنهار وتبادل الضياء والظلام، بنظام وانتظام، وذلك قوله تعالى مخاطبا كافة خلقه:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي في الليل {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي في النهار {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ومعنى " سرمدا " متصلا على الدوام.
وبهذه المناسبة التي أبرز فيها كتاب الله بعض مظاهر الحكمة الإلهية الكبرى، والتدبير الإلهي العظيم، أعاد النداء الأول الموجه إلى المشركين بنفس الصيغة التي سبقت من قبل، تسفيها لرأيهم، وإبطالا لزعمهم من جديد، فقال تعالى:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .
وختم هذا الربع بخطاب موجه إلى كل من يجادل في صحة الإيمان وصدق القرآن، يطالبه إن استطاع بتقديم الحجة والبرهان، حتى إذا ما عجز عن الاحتجاج لإثبات معتقده، سقط في يده، وذلك قوله تعالى:{وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .
والمراد " بالشهيد " هنا على سبيل الأصالة رسول كل أمة فهو الذي يشهد على أمته {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109]، ويشهد لهذا قوله تعالى في آية أخرى:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، ويندرج تحت كلمة " شهيد "" بالتبع للرسول " مجموع الشهداء من أمته، مصدقا لقوله تعالى:{لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].