الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب الخامس والثلاثين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الثاني من الحزب الخامس والثلاثين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} ، إلى قوله تعالى:{وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} .
ــ
بعد أن حدد كتاب الله في الربع الماضي معالم الإيمان البارزة، وصفات المؤمنين التي تؤهلهم للفلاح والفوز الأكبر، وعرض جملة من الدلائل على وجود الله ووحدانيته وربوبيته مما تنطق به الأنفس والآفاق (ففي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد) شرع يقص على خاتم أنبيائه ورسله، وعلى أمة الدعوة التي أرسل إليها من كافة البشر قصة الرسالات الإلهية المتوالية، فبين أن القاسم المشترك بين جميع الرسل كان دائما هو الدعوة إلى عبادة الله وحده، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} ، وأن القاسم المشترك بين أعداء الرسل. كان دائما هو الطعن في رسالتهم، بكونهم بشرا وليسوا بملائكة، وبكون الدعوة التي جاؤوهم بها غريبة، ولم يسمعوا بها من آبائهم الأولين، وان الرسل ليسوا في زعمهم إلا عبارة عن مجانين
ومفترين، وان النشأة الآخرة والبعث الذي تثبته الرسالات الإلهية مجرد تخويف وتهويل، ومن قبيل المستحيل:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} - {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} .
وكما قال الملأ الذين كفروا عن نوح: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} ، قال الملأ الذي كفروا عن هود أيضا:{مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} . وكذلك كان موقف فرعون وملائه من موسى وأخيه هارون {فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا} .
وبعد أن ذكر كتاب الله بقصة نوح وهود من أوائل الرسل، في قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [الآية: 23] وقوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الآيتان: 31، 32]، وأتبعهما بقصة موسى وعيسى من أواخرهم، قبل إرسال خاتم النبيين والمرسلين، فقال:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً}
أكد كتاب الله بشكل قاطع وصريح وحده الرسالة الإلهية، ووحدة الرسل الذين جاؤوا بها، تبعا لوحدة مصدرها وهو الله الواحد الأحد، الذي أوحى بها إليهم جميعا، فقال تعالى:{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} .
ونبه كتاب الله في نفس الوقت، للقضاء على كل التباس في هذا الصدد، إلى أن الخلافات الدينية التي برزت في صفوف المنتسبين إلى الدين، وجعلتهم منقسمين على أنفسهم طوائف وشيعا بعد فترة من الرسل فاتخذوا من دين الحق الواحد أديانا مختلفة لا علاقة لها بالرسالة الإلهية الأصلية، والعقيدة الإيمانية الأساسية، التي هي واحدة ووحيدة، وإنما هي من صنع أيدي أولئك الأتباع الذين حرفوها عن مواضعها، وأولوها على غير وجهها.
وبين كتاب الله العناية الإلهية كانت تقف دائما إلى جانب الأنبياء والرسل، فتنصرهم على أعدائهم في النهاية، وإن كانوا يتحملون منهم أكبر الأذى في البداية، فهذا نوح يلجأ إلى الله بعد نفاد صبره داعيا {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} فينصره الله قائلا:{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} ، وهذا هود يلجأ إلى الله بدوره قائلا:{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} فينصره الله قائلا: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} ، وهذا ود يلجأ إلى الله بدوره قائلا:{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}
فلا يلبث أن يأتيه الجواب من عند الله: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ}
{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . وفي موقف فرعون وملائه من موسى وهارون قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} . وهكذا الأمر
لجميع من كذبوا الرسل في مختلف العصور والأجيال، ممن رفضوا الهداية الإلهية وأصروا على الضلال {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} . وقد عبر كتاب الله في آية أخرى عن هذه العناية الإلهية التي يرعى بها رسله على الدوام، إذ قال بإيجاز وإعجاز:{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 20، 21].
وكشف كتاب الله الستار عن السر في عناد أعداء الله الذين لا يومنون بالله ورسله، مشيرا إلى أن الفئة التي تتزعم الكفر والضلال، ضد الإيمان والهدى، في كل جيل، هي من ذلك النوع المترف المتكبر المغرور، الذي نال من الثروة وسعة الرزق، ومن النفوذ والسلطان، ما يجعله يتكبر ويتطاول على الخلق، ولا يجيب داعي الحق، يدل على ذلك قوله تعالى
في الربع الماضي في وصف " الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة ": {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، وقوله تعالى في هذا الربع:{فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} وقوله تعالى في آية أخرى {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34]. وفضح كتاب الله ما تقوم به هذه الفئة الضالة، من سخرية واسهزاء بآيات الله البينات، وما تتندر به في المجالس سمرها عن الرسول والرسالات، فقال تعالى في هذا الربع مخاطبا لها وموبخا:{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ} ، وقد سجل كتاب الله
في آية أخرى مسؤولية هذا الصنف من أعداء الحق في تضليل الخلق، فقال:{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67، 68]، ويلحق " بالترف الفكري " عند أولئك السوفسطائيين الحائرين المتشككين، الذين يتهبون من معرفة الحق والتزامه، ويتصدون لمحاربته والنيل من مقامه، ويلقون بكثير من ضحاياهم في المتاهات والمهامه.
وبعد أن تحدث كتاب الله عما يقوم به المترفون المتكبرون من عرقلة الدعوة إلى الله، والوقوف في وجهها بشتى وسائل التضليل والتدجيل، عقب على ذلك بما يثبت سوء تقديرهم، والخطأ البالغ في حسابهم، مبينا أن إمهالهم لا يعني إهمالهم، لكن أحكم الحاكمين لا يصدر آخر قرار، إلا بعد الإعذار والإنذار، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى هنا:{فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} على غرار قوله تعالى في سورة الأعراف [الآية: 183] وسورة القلم [الآية: 45]: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} ، وقوله تعالى في سورة الحجر:{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الآية: 3]. وصرح كتاب الله بما ينتظرهم من عذاب أليم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى:{حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} . ويؤكد هذا
المعنى في صيغة كلها إنذار وتهديد قوله تعالى في سورة الإسراء: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الآية: 16] أي أمرناهم بالتقوى والصلاح، فضلوا وأضلوا، وكانوا سببا لا في هلاك أنفسهم خاصة، بل في هلاكهم وهلاك قومهم عامة.
ثم أنحى كتاب الله باللائمة على أعداء الرسل وخصوم الرسالات الإلهية، مشيرا إلى أن دين الحق الذي دعا إليه كافة الرسل يلتقي مع الفطرة االسليمة في كل شيء، وأنه لا كلفة في فهمه واستيعابه والاقتناع به، بل هو في غاية السهولة واليسر نظريا وعمليا، وأن كتاب الله الذي هو أساس هذا الدين لا ينطق إلا بالحق والصدق {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122]. ولن يكون الجزاء الذي يترتب على الإيمان به أو الكفر إلا جزاء عادلا، ولو تدبروا كتاب الله وتأملوا معانيه حق التأمل لتنازلوا عن الكفر والكبر والعناد، ولسخروا طاقاتهم للصلاح بدلا من الفساد، وإلى هذا المعنى يشير قول الله تعالى هنا:{وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} ، ثم قوله تعالى في نفس السياق {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} ، وقوله تعالى أيضا:{بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} .
وكما كشف الله الستار عن الصفات المستهجنة، التي تميز
أعداء الرسالة الإلهية، من الكافرين والمشركين، ومن حذا حذوهم في جميع العصور، ووصف مواقفهم، وفضح أسرارهم في هذا الربع، عاد مرة أخرى إلى الحديث عن الصفات المستحسنة، التي تميز المؤمنين المفلحين عن غيرهم من الناس، فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .
واهتم كتاب الله في نفس الموضوع بإبطال حجة واهية طالما تذرع بها أعداء الرسالة الإلهية، وهي طعنهم كلما جاءهم رسول من عند الله بأنه من جنس البشر، وليس من جنس الملائكة، ناسين أو متناسين أن الإنسان هو وحده الذي تحمل الأمانة عندما عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها من بين كافة المخلوقات، وأن الرسالة الإلهية التي هي أجل الأمانات لا يمكن أن يبلغها إلى الناس إلا واحد منهم، وأن الله تعالى عندما يبعث إلى الناس بشرا رسولا إنما يسدي إليهم أكبر النعم، ويمن عليهم بأعظم المنن، حيث يرسل إليهم من أنفسهم من يكلمهم بلسانهم، ويتعرف على أحوالهم، ويصف العلاج الناجع لأدوائهم، ويمارس معهم شعائر الدين الذي جاء به من عند الله كواحد منهم وإمام لهم، ولو كان سكان الأرض من الملائكة لبعث الله إليهم رسولا منهم ليسهل الوفاق والوئام، ويتحقق التجانس التام، على حد قوله تعالى في سورة الإسراء:
{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الآية: 95]، وقوله تعالى في سورة الأنعام:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} [الآية: 9]. فكون الرسل الذين أرسلهم الله إلى البشر يجمعون بين البشرية والرسالة معجزة من أعظم معجزاتهم، ودليل كم أكبر الدلائل على صدقهم، ولذلك وجه إليهم الحق سبحانه وتعالى أمره بممارسة حياتهم البشرية العادية، إلى جانب قيامهم بتبليغ الرسالة الإلهية، إذ لا تعارض بينهما ولا تناقض، فقال تعالى في هذا الربع إشارة إلى الشق الأول والشق الثاني {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} .
وغيرة من الله على حرمه رسله، وحفاظا على كرامتهم حتى لا يوصموا بالطمع والاستغلال، وحتى لا يحصل لأقوامهم أي شيء من الملل والاستثقال، تكلف الحق سبحانه وحده برزقهم، ولم يترك للغير سبيلا عليهم، وما من أحد منهم إلا وكان يعلن إلى الناس جميعا {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} ، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى في هذا الربع:{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} .
وتضمن كتاب الله في هذا الربع حقيقتين من الحقائق الجوهرية والأساسية في سير الحضارات والعمران، وفي انتظام العوالم والأكوان:
- الحقيقة الأولى- أن الجماعات الإنسانية لها آجال وأعمار، وبداية ونهاية، بالنسبة لبقائها وفنائها، ورقيها وانحطاطها، تبعا
لتمسكها بالنواميس الخلقية والعمرانية التي جاءت بها الهداية الإلية، أو تمردها عليها وخروجها عن جادتها المثلى، وأقرب مثال لهذه الحقيقة ورد في سياق إبادة قوم نوح بالطوفان، وهلاك قوم هود بالصيحة، وهلاك فرعون وملائه بالغرق، جزاء شركهم بالله وكفرهم برسله، وإلى هذه الحقيقة الأولى يشير قوله تعالى هنا:{مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} على غرار قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [الآية: 24].
- والحقيقة الثانية - أن الحق في جميع الأشياء واحد لا يتعدد، وأن الحق في جميع الظروف ثابت لا يتغير، وعلى هذا الأساس قامت النواميس الطبيعية التي تنظم الأكوان، والنواميس الخلقية والعمرانية التي تنظم حياة الإنسان {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23]، فبالحق المنبثق عن إرادة الله قامت السماوات والأرض، لا بالهوى الذي تمليه الشهوات والأغراض {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} [يونس: 32]. ولو كانت نفس النواميس الطبيعية والنواميس الخلقية والعمرانية تابعة لأهواء الأفراد والجماعات لما عرف الكون سيره المطرد، ولما أمكن فيه أي استقرار أو ثبات، ولما انتظمت حياة الإنسان على سطح الأرض لحظة واحدة، إذ لا سبيل حينئذ إلى تمييز الخبيث من الطيب، والمستقيم من المعوج، والحق من الباطل، ولسادت الفوضى والعماء. علاوة على أنه لا سبيل إلى ترضية الأهواء المتعارضة، والشهوات المتناقضة، وأقرب مثال
يؤكد هذه الحقيقة ورد في نفس السياق ما وقع عند الخروج عليها وعدم التزامها من انقسام البشرية على نفسها، وتمزيقها لوحدة دين الحق الوحيد، إذ جعلت منه أديانا متعادية، ومللا متطاحنة، وأحدثت فيه بدعا لا تحصى، تبعا لأهوائها المفرقة، على حد قوله تعالى هنا:{فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، ولولا كتاب الله الذي جاء بدين الحق على وجهه الصحيح لاختلط الحابل بالنابل، ولما عرف الحق من الباطل، وإلى هذه الحقيقة الثانية يشير قوله تعالى هنا:{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} .
وخُتِم هذا الربع بما يزيد خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه ثباتا على الحق، ومضيا في الدعوة إليه، بالرغم من شبهات المشركين والكافرين، ومن سلك مسلكهم من السابقين واللاحقين، وما يزيد المؤمنين إيمانا بأن أعداء الرسالة الإلهية التي بعث الله رسوله لتبليغها وتجديدها هم الضالون المبطلون، فقال تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} .