المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٤

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة مريم

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة طه

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأنبياء

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحج

- ‌الربع الأول من الأول من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المؤمنون

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والثلاثسنفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النور

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والثلاثسنفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الفرقان

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)(القسم الأول من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)(القسم الأول من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)(القسم الثاني من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)(القسم الثاني من هذا الربع)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الشعراء

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النمل

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة القصص

- ‌الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌تعليق وتحقيق

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة العنكبوت

- ‌الربع الثاني من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثين

بالمصحف الكريم (ت)

عباد الله

موعدنا في حصة هذا اليوم مع الثمن الثاني في الربع الثالث من الحزب التاسع والثلاثين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} .

ــ

يتحدث كتاب الله في آيات هذا الثمن عن الفترة التي قضاها موسى مقيما بمدين لدى صهره (صالح مدين وشيخها الكبير) وذلك بعد مفارقته لمصر ونجاته من فرعون وصحبه، ويبدأ الحديث عن هذه الفترة بتوجه موسى إلى ربه قبل التوجه إلى ناحية مدين، الخارجة عن نفوذ فرعون، مستسلما إلى رعاية الله وكفالته، سائلا الحق سبحانه وتعالى أن يهديه سواء السبيل، حتى لا يضل الطريق إليها ويبلغها سالما آمنا، وذلك قوله تعالى حكاية عنه:{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} . والمراد " بسواء السبيل " وسط الطريق الذي يسلكه إلى مكان مأمنه. قال الرازي: " أما قول موسى: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} فهو نظير قول جده إبراهيم عليه السلام:

ص: 502

{إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]، وموسى عليه السلام قلما يذكر كلاما في الاستدلال، والجواب، والدعاء، والتضرع، إلا ما ذكره إبراهيم عليه السلام، وهكذا الخلف الصدق (الصدق جمع صدوق) للسلف الصالح، صلوات الله عليهم وعلى جميع الطيبين المطهرين ".

وينتقل كتاب الله إلى الحديث عن رحلة موسى من بدايتها إلى نهايتها عندما وافى " ماء مدين " وكان الوقت وقت الهاجرة، ووجد الناس محلقين حول بئرهم التي يسقون منها، إذ هي مورد شربهم وسقيهم، وهم يتناوبون على السقي منها الواحد تلو الآخر، ثم يصبون الماء في الحياض لسقي مواشيهم، وكانوا أهل ماشية، وذلك ما يشير إليه إشارة خاطفة قوله تعالى هنا:{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} ، والمراد " بالأمة " هنا جماعة كثيرة العدد من أناس مختلفين، والظاهر أن موسى عليه السلام كان في حالة عطش من تعب الطريق وشدة الحر، فبادر إلى " ماء مدين " لري عطشه وغسل أطرافه. غير أنه لاحظ في نفس الوقت وقوف امرأتين معتزلتين عن الزحام، مكتفيتين بحجز غنمهما عن حياض الماء وعن الاختلاط بأغنام الرعاة الأشداء الأقوياء، في انتظار انتهائهم من سقي مواشيهم وانصرافهم، عسى أن تنالا نصيبهما من الماء الذي يفضل عن الآخرين إن أسعدهما الحظ، وذلك ما يشير إليه كتاب الله هنا في إيجاز وإعجاز إذ يقول:{وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} أي تحجزان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الرعاة وتخلو لهما البئر.

ص: 503

واستغرب موسى أن لا يلتفت أحد من ذلك الجمع الكبير من الرجال إليهما، فيأخذ بيدهما، ويسقي لهما ما يروي غنمهما ويزيل عطشهما، كما تقضي بذلك المروءة والرجولة والنجدة، لا سيما وهما المرأتان الوحيدتان من بينهم جميعا، إذ كان رجال مدين هم الذين يقومون بالسقي من دون النساء كما يفهم من السياق، فلم يلبث أن تقدم إليهما سائلا مستفسرا، ولم تلبثا أن عبرتا له في جواب موجز، لكنه جامع مانع، عن حالهما وعن حال كبير أسرتهما الذي بلغ من الكبر عتيا، فأصبح عاجزا عن الحضور، بنفسه لسقي الماء بدلا منهما، وذلك ما يتضمنه قوله تعالى حكاية عنه وعنهما:{قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} قال جار الله الزمخشري: " وإنما فعل هذا رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف، والمعنى: أنه وصل إلى ذلك الماء وقد ازدحمت عليه أمة من أناس مختلفة، متكافئة العدد، ورأى الضعيفتين من ورائهم، مع غنيمتهما، مترقبتين لفراغهم، فما أخطأت همته في دين الله تلك الفرصة، مع ما كان به من النصب وسقوط خف القدم والجوع، ولكنه رحمهما فأغاثهما، وكفاهما أمر السقي في مثل تلك الزحمة بقوة قلبه وقوة ساعده، وما آتاه الله من الفضل، في متانة الفطرة، ورصانة الجبلة، وفيه على ما كان به من انتهاز فرصة الاحتساب ترغيب في الخير، وانتهاز فرصه، وبعث على الاقتداء في ذلك بالصالحين، والأخذ بسيرهم ومذاهبهم " انتهى ما قاله الزمخشري.

ص: 504

ومعنى {مَا خَطْبُكُمَا} أي ما شأنكما الغريب، و " الخطب " هو الأمر الخطير الذي يكثر فيه التخاطب، لكونه غير مقبول ولا مألوف، ولا شك أن الوضع الذي وجد موسى عليه المرأتين، من إهمال الرعاة الرجال لإسعافها، وعدم المبالاة بإعانتها، يعد وضعا غريبا، و " خطبا " عجيبا.

ومعنى {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} أي حتى ينصرف رعاة الغنم بمواشيهم ويرجعوا من وردهم، و " الرعاء " أحد الجموع التي يجمع عليها لفظ الراعي، ومثله الرعاة.

ومعنى {تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ} فارق موقع السقي المعرض لأشعة الشمس، والتجأ إلى ظل ظليل، اتقاء لشدة الحر، واستجماما من عناء السفر الطويل.

وبعدما تنفس موسى الصعداء، من ألم الجوع وشدة الإعياء، وهو وحيد فريد، توجه مرة أخرى إلى ربه الذي نجاه من القوم الظالمين، يسأله الرفد والمدد، والعطاء الذي لا ينفد {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} .

والظاهر أن المرأتين اللتين أسعفهما موسى وسقى لهما استرق سمعهما ما تردد على لسانه من التوجه إلى الله، وكان موسى يعتقد أنه لم يسمع أحد صداه، فغلب على ظنهما أن موسى جائع يحتاج إلى ما يسد رمقه، لكنه يتعفف ولا يصرح بالسؤال، وأخبرتا والدهما " بعابر السبيل " الذي وفد على بلدهما، وما يبدو عليه من جميل الخصال وتبدل الأحوال، فقال لهما

ص: 505

أبوهما (صالح مدين وشيخها الكبير): " إذا هو جائع وينبغي إطعامه ".

ولو عرفتا موسى حق المعرفة لأدركتا أن همته العالية لا تهتم بالعيش الهنيء، والتمتع بأسباب الرفاهية، وإنما أراد بتوجهه إلى الله ومناجاته إياه إذ قال:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} : أن الخير الذي أسديته إلي يا إلهي عندما نجيتني من القوم الظالمين وحررتني من رق فرعون، منة كبرى طوقت بها عنقي، لا يقوم بحقها أي شكر، وما ينعم به آل فرعون من شفوف وثروة وهناء، لا يساوي عندي شربة ماء، إذ هو في الحقيقة عين الذل والفقر والشقاء، و " الفقر " في حمى الخالق هو " الغنى " على وجه التحقيق {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] أما الغنى في حمى المخلوق فهو الفقر الذي لا فقر بعده.

ووجه صالح مدين إحدى بنتيه إلى موسى تدعوه لينزل ضيفا عليه ويقدم له القرى {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} وإنما جاءت " على استحياء "، لأن الحياء الذي هو عبارة عن الحشمة والانقباض عن القبائح أبرز طابع يميز الفتيات العفيفات وكرائم النساء، ولا سيما إذا كان المخاطب رجلا وليس محرما من محارمهن، وإنما قالت بنت صالح مدين:{إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} فبينت الداعي والغرض لأن الدعوة صادرة منه لا منها، ورفعا لكل

ص: 506

شبهة أو ريبة يمكن أن تحمل عليها، وكما أحسن موسى إلى بنتي (صالح مدين) عندما سقى لهما، وأراحهما من عناء السقي وطول الانتظار من دون سابق معرفة، ها هو أبوهما الصالح يرى من واجبه أن يقابل الإحسان بالإحسان، وأن يبادر بدعوة موسى إلى ضيافته، واستقباله في بيته مع أعضاء أسرته لمكافأته، وإن لم يكن يعرف عنه إلا مجرد الملامح التي وصفتها له بنته الكبرى وبنته الصغرى.

وأجاب موسى الدعوة التي وجهها إليه صالح مدين على لسان بنته تصديقا لخبرها، فحضر من دون تأخر إلى بيته، ولما تعرف بعضهما إلى بعض، وجد كل منهما في الآخر ما يحببه في الصحبة والمرافقة، نظرا لما وجداه بينهما من مشاكلة وموافقة، وأفضى موسى بذات نفسه إلى صالح مدين، فما وسعه إلا أن يسليه عما فات، ويطمئنه على ما هو آت {فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .

وحيث أن صالح مدين كانت له أغنام ولم يكن لديه أجير يرعى غنمه، وإنما كانت بنتاه هما اللتان تسوقان الغنم مكان الرعاة، لكونه لا عون له سواهما، فقد انتهزت إحدى بنتيه فرصة وجود موسى ضيفا على أبيها، واقترحت عليه أن يستأجر موسى ليتولى رعي الغنم، وتستريح هي وأختها من عبئها المضني {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} ودعمت ترشيحها موسى لهذه المهمة بكونه يتوفر فيه وصفان اثنان قلما يجتمعان في كثير من الناس، وكل منهما له أهمية بالغة بالنسبة لأية مهمة، صغر شأنها

ص: 507

أو كبر: الوصف الأول أنه " قوي "، والوصف الثاني أنه " أمين "، إذ قالت، فجرى قولها مجرى المثل:{إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} .

وسبق في سورة النمل على لسان العفريت من الجن وهو يرشح نفسه لنقل عرش ملكة سبأ من مقرها إلى بلاط سليمان قبل أن يقوم من مقامه: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} ، فدعم ترشيحه لتلك المهمة بكونه " قويا " على نقل العرش، وكونه " أمينا " على ما فيه، والمراد " بالقوة " في هذا المقام ما يشمل القوة الجسمية والقوة الفكرية، من فطنة وكياسة، وسرعة بديهة، وحسن تصرف، ومن كان قوي الجسم ضعيف العقل، أو قوي العقل لكنه ضعيف الجسم، لا ينهض بالمهمة الموكولة إليه، ويتسرب الخلل إلى العمل المكلف به، بقدر ما هو عليه من ضعف جسمي أو ضعف فكري، أما " الأمانة " فهي بالنسبة لكل عامل صمام الأمان، الذي يحول بينه وبين الغش والكسل والإهمال، ويحميه من سوء التصرف والرشوة والاستغلال، قال أحد العلماء الحكماء:" إذا اجتمعت هاتان الخصلتان الكفاية والامانة في القائم بأمرك، فقد فرغ بالك، وتم مرادك ".

واقتناعا من (صالح مدين) وشيخها الكبير بما وصفت به بنته ضيفه موسى، حيث تأكدت فراستها فيه بفراسته هو وحديثه معه، وإلماما منه بما عليه موسى من كفاءة في الدين والحسب والنسب، وإحساسا منه بأن موسى يمر بمرحلة صقل وتصفية،

ص: 508

وتهذيب وتربية، فكر (صالح مدين) في أن يرتبط معه برابطة المؤاجرة والمصاهرة، تيمنا به وتبركا، وحيث أن موسى أصبح فقيرا من الدنيا لا يملك ما يدفعه صداقا للزواج المقترح، فقد عرض عليه صالح مدين العمل عنده أجيرا للرعي والسقي خلال ثمان سنين، على أن يكون ما يستحقه فيها عن عمله، من العوض المعلوم، هو مبلغ الصداق، وبهذه الطريقة يضمن استبقاءه إلى جانبه طيلة هذه المدة، ويكون ذلك عاصما له من العودة إلى مصر، حتى لا يصاب فيها بأذى فرعون {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} . لكن موسى إذا مضى في عمله ثمان سنين، وأراد أن يتطوع بزيادة سنتين أخريين ليتم عشر سنين، كان أوفى واكمل، وذلك من دون أي إلزام بهذه الزيادة من طرف صالح مدين، ولا التزام بها من طرف موسى {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي ستجدني يا موسى من الصالحين في حسن العشرة والوفاء بالعهد، واتكل موسى على توفيق الله ومعونته، في القيام بعمله وخدمته، وأكد لمستأجره أنه سيكون عند حسن ظنه في حسن المعاملة والقيام بالواجب، {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ}: أي هذا تمام قول ونفاذ عقد {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} أي ثمان سنين أو عشر سنين {فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي على ما تعاهدنا عليه وتواثقنا شاهد ورقيب، اكتفاء منهما بإشهاد الخالق سبحانه وتعالى عليهما من دون حاجة إلى إشهاد أحد من خلقه.

ص: 509

وقد استمد علماؤنا رضي الله عنهم من هذه الآيات البينات أربع فوائد:

- الأولى: مشروعية الإجارة، وأنها كانت أمرا معلوما ومشروعا بين أهل مدين، ودليل هذه الفائدة {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} . على أن الإجارة أمر متعارف في كل ملة، لأنها من ضروريات الخلطة والتعامل بين الناس.

- الثانية: عرض الولي الزواج بالبنت التي إلى نظره على من يراه كفوءا لها.

- الثالثة: تولي الولي للعقد عليها.

- الرابعة: تقديم ذكر الزواج في عقد الزواج على ذكر الزوجة، لأنه الملتزم للصداق والنفقة، والقيم على الأسرة، ودليل هذه الفوائد الثلاث {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} .

وإنما لم يقع تعيين البنت التي يريد تزويجها هنا، لأن الأمر كان ما يزال مجرد " عرض " لا " عقد "، فلما وقع قبول العرض تعينت الزوجة وتم العقد، وبهذا يتبين أن قصص الأنبياء التي يتحدث عنها كتاب الله مصدر للتوجيه، ومنجم خصب للاستنباط، علاوة على النصوص الصريحة في الأحكام من آيات الذكر الحكيم، وسنة رسوله الكريم، قال تعالى في سورة الأنعام:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الآية: 90]، وقال تعالى في نفس السورة:{وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الآية: 87].

ص: 510