الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب الأربعين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موعدنا في هذه الحصة مع الربع الثاني من الحزب الأربعين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} إلى قوله تعالى في (سورة العنكبوت المكية): {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
ــ
لقد نبهنا عند الشروع في تفسير (سورة القصص المكية) إلى ان أكبر جزء من آياتها تشغله قصة موسى مع فرعون وقومه، ثم قصة قارون مع قوم موسى، فهما القصتان الوحيدتان الواردتان في هذه السورة، أما بقية الآيات التي تتخللهما فهي للتعقيب والتذييل واستخلاص المثلات والعبر، وها هو كتاب الله بعدما عرض من القصة الأولى ما يعزز مركز الرسول ويؤكد صدق رسالته، ويكون عبرة له ولأمته، يشرع في الحديث عن قصة قارون الذي كان من قوم موسى فبغى عليهم.
ومن وصف كتاب الله لقارون يكتشف المومنون نموذجا غريبا من حياة المترفين الأغرار، وما هم عليه من كبر
وبطر وعتو واستكبار، ويشاهدون الصراع القائم بين " العلم السطحي الأعمى " الذي هو أسير الشهوة والأثرة والأنانية، و " العلم العميق المستنير " الذي هو المعيار الصحيح لتمييز الحق من الباطل، والنعيم الباقي من النعيم الزائل.
يقول الله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} وبذلك يثبت لقارون صفة البغي والظلم، وأنه لم يرقب في قومه إلا ولا ذمة، وهذه الصفة وحدها كافية لأن ينال من اجلها العقاب الإلهي الصارم " فالظلم ظلمات يوم القيامة "" ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب " كما جاء في الحديث الشريف.
ويقول الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} ، إشارة إلى الثراء الواسع الذي أصبح يتقلب فيه، حتى ان مفاتح خزائنه وحدها أصبحت - من كثرة كنوزه وتنوع مدخراته - تكون حملا ثقيلا يعجز عن ضبط أمره والنهوض به الجمع القوي من الخدم والحشم. وكون قارون ممن يكنز المال ولا ينفقه في سبيل الله، ولا يشرك في النفع به أحدا من عباد الله، كاف ليجعله موضع غضب الله، مصداقا لقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].
ويرى عقلاء القوم المتبصرون، في سلوك قارون المنحرف وعمله الفاسد، ما يثير الاشمئزاز ويستحق الانتقاد، ولا سيما ما هو عليه من المبالغة في الإعجاب بالنفس والاستعلاء على العباد،
ويحاولون أن يسدوا إليه النصح الخالص والموعظة الحسنة، عسى أن يصلح خطأه ويقوم اعوجاجه، ويندرج في عداد من يصدق عليهم مثل قول الرسول الأعظم:" نعم المال الصالح للرجل الصالح " وذلك ما حكاه كتاب الله عنهم {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} لكنه لا يلبث أن يرد عليهم رد الجاهلين الذين أمنوا مكر الله، ولا يعترفون بأي فضل لله، وبينما يقول الله تعالى ممتنا على قارون {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} ، مثبتا أن العطاء كله إنما هو منه وإليه، ويقول له عقلاء قومه:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ} موقنين بأن ما آل إليه من المال إنما استخلفه الله فيه، وجعله وديعة بين يديه، إذا به يرد عليهم في صلف وغرور، منكرا منة الله، ومتجاهلا كل من له حق في المال من ضعفاء عباد الله {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} . أما " نصيب الإنسان من دنياه " الذي تشير إليه الآية {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} فهو أن يعيش ويأكل ويشرب غير مضيق عليه، حسبما فسره الإمام مالك.
وعقب كتاب الله على تصريح قارون المليء بالجهل والكبر، مذكرا بسنة الله التي قد خلت من قبل في هذا النوع من عتاة المترفين، وأنه يمهلهم ولا يمهلهم، بل ينتقم منهم ويهلكهم، ويصبحون أثرا بعد عين، وذلك قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا}
والضمير يعود على قارون وكل من هو على شاكلته، ثم يقول الله تعالى:{وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} ، إشارة إلى حقارة هذا النوع المتكبر المتجبر وهوانه على الله، حتى انه لا يسأل يوم القيامة سؤال استعتاب، لأنه ليس أهلا للعتاب، كما في قوله تعالى:{ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [النحل: 84]، وقوله تعالى:{هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35، 36]. وقوله تعالى: {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24]. وهذا لا ينفي أن أمثال هؤلاء المجرمين سيسألون يوم القيامة سؤال تقريع وتوبيخ يتلاءم مع مقدار جرمهم، وبالغ كبرهم، مصداقا لقوله تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93].
وليوضح كتاب الله ما كان عليه قارون من فخر وتيه واختيال، واعتزاز شديد بالثروة والمال، قال تعالى:{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} أي خرج على قومه مختالا فخورا في زينة فاخرة جاوزت الحدود، وتبرج أثيم فاق كل معهود، الأمر الذي فتن به ضعفاء النفوس والعقول من قومه، فأخذوا يتمنون على الله أن يصبحوا مثل قارون ثروة ومالا، جاهلين أن الثروة التي لا يعترف صاحبها بفضل الله، ولا يؤدي عنها حقوق الله، كثروة قارون، إنما تجر على صاحبها عقابا ووبالا، لكن سرعان ما قام عقلاء القوم الذين هم على بينة من حقائق الدين ووقائع التاريخ بنصحهم وتحذيرهم من مثل تلك الأماني الباطلة والشهوات الزائلة، وذكروا أولئك المعجبين المبهورين بثروة قارون وزينه:
بأن الإيمان بالله والعمل الصالح هما أقرب سبيل إلى نيل رضا الله ورحمته، وضمان رزقه ونعمته، وأن الصبر عن الشهوات والأماني هو الطريق الوحيد إلى الفوز بنعيم الله ودخول جنته.
وإلى الانفعالات والتعليقات التي أثارها تبجح قارون وخروجه في زينته، بالنسبة لكلا الفريقين يشير قوله تعالى حكاية عنهم:{قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} .
وبقدر ما كانت " خرجة " قارون في زينته، محفوفا بالحشم والخدم، لافتة للأنظار، مثيرة للأفكار، ها هو الحق سبحانه وتعالى يأخذه أخذ عزيز مقتدر بشكل يدهش العقول ويبهر الأبصار، وذلك قوله تعالى:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي لا حشم ولا خدم يستطيع أن يرد عنه عقاب الله، ولا مال ولا جاه يشفع له عند الله {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ}. قال الإمام القشيري وهو يصف قارون:" حمله حب الدنيا على جمعها، وحمله جمعها على حبها، وحمله حبها على البغي على قومه، وصارت كثرة ماله سبب هلاكه ".
ولا يكاد عقاب الله ينزل بقارون المتبرج المختال، حتى تزول الغشاوة عن أعين الذين كانوا بالأمس القريب يتمنون أن يكونوا مثله، فيعترفون بمنة الله عليهم، إذ لم يعاقبهم على ما تمنوه، ولم يخسف بهم وبديارهم كما فعل بقارون، ويقرون بأن سعة الرزق أو
ضيقه إنما مردهما إلى حكمة الله وتدبيره، ويدركون مشاهدة وعيانا أن من أمن مكر الله، وكفر بأنعم الله، لا تكون عاقبته إلا خذلانا وخسرانا، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} .
وكلمة (وَيْ) في قوله تعالى هنا: {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ} ، وقوله:{وَيْكَأَنَّهُ} هي في الأصل كلمة مستقلة ومفصولة عن (كأن) التي جاءت بعدها، وإن كانت في رسم المصحف الكريم متصلة معها اتصال الكلمة الواحدة، وهي كلمة تقال عند التنبيه للخطأ وإظهار التندم، وكتاب الله عندما استعمل كلمة (وَيْ) في هذا المقام أراد أن يبين أن قوم قارون قد تنبهوا إلى خطئهم في تمنيهم، عندما قالوا من قبل:{يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} ، وأنهم تندموا على ما فرط منهم من فلتات اللسان، عندما رأوا رأي العين أن مآل الكافرين بأنعم الله هو الخذلان والخسران، وهذا المعنى هو الذي يعبر عنه قوله تعالى في آية أخرى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].
وبعدما سجل كتاب الله نفاذ حكمه القاهر فوق عباده، في فرعون الطاغية المتجبر، الذي علا في الأرض وجعل أهلها شيعا، واستكبر هو وجنوده في الأرض حيث نبذه وجنوده في اليم نبذ
النواة، كما ورد ذلك في ختام قصة موسى، وبعدما سجل كتاب الله نفاذ حكم الله القاهر فوق عباده في قارون، الذي بغى على قومه، وخرج في زينته متبرجا مختالا، حيث خسف به وبداره الأرض، كما ورد ذلك في نهاية قصة قارون، انتقل كتاب الله إلى تقرير حقيقة عامة تشملهما وتشمل كل من سلك مسلكهما وكان على شاكلتهما من الطغاة المفسدين، وعتاة المترفين، مبينا أن من لم يعمل على إقامة العدل بين الناس، ونشر الصلاح في مجتمعاتهم، لن يكون له أدنى حظ من النعيم المقيم في دار الخلود، لأنه خان أمانة الخلافة عن الله في الأرض، وقابل نعمة الله بالكفران والجحود، وذلك قوله تعالى في إيجاز وإعجاز:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} . وتقوى الله هي الحاجز الحصين من الوقوع في شرك الفساد، وهي الدواء الناجع لعقدة الاستعلاء والاستبداد.
وانتقل كتاب الله إلى الحديث عن سلوك الإنسان في حياته اليومية، وما يقضي فيه وقته من حسنات، تنفع الأفراد والجماعات، وما قد يرتكبه من سيئات لا يستريح ضميره إلا إذا كفر عنهما بالحسنات، فبين أن الحق سبحانه وتعالى الذي يريد الخير لعباده يجزي على الحسنة بخير منها ويضاعف أجرها، وأنه رفقا بهم ونظرا إلى ضعفهم لا يعاقب على السيئة إلا بقدرها، نظرا لأن المومن الحق يأنف بطبعه من ممارسة السيئات، ولا تصدر منه السيئة إلا على أنها هفوة من الهفوات، وفلتة من الفلتات {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ
خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
ولما انتهى كتاب الله من عرض قصة موسى مع فرعون وقصة قارون مع قوم موسى، وهما محور الحديث في " سورة القصص " توجه بالخطاب في الآيات الأربع الأخيرة من هذه السورة إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، يمن عليه بنعمة الوحي الذي آتاه، ويذكره بتعاليم الحنيفية السمحة التي يهتدي بها في الدعوة إلى الله، ويأمره بالثبات على الحق والصمود في وجه أعداء الله، ويعرفه بأنه مسؤول عن رسالته أمام الله، وذلك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} أي أن الذي فرض عليك تلقي القرآن، وحفظه وتلاوته، وتبليغه للناس، وتبيينه لهم بما أراك الله، والحكم به في شؤونهم الخاصة والعامة، لرادك إليه، وسائلك يوم القيامة عن جهادك في سبيل القرآن، وعن دور رسالة القرآن، وأثرها في حياة أمة القرآن، وإلى هذا المعنى المناسب للسياق، والمتسق معه أحسن اتساق، ينظر قوله تعالى في آية أخرى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6] وقوله تعالى في نفس الاتجاه: {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزمر: 69].
وكما قال موسى لفرعون وملائه فيما سبق بإرشاد من ربه: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} ها هو كتاب الله يلقن لنبيه الصادق الأمين نفس الأسلوب الحكيم، ويحضه على أن يتلطف مع من يجادلونه، ويرخي لهم
العنان، عسى أن يستدرج إلى الحق من يجادل في الحق بغير حجة ولا برهان، وذلك قوله تعالى:{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ، على غرار قوله تعال في سورة سبأ:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الآية: 24] ثم خاطب نبيه مذكرا إياه بنعمة الوحي والكتاب المنزل، الذي لم يكن يتوقع نزوله عليه بحال، فقد كانت النبوة قاصرة على أنبياء بني إسرائيل منذ عدة أجبال، لكن الله تفضل فأنزل عليه كتابه المبين، وأرسله رحمة للعالمين {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} .
وتثبيتا للرسول وأمته على الحق، بالرغم من جميع المعوقات والعراقيل، وإغراء بالمضي قدما في الدعوة إلى الله دون ملل ولا كلل، والصمود في وجه أعداء الدعوة بصبر وجلد، كيفما كانوا وكيفما كانت أساليبهم الملتوية، قال تعالى:{فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ * وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} . وإذا كان هذا الخطاب موجها في ظاهره إلى الرسول، فإنه موجه في الحقيقة عن طريقه إلى كل فرد من أمة القرآن، في كل جيل وكل زمان.
وعندما أشرفت " سورة القصص " على التمام والكمال، ذكر كتاب الله كافة البشر، وفي طليعتهم كل من طغى وتجبر، بحقيقة أزلية كبرى تتهاوى أمامها جميع الادعاءات الزائفة والتحديات الباطلة، ألا وهي أن الله تعالى هو وحده الحي القيوم، الدائم
الحياة والبقاء، الذي لا يلحقه موت ولا فناء، المتصرف في ملكه والقاهر فوق عباده من كافة الأحياء دون استثناء، وذلك قوله تعالى في ختام هذه السورة:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ} على غرار قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} أي على الأرض {فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27].
وردا على من يظن أن مسؤولية الإنسان تنتهي بمفارقة الروح للجسد، وأنه لا حشر ولا نشر، ولا ثواب ولا عقاب بعد الموت، أعقب قوله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} بقوله تعالى: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، بمعنى أن كل إنسان هالك عند الموت لا محالة، لكنه رغم موته لا بد أن يبعث ويحشر ويرجع إلى الله لينال جزاءه الأوفى إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وأما هلاك الكون بالمعنى العام فقد فسره ابن حزم وابن القيم وفخر الدين الرازي بما يحدث في الكون من انقلاب شامل يتجلى في تغيير معالمه وتبديل أحواله، حسبما وصفته وفصلته آيات الذكر الحكيم، وذلك طبقا لمشيئة خالق الكون ومدبر أمره، الذي يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد. وحجتهم في ذلك وجوب الوقوف عند ظاهر قوله تعالى في سورة إبراهيم:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [الآية: 48].
والآن وقد انتهينا بفضل الله وتوفيقه من تفسير " سورة القصص " المكية نشرع بعون الله ومشيئته في تفسير " سورة العنكبوت " المكية أيضا، وقد جاءت فاتحتها مبدوءة بالحروف
الهجائية المقطعة على غرار السور الثلاثة السابقة عليها: سورة الشعراء، وسورة النمل، وسورة القصص {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * ألم} وهذه الحروف هنا هي الألف واللام والميم، وإنما سميت " سورة العنكبوت " لقول الله تعالى فيها:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
وفي فاتحة هذه السورة تصدى كتاب الله لتعريف المؤمنين الصادقين بأن ما هم عليه من إيمان وصدق لا بد أن يجلب لهم كثيرا من المتاعب، فالمعركة الدائرة بين الخير والشر والحق والباطل لا تفتر أبدا، وما عليهم إلا أن يوطنوا أنفسهم على الصمود في وجه الباطل، وتحمل ما تفاجئهم بع الأيام من الفتن والمحن، فمن لم يثبت ولم يصمد أمام المحنة والفتنة اندرج في عداد الكاذبين، ولم يكن من المؤمنين الصادقين، وذلك قوله تعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} .
ونبه كتاب الله إلى أن الذين يعملون السيئات، ظنا منهم أن الله لا يراهم ولا يحاسبهم، لن يفلتوا من قبضة الله، وأنه سيؤاخذهم بما كسبوا عاجلا وآجلا، وذلك قوله تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} .
ثم بشر المؤمنين الصادقين بثمرة جهادهم للنفس، وثمرة جهادهم لأعداء الحق، فقال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ
فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}.