الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب الثاني والثلاثين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الثاني من الحزب الثاني والثلاثين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} إلى قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} .
ــ
يواصل كتاب الله في هذا الربع حديثه عن قصة موسى مع فرعون وقومه، ويستعرض في آياته البينات ما دار بين الطرفين من محادثات ومحاورات، توضح موقف كل منهما بما يشفي ويكفي.
فمن ذلك ما حكاه كتاب الله على لسان فرعون {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} ، وفرعون بهذه المقالة يتهم موسى بأن له هدفا سياسيا من وراء الدعوة التي جاء بها من عند الله، وأنه إنما يريد من ورائها أن يستولي مع قومه على مقاليد الحكم، وأن يطيح بنظام فرعون وملائه ليقيم على أنقاضه نظاما آخر، وقد حكى كتاب الله عن فرعون مقالة أخرى عرض فيها بموسى واتهمه بتهمة أخطر وأكبر، إذ قال في شأنه:
{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] وسيرا في نفس الطريق، وبمثل هذا النوع من التهم الباطلة، نطق السحرة الذين جندهم فرعون لمباراة موسى، فقد حكى كتاب الله عنهم أنهم {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} إشارة إلى موسى وأخيه هارون {يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} . والمراد " بالطريقة المثلى " الهدي المستقيم الذي لا يوجد ما هو أمثل منه وأفضل، والإتيان بجملة (هذان لساحران) بعد " إن " جار في اللسان العربي على قراءة أهل المدينة والكوفة، طبقا للاستعمال الخاص المعروف في لغة بني الحارث بن كعب وغيرهم، حيث يجعلون رفع المثنى ونصبه وخفضه بالألف، وهناك قراءة ثانية بتخفيف " إن " بدلا من تشديدها، بمعنى (ما هذان إلا ساحران). وهناك قراءة ثالثة مطابقة للاستعمال الشائع المتعارف، وهي مروية عن أبي عمرو (إن هاذين لساحران). وقال الزجاج:" لا أجيز قراءة أبي عمرو، لأنها خلاف المصحف ".
ومن ذلك ما حكاه كتاب الله على لسان موسى {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} ، وموسى بهذه المقالة كان واثقا من نصر ربه، وكان ساعيا في إبراز المعجزة التي جاء بها على مرأى ومسمع أكبر عدد ممكن من الناس، ولذلك تواعد مع فرعون وسحرته على يوم عيد، حتى تهرع إليه الجماهير من كل صوب وحدب، وهو " يوم الزينة " الذي يتفرغ فيه الناس من أعمالهم، ولنفس الغاية اقترح موسى أن يكون اجتماع الناس ذلك اليوم في وقت الضحى، الذي هو أوضح فترة من
فترات النهار بعد شروق الشمس، إذ لو تواعد معهم عند طلوع الفجر أو عند الظهيرة لما حضر إلا القليل، ولو تواعد معهم عند المساء لما ظهرت المعجزة على الوجه الأكمل، لغلبة الظلام واختلاط الرؤية، قال ابن كثير تعقيبا على هذه الآية:" وهكذا شأن الأنبياء، كل أمرهم بين واضح، ليس فيه خفاء ولا ترويج، ولهذا لم يقل ليلا، ولكن نهارا ضحى "، وقال القرطبي تعليقا على نفس الآية:" وإنما واعدهم ذلك اليوم، ليكون علو كلمة الله، وظهور دينه، وزهوق الباطل، على رؤوس الأشهاد، وفي المجمع الغاص (بالناس)، لتقوى رغبة من رغب في الحق، ويكل حد المبطلين وأشياعهم، ويكثر التحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جمع أهل الوبر والمدر ".
ومن ذلك ما حكاه كتاب الله عن سحرة فرعون كيف خاطبوا موسى وكيف أجابهم عند بدء المباراة أو المصارعة بين الحق والباطل {قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا} فقد فضل موسى أن يكون سحرة فرعون هم السابقين، ثقة منه بأن العاقبة للمتقين، ورغبة في أن تكون كلمة الحق هي الكلمة الأخيرة، إذ هي فصل الخطاب الذي لا معقب له، وقد ثبته الحق سبحانه وتعالى في هذا الموقف الحرج بقوله:{لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} فلم يخش مظاهر التدجيل والتهويل، ولم يرهب مناظر السحر المبني من أساسه على التخييل والتضليل، وهكذا ينبغي لكل داع من دعاة الحق أن يستوعب قبل كل شيء شبه الخصوم، ثم ينقض عليها واحدة بعد
الأخرى بالإبطال، ولا يترك لرواجها أي مجال.
ومن ذلك ما خاطب به الحق سبحانه وتعالى رسوله موسى إذ قال له: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} فقد أصدر أحكم الحاكمين بهذا الخطاب الجامع المانع - وذلك قبل أن تنتهي المباراة أو المصارعة - حكمه الذي لا يرد، بفشل فرعون وسحرته فيما بيتوه من كيد، وبخيبتهم فيما نظموه من تحد ومواجهة للحق الصراح {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81].
ومن ذلك ما حكاه كتاب الله على لسان فرعون بعد ما نفض السحرة أيديهم من فرعون وملائه، وآمنوا برب موسى وهارون {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} فكان قول فرعون هذا دليلا على ما أصاب عقله من خلط وخبط، لهول المفاجأة التي فوجئ بها هو وقومه، حتى أتهم فرعون نفس السحرة الذين كانوا قبل لحظات محل ثقته وطوع يديه، بأنهم أصبحوا تلامذة لموسى، بمجرد ما أعلنوا إيمانهم بالله، وبراءتهم من فرعون ودينه، وأصر فرعون في تعبيره على أن يتهم موسى بأنه هو الذي علمهم السحر الجديد. يضاف إلى ذلك ما يتضمنه خطاب فرعون لسحرته السابقين من جهل فاضح بخلجات النفوس وتقلبات القلوب، فالإيمان متى خالطت بشاشته قلب الإنسان تحول في الحال من حال إلى حال، ومفاتح القلوب هي قبل كل شيء بيد الله، لا بيد الطغاة المتمردين على الله، والشأن في كلمة الحق أن تغزو الآذان، دون استئذان.
ومن ذلك ما حكاه كتاب الله على لسان السحرة، الذين تحولوا بفضل معجزة موسى إلى مؤمنين بررة، وهم يردون على فرعون {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} فكان ردهم على فرعون ردا مفحما، لأنهم آمنوا بربهم عن برهان وبينة، وفارقوا دين فرعون وقومه عن اقتناع، فلا شيء يستطيع أن يردهم عن سلوك المحجة البيضاء، ولا شيء يقنعهم بالاستمرار في عبادة طاغية متكبر، لمجرد أن يقول {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} ، فقد اهتدوا إلى معرفة الإله الحق الذي {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ، وبعدما رفعت عنهم غشاوة الجهل والنسيان، ها هم يقبلون بشوق وحماس على عبادة الرحمن، بكل طاعة وإذعان، متحملين جميع التضحيات والآلام التي يفرضها عليهم حكم الظلم والطغيان، إذ لا سلطة لهذا الحكم الغاشم إلا في الدار الفانية، وهم مطمئنون إلى حكم الله العادل الذي سيلقونه في الدار الباقية {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .
ومن ذلك ما أوحاه الله إلى نبيه موسى بعد انتصاره في الجولة الأولى {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} جريا على سنة الله التي لا تتخلف، في نصرة كل مظلوم التجأ إلى الله، واعتصم بحبل الله، وأسلم وجهه إلى الله، كان فردا أو جماعة، فمن تمسك بالعروة الوثقى وجعل كلمة الله هي العليا في جميع التصرفات، شاهد من خوارق
العادات، ما لا يعجز عنه رب الأرض والسماوات، وتخلص من جميع الأزمات، وأفلت من قبضة عدوه دون أن يلحق به العدو أية آفة من الآفات.
ومن ذلك قوله تعالى تعقيبا على الموقف البليد الذي اتخذه فرعون ضد الرسالة الإلهية التي حملها موسى إليه وإلى قومه: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} ، وهذا التعقيب القرآني البديع يعتبر ردا على مزاعم فرعون التي كان يرددها أمام الملأ من قومه، تضليلا لهم وتمويها عليهم، فقد كان يقول كما حكى عنه كتاب الله في آية أخرى:{مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، فأكد كتاب الله في هذا المقام أن فرعون إنما أضل قومه ولم يهدهم، وجر الهلاك على نفسه وعليهم، وهذا دليل على المسؤولية الثقيلة التي يتحملها الرؤساء والكبراء عن أنفسهم وعن قومهم، مما يجب أن يحسبوا له الحساب، ويقدروا عواقبه التقدير الصحيح حتى يفلتوا من العقاب والعذاب، فكم من رئيس أو كبير بعثت على يده أمة، وكم من رئيس أو كبير هلكت على يده أمة، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى في آية أخرى على لسان الأقوام المخدوعين المضللين، وقد أصبحوا من سادتهم متبرئين وعلى كبرائهم ثائرين:{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67، 68] {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا
مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 166، 167].
ومن ذلك قوله تعالى في نفس السياق: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ} ممتنا عليهم بنصر موسى والإفلات من قبضة فرعون، ومن مطاردة جنوده لهم ليردوهم على أعقابهم خاسرين. وامتنان الله بالنجاة قائم على الدوام، بالنسبة لكل من استغاث به من الظلم والطغيان، واستعان على مكافحة الطغاة بالصبر والإيمان، لكن بني إسرائيل كغيرهم كلما طغوا وأصبحوا ظالمين، وتعدوا حدود الله واعتدوا على الحق المبين، لا بد أن يسقطوا من جديد، في قبضة جبار عنيد، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى خطابا لهم ولكل من جاء بعدهم:{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي لا تكفروا النعمة، ولا تنسوا شكر المنعم بها عليكم، فقد حذر كتاب الله هنا من التجاوز والطغيان من كانوا إلى عهد قريب يئنون من الطغيان، لأن عاقبة الطغيان بالنسبة لأي إنسان كيفما كان هي الإبادة والهلاك، والتعرض لغضب الله الذي لا يرضى لحرماته بالإهانة والانتهاك، وهذا المعنى هو الذي زادته الآية التالية توضيحا وإشراقا في صيغة العموم والشمول، إذ قال تعالى:{وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} كأنما سقط إلى الهاوية من جبل شاهق، و " غضب الله " كناية عن استحقاق عقابه وعذابه، ومقته وخذلانه لمن أعرض عن كتابه.
وخُتِم هذا الربع بآية من أرجى آيات الذكر الحكيم، لأنها
تفتح باب المغفرة على مصراعيه في وجه كل من أسرف على نفسه ففرط في جنب الله، ولم يؤد حقوق الله، وداخله اليأس والقنوط من رحمة الله، وجيء فيها باسم الله (الغفار) في صيغة بلغت الغاية في التأكيد، إيذانا بعفوه وستره للأوزار، ألا وهي قوله تعالى:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} . و " ثم " الواردة في هذا السياق إنما تعني هنا مجرد ترتيب الخبر على الخبر، ومقتضى هذه الآية أن من حل عليه - لسبب من الأسباب - غضب الله، في إمكانه أن يغير الوجهة، ويسلك السبيل المؤدي إلى رضا الله، والسبيل القاصد إلى عفو الله وغفرانه، ونيل رضوانه، حسبما حددته هذه الآية الكريمة، هو الإقبال على التوبة أولا، وتجديد الإيمان ثانيا، وممارسة العمل الصالح ثالثا، والثبات على الهدي القويم إلى لقاء الله رابعا، فهذه شروط أربعة من استوفاها أوشك أن لا يبقى في قلبه مرض، وأوفى على الغرض.