الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب الثامن والثلاثين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الثالث من الحزب الثامن والثلاثين في المصحف الكريم، مع خمس آيات سابقة عليه، واقعة في نهاية الربع الماضي اقتضى النظر تأجيلها إلى هذه الحصة، حتى نأتي بتفسيرها في سياق واحد، ابتداء من قوله تعالى في فاتحة سورة النمل المكية:{بسم الله الرحمن الرحيم طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} إلى قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} .
ــ
بعدما انتهينا من تفسير " سورة الشعراء " المكية نشرع اليوم بعون الله وتوفيقه في تفسير " سورة النمل " المكية أيضا، وقد أطلق على هذه السورة " سورة النمل " أخذا من قوله تعالى في الآية الثامنة عشرة منها:{حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} ، والملاحظ أن فاتحة السورة النمل هذه مشابهة كل الشبه لفاتحة سورة الشعراء السابقة، إذ كل من السورتين مفتتح بحروف مقطعة من حروف
الهجاء، ففي سورة الشعراء (طسم) وفي سورة النمل (طس) وأول آية في سورة الشعراء:{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} وأول آية في سورة النمل: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ} ، وكما تصدى كتاب الله في سورة الشعراء لإبطال شبهات أعداء القرآن تصدى هنا لنفس الشيء، زيادة في الإقناع والبيان، وكما تضمنت سورة الشعراء جملة من قصص الأنبياء والمرسلين أوردت سورة النمل حلقات أخرى من بعض تلك القصص، كقصة موسى وقصة صالح وقصة لوط، وأضافت قصصا أخرى فيها عبرة للمعتبرين، وحجة قائمة على الجاحدين والمنكرين، كقصة سليمان التي تخللتها قصة النمل وقصة الهدهد وقصة ملكة سبأ.
وبعد التذكير بما في هذه القصص من مواعظ وعبر أخذ كتاب الله يوجه الخطاب تلو الخطاب إلى كافة البشر، من تقدم منهم في عهد الرسالة ومن تأخر، داعيا إياهم إلى التأمل في آيات الله السارية في الكون، بما فيه من أرض وسماء، وبر وبحر، ورياح وأمطار، وجبال وأنهار، وليل ونهار، ومن هذا المنطلق انتقل كتاب الله إلى الحديث عن البعث والحشر وبعض أشراط الساعة، وناقش الشاكين في البعث والمكذبين بالحياة الآخرة مناقشة تبطل شبهاتهم، وتقضي على تحدياتهم، وتخللت ذلك كله آيات بينات، تؤكد لخاتم الأنبياء والرسل رعاية الله له من فوق سبع سماوات، وهو يخوض أقسى معركة خاضها رسول ضد الشبهات والشهوات.
فقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ * هُدًى
وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، ينص على أن كتاب الله يتضمن أمرين:
- الأمر الأول هداية الخلق، إلى كل ما هو حق، حتى يتفادوا كل ما هو باطل، قولا وفعلا واعتقادا.
- الأمر الثاني تعريف المهتدين به، بما يلقونه من البشائر في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فلا يعتري حياتهم خلل ولا اضطراب، ويكونون بمنجاة من أليم العذاب.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} وصف للمومين، بأن لإيمانهم تأثيرا بارزا في سلوكهم، فهم حريصون كل الحرص على إقامة الصلاة، التي هي أول حق من حقوق العباد، وم أخذ على عاتقه القيام بهما كان على قدم الاستعداد للقيام بما دونهما.
وقوله تعالى {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وصف ثان للمؤمنين المهتدين بهدي القرآن، إذ لا يكون مهتديا به، إلا من كان على يقين تام بالنشر والحشر والنشأة الثانية، علاوة على ما يقوم به من حقوق الله وحقوق العباد، أما من كان يقوم بذلك على وجه الاحتياط لا غير، دون جزم بالحياة الآخرة، فلا يعد في الحقيقة مهتديا بهدى القرآن، لأنه لا يزال في شك من أمره غير كامل الإيمان.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ
أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} يشير إلى حقيقة نفسية واجتماعية دل عليها الاستقراء في القديم والحديث، ألا وهي أن كل شخص ليس عنده إيمان بالآخرة، ويعتقد أن حياته تنتهي عند حلول الموت، تزداد أنانيته حدة، ويزداد شرهه شدة، إذ يخيل إليه أن ذاته هي البداية والنهاية، وأن حياته في الدنيا ليست وسيلة وإنما هي في نفسها غاية، فلا يترفع عن طرق أي باب من الأبواب، ولا يتورع عن اتخاذ أحط الوسائل وأشنع الأسباب، لاختلاس أكبر قدر ممكن من المنافع والشهوات، وانتزاعها إن لم يكن بالحيلة فعن طريق العنف والجرائم والموبقات، لأن المجتمع في تصوره القاتم عبارة عن غابة موحشة وأدغال، وكل شيء في نظره القاصر مباح وحلال، ما دامت نهاية حياته القصيرة حسبما يخيل له خياله المريض هي التفسخ والفناء والانحلال. ووصف كتاب الله عاقبة هذا النوع التائه المنحرف فقال:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} .
وليلفت كتاب الله نظر الشاكين والمكذبين إلى ما يتضمنه القرآن من الحق المبين، حتى يكونوا مما فيه على بينة ويقين، قال تعالى مخاطبا رسوله الكريم:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} و " الحكيم " لا يوحي إلا بالحكمة، و " العليم " لا ينطق إلا بالعلم، ومن لم ينتفع بما في القرآن من علم وحكمة بقي معدودا في عداد الجهلة والسفهاء، غريقا في أوحال المغالطات والجدل والمراء.
وقص كتاب الله على رسوله والمؤمنين حلقات أخرى من
قصة موسى الكليم عليه السلام تتضمن تكليمه وإرساله من عند الله، وتمرينه على استعمال المعجزات التي يتحدى بها أعداء الله، مع ما يتصل بذلك من ظروف وملابسات، كلها مفاجآت، فقال تعالى {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} أي أبصرتها من بعيد {سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} أي آتيكم بشعلة نار تستدفئون بها {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} أي بورك فيك يا موسى وفي الملائكة، فأنت نزيل البقعة المباركة، {وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} أي ولى خائفا ولم يرجع، لكن ناداه ربه ليهدي روعه {يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} .
وقوله تعالى هنا: {فِي تِسْعِ آيَاتٍ} إخبار لموسى عليه السلام بأن الآيات المادية التي سيؤيده الله بها أمام فرعون وقومه يبلغ عددها تسعا، وأن إلقاءه لعصاه، وإخراجه ليده من جيبه بيضاء يندرجان في تلك الآيات التسع، وسبق في الآية السابعة والثلاثين بعد المائة من سورة الأعراف الإشارة إلى بعضها، كما سبق في الآية الثامنة والثمانين من سورة يونس الإشارة إلى بعضها الآخر، وأكبر الآيات التسع التي أيد الله بها موسى هي التي وردت في
الآية الثالثة والستين من سورة الشعراء الماضية، حيث قال تعالى:{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} .
أما مواقف فرعون وملائه من موسى عليه السلام، وما انتهت إليه عاقبتهم في النهاية فقد أوجزها كتاب الله في هذه السورة حيث قال {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} أي واضحة بينة {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} ، وكما قال تعالى في آية أخرى عن فرعون وقومه:{فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} [المؤمنون: 46]، قال عنهم هنا:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} ، أي إنما جحدوها ظلما وعلوا {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} ، وقد وصف كتاب الله فرعون وقومه في هذه الآيات بالفسق والفساد والظلم والاستكبار والاستعلاء، وكل واحدة من الصفات توجب سخط الله وغضبه، وتعرض أهلها للدمار والهلاك، فما بالك إذا اجتمعت كلها في صعيد واحد.
وانتقل كتاب الله إلى الحديث عن قصة سليمان وما صاحب ملكه من الوقائع التي برزت في زمانه وبهر الإنسان، مبينا كيف سخر الله تعالى لسليمان، من الوسائل المعتادة، وغيرها من الوسائل الخارقة للعادة، ما لم يسخره لأحد من قبله، عسى أن يؤمن بنو إسرائيل ـ على ما هم عليه من شك وعناد ـ برسالته، ويجمعوا كلمتهم بعد الفرقة والشتات ـ على طاعته، وكيف آتاه الله ملكا فردا من نوعه لم يوت مثله لأحد من بعده، عسى ان يعترف بنو إسرائيل بنعمة الله عليهم، ولا ينقضوا الميثاق الذي واثقهم عليه
منذ أرسل موسى الكليم إليهم، لكنهم بالرغم من ذلك فضلوا الفرقة على الوحدة، والانحراف على الاستقامة، ولم يمض زمن قصير بعد موت سليمان حتى أخذوا يعضون بنان الندامة، فتفرق جمعهم، وتشتت شملهم، وانهار ملكهم، وأصبح ملك سليمان العتيد وهيكله الجديد في خبر كان، وأصبح بنو إسرائيل أوزاعا وأشتاتا في كل مكان، وكانت جلوتهم الكبرى بعد جلوتهم الصغرى، مصداقا لقوله تعالى في سورة إبراهيم وهو يخاطب بني إسرائيل:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [الآية: 7].
وليعتبر المؤمنون والكافرون بما تعرض له بنو إسرائيل بعد انهيار ملك سليمان من النكبات والنقم، عرض كتاب الله في الآيات التالية ما أنعم به عليهم في عهد ملكه القصير من جليل النعم، حتى يقارن الجميع بين حالتي السخط والرضا، ويستخرجوا العبرة مما مضى " فبضدها تتميز الأشياء ":
- قال تعالى تمهيدا لقصة سليمان منوها بأبيه داوود، وبما آل إلي بعد موت أبيه من النبوة والملك دون بقية إخوته {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} وهذه الآية تضمن تنويه الحق سبحانه وتعالى بنعمة " العلم "، واعتبارها من أجل النعم وأجزل القسم، وأن من فضله الله بالعلم على غيره من الناس يجب أن يقابل نعمة الله عليه في كل آن، بالشكر والامتنان. ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى في آية أخرى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]. وكما استعمل كتاب الله (الإرث) بمعناه المجازي في قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} استعمل بنفس المعنى في قوله صلى الله عليه سلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، تعبيرا عن كونهم حملة لعلمهم، أمناء على رسالتهم، حراسا للدين بين قومهم.
وقوله تعالى حكاية عن سليمان: {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} ، إشارة إلى أنه كان يتحدث إلى قومه بنعمة الله ليبرز فضل الله عليه، إذ الكل منه وإليه، والمراد بمنطق الطير الذي علمه الله إياه ليصدقه بنو إسرائيل في كونه رسولا من عند الله هو فهم المشاعر التي تجول في نفوسها عن طريق الأصوات التي تنطق بها، فتتفاهم فيما بينها، والمراد " بكل شيء " في قوله:{وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} كل شيء يحتاج ملكه إليه، ويتوقف عليه، على غرار ما وصفت به ملكة سبأ في آية لاحقة {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} .
وقوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} إشارة إلى جمع جنوده واستعراضهم أمامه على نظام وترتيب لا يتقدم فيه أحد عن منزلته، ولا يتأخر أحد عن مرتبته، وكل صنف منهم يجري عرضه وفق طبيعته، قال قتادة:" كان لكل صنف وزعة في رتبتهم مواضعهم ". ويطلق " الوازع " على الموكل بتنظيم الصفوف في العرض، ليكف من تقدم إذا كان حقه التأخير، ويقدم من تأخر إذا كان حقه التقديم:{فَهُمْ يُوزَعُونَ} .
وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} إشارة إلى أن سليمان عليه السلام، كما علمه الله منطق الطير علمه منطق النمل، ولذلك فهم مقالة النملة التي تقود قافلتهم، وتبسم ضاحكا من قولها المهذب، وإنما تبسم من قولها لأنها برأت ساحته وساحة جنوده من الاتهام بالقصد إلى التحطيم والعدوان، وحملتهم منذ البداية حمل العدل والحنان والإحسان، عندما قالت:{لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} وبدلا من أن يتكبر سليمان ويتجبر كما يفعل المغرورون المعجبون بأنفسهم، والناسون نعمة الله عليهم، توجه سليمان في الحال إلى الحق سبحانه وتعالى بالتضرع والسؤال:{وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} ، مما يدل على أن نظر سليمان لجنوده وهو يستعرضهم كان نظر تدبر واعتبار، لا نظر زهو وافتخار. ثم مضى في دعائه يقول:{وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} على غرار ما دعا به يوسف إذ قال: {توفني مسلما وألحقني بالصالحين} [يوسف: 101]، وما دعا به إبراهيم إذ قال:{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83]. ولا غرابة في أن يطلب الأنبياء إلحاقهم " بالصالحين "، وإن كان هذا اللقب يطلق أيضا على من دونهم من الأولياء، لأن " الصالح " بمعناه العام هو الإنسان الكامل الذي لا يعصي الله تعالى ولا يهم بمعصية، والذي يختم له بالخاتمة الحسنى والسعادة الأبدية، قال الإمام القشيري تعليقا
على قوله تعالى هنا: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ} : " فيه دليل على وجوب سياسة الكبار لمن هو في رعيتهم، وعلى حسن الاحتراز مما يخشى وقوعه، وأن ذلك مما تقتضيه عادة النفس ".
ثم حكى كتاب الله ما قام به سليمان من البحث عن الطائر المسمى بالهدهد، حيث أنه لم تقع عينه عليه، فلم يدر هل هو حاضر أم غائب {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} ثم تساءل سليمان فيما إذا كان الهدهد غائبا هل تغيب من تلقاء نفسه في مهمة ولعذر مقبول، أم إنما ذلك منه مجرد غفلة وإهمال، حتى إذا لم يكن لغيبته مبرر عاقبه العقاب اللائق، وذلك قول سليمان فيما حكاه عنه كتاب الله:{لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} وقد سأل ابن عباس عبد الله بن سلام: " لم تفقد سليمان الهدهد دون سائر الطير. فقال له: احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه، وكان الهدهد يعرف ذلك دون غيره من الطير فتفقده ". لكن سليمان لم يلبث إلا قليلا حتى أقبل عليه الهدهد رافع الرأس، مفتخرا بأن عنده من العلم ما ليس عند سليمان، وأنه حمل إليه خبرا يعد في بابه اكتشافا مهما جديرا بالنظر والإمعان {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} قال جار الله الزمخشري: " ألهم الله الهدهد فكافح سليمان أي واجهه بهذا الكلام، على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة، والعلوم الجمة، ابتلاء له في علمه، وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من
أحاط علما بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه، ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفا له في ترك الإعجاب، الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة ".
ومضى الهدهد يعرض على سليمان الخبر المثير الذي يصف فيه دولة سبأ، مشيرا إلى نظام الحكم القائم في هذه الدولة، وإلى ما هي عليه من ازدهار وتقدم ورخاء، ومصرحا بأن امرأة هي التي تجلس على عرشها العتيد، ومبينا نوع الدين الذي تدين به هي وقومها، وأنه من قبيل الديانة المجوسية، فقال وهو يخاطب سليمان:{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
ثم عقب على ذلك مستنكرا ما وجد عليه أهل سبأ من عبادة الشمس والسجود لها، بدلا من عبادة الله والسجود له، معترفا بأن الله الذي ألهمه معرفة الماء المغيب تحت الأرض هو الذي يكشف لخلقه عن كل ما هو سر مغيب عنهم، سواء كان في السماء وطباقها، أو في الأرض وأطباقها، وللتعبير عن هذه المعاني حكى عنه كتاب الله قوله:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} وختم الهدهد خطابه لسليمان، مذكرا له بأن الملك الحق والدائم هو ملك الله {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} [الفرقان: 26]، وأن العرش الذي لا تدانيه العروش، والعظيم
بسائر وجوه العظمة، هو عرش الله القاهر فوق عباده {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} .