المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٤

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة مريم

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة طه

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأنبياء

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحج

- ‌الربع الأول من الأول من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المؤمنون

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والثلاثسنفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النور

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والثلاثسنفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الفرقان

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)(القسم الأول من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)(القسم الأول من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)(القسم الثاني من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)(القسم الثاني من هذا الربع)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الشعراء

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النمل

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة القصص

- ‌الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌تعليق وتحقيق

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة العنكبوت

- ‌الربع الثاني من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

‌الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثين

بالمصحف الكريم (ت)

عباد الله

في هذه الحصة نتناول تفسير الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثين في المصحف الكريم، ابتداء من فاتحة سورة القصص المكية:{بسم الله الرحمن الرحيم طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله تعالى: {وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} .

ــ

في الحديث الماضي ختمنا تفسير سورة النمل المكية حامدين الله شاكرين، واليوم نفتتح تفسير سورة القصص، مستعينين بالله، معتصمين به في البدء والختام، وهذه السورة مكية كسابقتها، وقد جاءت فاتحتها على غرار فاتحة سورة الشعراء، مبدوءة مثلها بنفس الحروف الهجائية المقطعة، وهي في كل منهما الطاء والسين والميم {طسم} فكانت ثالثة السور التي جاءت على هذا النمط في نسق واحد، تنبيها إلى أن آيات الكتاب العزيز تتألف من نفس الحروف التي يؤلف البشر منها كلامهم، لكن الله الذي خلق الإنسان من طين ثم نفخ فيه روح

ص: 478

الحياة ينفخ في تلك الحروف من جلاله وعلمه وحكمته ما يجعلها معجزة باقية أبد الدهر لا قبل بها للإنسان، على ممر الزمان، ثم جاءت أول آية من هذه السورة بنفس النمط الذي جاءت به سورة الشعراء {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} وأطلق على هذه السورة " سورة القصص " أخذا من قوله تعالى في إحدى آياتها وهو يحكي ما دار بين موسى عليه السلام و (صالح مدين) في أحد المواقف الحاسمة:{فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [25].

و" القَصص " هنا بفتح القاف لفظ مفرد بمعنى الخبر المحكي المقصوص، ويطلق لفظ القصص بمعنى رواية الخبر، أما القصص بكسر القاف فهو جمع قصة، وتشغل قصة موسى مع قصة قارون من قومه أكبر جزء من هذه السورة، فلقصة موسى ثمان وأربعون آية، من الآية الثانية إلى الآية التاسعة والأربعين، ولقصة قارون من قومه سبع آيات، من الآية السادسة والسبعين إلى الآية الثانية والثمانين، وبذلك يبلغ عدد آيات القصتين المرتبط بعضهما ببعض خمسا وخمسين آية من مجموع آيات هذه السورة، وهي ثمانون آية.

ومن أهم ما يلاحظ في كتاب الله بالنسبة للقصص التي تضمنها القرآن الكريم أن قصة موسى تردد ذكرها في سبع عشرة سورة، مختزلة أحيانا، ومختصرة أحيانا، ومتوسطة أحيانا، ومطولة أحيانا. وأطولها جميعا هي التي سبقت في سورة الأعراف، حيث استغرقت من آياتها خمسا وخمسين ومائة آية، ويليها في الطول

ص: 479

قصته في سورة (طه) حيث استغرقت من آياتها تسعين آية، ويلي قصة موسى في سورة طه قصته في سورة الشعراء، حيث استغرقت من آياتها ستين آية، وتأتي في الدرجة الأخيرة من الطول قصته هنا في سورة القصص، حيث استغرقت منها مع قصة قارون من قومه خمسا وخمسين آية.

ومن أمثلة قصة موسى عندما ترد بشكل مختزل في آية أو آيتين قوله تعالى فيما سبق من سورة إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [6]، وقوله تعالى فيما سبق من سورة الفرقان:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا * فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا} [35، 36]، وقوله تعالى فيما سيأتي من سورة الذاريات:{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [38، 40].

ولا بد من التنبيه هنا إلى أن إعادة كتاب الله لقصة من القصص في عدة سور لا يعني أن فيه شيئا من التكرار، فبلاغة القرآن التي ميزه الله بها تعصمه من ذلك، وإنما تنصب الحكاية الجديدة للقصة على عناصر معينة منها، حيث يكون السياق يقتضي إبراز هذا العنصر بدلا من ذلك العنصر الذي سبق في مقام آخر، أو تفصيل هذا العنصر مع إجمال ذلك العنصر الذي سبق في مقام آخر، أو تفصيل هذا العنصر مع إجمال ذلك العنصر الذي سبق في مناسبة

ص: 480

أخرى، وكتاب الله بوصفه كتاب هداية وتوجيه لا بد أن يلائم مقتضى الحال في كل الأحوال، يضاف إلى ذلك أن القصة عندما يتجدد ذكرها في سورة من السور لا محالة أنها تأتي بزوائد وفوائد، وفي ذلك زيادة في البيان، وإقامة للحجة والبرهان، على درجة الإعجاز التي ارتفعت إليها بلاغة القرآن.

وعلى ضوء هذا التنبيه نراجع الآيات التي تصدرت قصة موسى في هذه السورة، ونقارنها بما ورد في بعض السور الأخرى، ففي سورة القصص التي نحن بصدد تفسيرها نجد في الطليعة وصف المرحلة الأولى من حياة موسى عليه السلام منذ طفولته إلى أن بلغ أشده، من الآية السادسة إلى الآية الثانية عشرة، ونجد وصف الحادثة التي اشتبك فيها موسى مع عدو لقومه نصرة لرجل من شيعته، فأدت إلى مقتل ذلك العدو، واضطرار موسى إلى التوجه نحو مدين، من الآية الثالثة عشرة إلى الآية العشرين، ونجد وصف خطوبته وزواجه بابنة (صالح مدين وشيخها الكبير)، وما سبق ذلك من مقدمات، وما انتهى إليه من نتائج، من الآية الواحدة والعشرين إلى الآية التاسعة والعشرين، كل ذلك بغاية التوضيح والتفصيل، مما لم يتقدم نظيره في السور الأخرى، وإذا راجعنا قصة موسى الواردة في سورة الأعراف لا نجد فيها أي أثر لهذه الأحداث وهذه المراحل، وإنما نجد في سورة طه إشارة خفيفة إليها في سبع آيات لا غير، ونجد في سورة الشعراء إشارة خاطفة إليها في خمس آيات لا غير، ففي سورة طه سبق قول الله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى * وَلَقَدْ مَنَنَّا

ص: 481

عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [36، 41]، وفي سورة الشعراء سبق قوله تعالى على لسان فرعون:{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [18، 22].

وبعد هذه التنبيهات والمقارنات لم يبق لنا إلا التوجه إلى تفسير الجزء الوارد من نفس القصة في هذه الحصة.

قال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} : وصف الكتاب بكونه " مبينا " لأنه يبين ويميز الحق من الباطل، والحلال من الحرام، والهدى من الضلال، في العقائد والشرائع والأقوال والأفعال. ثم جاء بتمهيد يسبق الشروع في قصة موسى وفرعون، كأنما هو عبارة عن عنوان الموضوع، أو براعة الاستهلال التي يبدأ بها عند الشروع {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} أي تجبر وتكبر، حتى ادعى الربوبية والألوهية، والمراد " بالأرض " هنا أرض مصر.

ص: 482

{وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} أي فرق بينهم فأغرى بعضهم ببعض، وسلط بعضهم على بعض، حتى يكونوا أطوع له من بنانه، ويستسلموا لعدوانه وطغيانه.

{يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} المراد " بالطائفة المستضعفة " في ذلك العهد بنو إسرائيل، ويجري على غيرها من الطوائف المستضعفة في بقية العهود ما جرى عليها. قال ابن عباس:" لما كثر بنو إسرائيل بمصر استطالوا على الناس وعملوا بالمعاصي، فسلط الله عليهم القبط وساموهم سوء العذاب، إلى أن نجاهم الله على يد موسى ".

{إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} سجل كتاب الله هنا على فرعون صفة " الفساد " التي هي أبغض صفة إلى الله تحرق الأخضر واليابس، وتدمر البلاد والعباد، وبهذا التسجيل الإلهي المؤكد أبرز كتاب الله أنه لا يرضى للرؤساء من عباده الكبر والجبروت، ولا يرضى للمرؤوسين منهم الفرقة والشتات، ولا يرضى استضعاف طائفة وتسخيرها وإهدار حقوقها لصالح بقية الطوائف، وإنما يرضى لهم جميعا المساواة في الحقوق والواجبات والعيش الكريم.

{وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ} هذا وعد من الله بالنصر والتمكين لمن استضعفوا في الأرض، فالتجأوا إلى الله، واعتصموا بحبله واحتموا بحماه، فإذا استكبروا بعد

ص: 483

الضعف، وانقلبوا أئمة للكفر والفساد، وكلهم الله إلى أنفسهم فانقلبوا صاغرين ورسفوا في الأغلال والأصفاد.

{وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} هذا إنذار من الله لفرعون وهامان ومن سلك مسلكهما في الاستعلاء والطغيان، على ضعفاء بني الإنسان، بأنه سيهدم بنيانهم، ويدك أركانهم، بأيدي أولئك الضعفاء حتى يضرب بهم المثل فيقال:(على الدُّنيا العَفَاء).

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} أجمع العلماء على أن " أم موسى " لم تكن نبية، " فالوحي " المسند إليها هنا وحي إلهام، لا وحي إعلام، والمراد " باليمِّ " هنا وادي النيل الذي يخترق أرض مصر {وَلَا تَخَافِي} أي لا تخافي من غرقه وضياعه، ولا تخافي من أن يلتقطه من آل فرعون من يقتله {وَلَا تَحْزَنِي} أي لا تحزني لمفارقتك إياه.

{إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} هذا وعد صادق من الله لأم موسى، يهدئ روعها، ويطمئن قلبها، ويبشرها بحياته وجعله رسولا {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} قال أبو حيان:" استفصح الأصمعي امرأة من العرب أنشدته شعرا فقالت له: أبعد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فصاحة؟ وقد جمع بين أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين ".

ص: 484

{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} هذا مظهر من مظاهر العناية الإلهية، فقد سخر الحق سبحانه وتعالى وهو اللطيف الخبير لإنقاذ موسى من الغرق والقتل أعدى أعاديه من آل فرعون، فالتقطوه للتربية والتبني، ولو عرفوا سوء العاقبة الذي ينتظرهم على يده لاعتبروه أخطر عدو، وقضوا عليه في المهد، لكن الله تعالى الذي قدر الانتقام من طغيانهم وفسادهم، وكفرهم وعنادهم، على يد نبيه موسى، أعمى منهم البصائر والأبصار، لتنفذ فيهم عند حلول الأجل سهام الأقدار، والحزن بفتح الحاء والزاي على لغة قريش هو الحزن عند بقية العرب.

{إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} أي كانوا خاطئين في كل شيء، ولم يصادفوا الصواب في أي شيء، فلا غرابة إذا أخطأوا في تربية موسى الذي اصطفاه الله لرسالته، ليكون مصيرهم المفجع على يده وبقيادته، ومعنى " الخاطئ " المتعمد للخطأ، ويطلق على من لا يتعمد الخطأ لفظ " مخطئ " وإنما أضيف الجند في هذه الآية:{إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} وفي الآية السابقة: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا} إلى كل من فرعون وهامان، وإن كان هامان مجرد وزير لا جنود له، لأن المال هو قوام الجيش. وتسيير شؤون الدولة، وجباية الأموال اللازمة لمرافقها، لا يتم أمرهما إلا على يد الوزراء وبمعونتهم، فلهم ضلع كبير في تحمل مسؤوليات الدولة وتنظيم جيشها وتسيير مرافقها العامة.

{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ

ص: 485

يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} لما رأت ما يبدو عليه من مخايل الخير واليمن والقبول توسمت فيه النفع لها ولفرعون أولا، ثم مر بخاطرها أن تتبناه وتتخذه ولدا، ليكون قرة عين لها ولزوجها، ومبعث بهجة وسرور لأسرتها، فقال لزبانية فرعون لا تقتلوه، ثم قال تعالى:{وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أي لا يدركون خطأهم العظيم في التقاطه ورجاء النفع منه، والتفكير في تبنيه، وغاب عنهم أن وليد اليوم هو رسول الغد، الذي سيكون هلاكهم على يديه، جزاء وفاقا لما مارسوه من ظلم وطغيان، واستهتار بحقوق الله وحقوق الإنسان.

{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} أي أن أم موسى حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش، اعتقادا منها بأن مصير وليدها هو القتل لا محالة، {إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أي تبدي أمره وقصته. قال ابن عباس:" كادت تصيح عند إلقائه في اليم: واولداه، فينكشف أمرها وأمره "{لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} أي لولا أن الله تعالى ألهمها الصبر، وألقى السكينة في قلبها، فلم تفضح سرها الدفين {لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي من الواثقين بوعد الله الذي لا يتخلف، لا بتبني فرعون وتعطف امرأته، ووعد الله هو رده إليها وجعله رسولا:{إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} . و " الربط على القلب " هنا كناية عن قراره واطمئنانه، شبه بما يربط مخافة الانفلات، على غرار قوله تعالى في الفتية من أهل الكهف:{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} [الآية: 14].

ص: 486

{وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ} أي اتبعي أثره، وتتبعي خبره {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ} أي أبصرته أخته عن بعد وهي تختلس النظر إليه، {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} أي لم يكونوا يشعرون بما تنطوي عليه أخته من اهتمام بأمره، وتتبع لحركاته، وقلق على مصيره، وأنه أخوها وهي أخته، وهكذا يتولى الله بحفظه ورعايته من أعدهم لتحمل رسالته، في مختلف المراحل والعهود، وفاء منه سبحانه وتعالى بما واثقهم عليه من المواثيق والعهود {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].

ص: 487