الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثين
في المصحف الكريم (ت)
(القسم الثاني من هذا الربع)
عباد الله
لا نزال نواصل تفسير الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثين من المصحف الكريم، وفي هذا الحديث نقدم القسم الثاني من تفسير هذا الربع، وهو يشمل بقية الآيات الواردة فيه، وعلى رأسها قوله تعالى في سورة الفرقان المكية:{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا} إلى قوله تعالى في ختام السورة وختام الربع: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} .
ــ
في بداية هذا القسم وجه كتاب الله الخطاب إلى نبيه، معرفا إياه بأن مسؤولية الرسالة الإسلامية التي هي خاتمة الرسالات قد أصبحت تقع على عاتقه وحده، إذ هو خاتم النبئين والمرسلين، فما عليه إلا أن يضطلع بها، ويقاوم أعداءها، ويجاهد في سبيل تبليغها للبشرية جمعاء، وذلك قوله تعالى:{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} .
وحدد كتاب الله لرسوله مرة أخرى واجبات الرسالة الملقاة على عاتقه، حتى لا يكلف نفسه ما فوق طاقته، وحتى لا يتهم
من أعداء الرسالة بما لا يتفق مع قداسة دعوته، فقال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} .
وحض كتاب الله رسول الهدى ودين الحق على ملازمة الثقة بالله، والالتجاء الدائم إليه، والتوكل التام عليه، إذ من توكل على الحي الذي لا يموت، لا ينقطع عنه مدد الله ولا يفوت، وذلك قوله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} .
واستغرب كتاب الله موقف الكافرين الذين يتحدون ربهم، إذ ضلوا وفقدوا لبهم، رغما من آيات الله الباهرة، وحججه القاهرة، فقال تعالى في وصفهم متعجبا من عنادهم وكبريائهم:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا} - {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} .
ونبه كتاب الله إلى أن الذكر الحكيم لم يترك برهانا ساطعا ولا دليلا قاطعا عل وجود الله ووحدانيته، وقدرته وحكمته، إلا فصله تفصيلا، وفسره دليلا دليلا، ومن رفض بعد ذلك ان يسلك المحجة، فقد قامت عليه الحجة، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في هذا الربع:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} .
وحرصا من كتاب الله على هداية الخلق وإن ضلوا، وتمكينهم بكل الوسائل من معرفة الحق وإن زلوا، تصدى كتاب الله في ختام هذا الربع للكشف عن صفات المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول فلم يكفروا بالرحمن، بل آمنوا به وأقبلوا على طاعته وعبادته عن اقتناع وإذعان، وتشرفوا بالانتساب إليه حتى وصفهم القرآن بأنهم {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} وذلك ليقتدي بهم من لا يزال سابحا في بحر التردد والعناد، من بقية العباد، فقال تعالى واصفا لهم ومعرفا بهم:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} وهذا الوصف الأول يتضمن أمرين، الأمر الأول أنهم لا يعتزلون الناس، بل يعاشرونهم ويخالطونهم، إذ {الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ} للقيام بواجباتهم وتحمل مسؤولياتهم، والتعاون مع غيرهم على البر والتقوى، والأمر الثاني أنهم إذا مشوا مشوا برفق وتثبت، دون عجلة بالغة، ولم يظهر عليهم أثر التبختر والاستكبار، بل علتهم السكينة والوقار، ولم تبدر منهم بادرة ازدراء للغير أو احتقار، وذلك هو معنى المشي {هَوْنًا} مصداقا لقوله تعالى في آية ثانية:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} ، [لقمان: 18]، وقوله تعالى في آية ثالثة:{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37]، وليس المراد بالمشي هونا، التثاقل والتماوت تصنعا ورياء، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، ومناط المدح في الوصف بـ (المشي هونا) ليس المشي في حد ذاته، وإنما مناط المدح ما يدل عليه (المشي
هونا) من أخلاق الماشي وسلوكه الحميد، إذ يكون مشيه هونا دليلا على أنه هين لين. روى الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" حرم الله على النار كل هين لين سهل قريب من الناس ".
والوصف الثاني من أوصاف " عباد الرحمن " يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} ، بمعنى أنه إذا تجرأ عليهم السفهاء بالقول السيء أغضوا عنهم، وكظموا غيظهم، وردوا عليهم ردا هادئا يوقف أذاهم عند حده، دون أن يقابلوهم بالمثل، أو يشتبكوا معهم في خصام، تجنبا لتوسيع دائرة الشقاق، وحرصا على السداد والمسالمة والسلام، على حد قوله تعالى في آية أخرى:{وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55]، وهذا الوصف لا ينافي ما شرعه الله من الجهاد، دفاعا عن الإسلام، عند توفر الأسباب، كما لا ينافي الدفاع عن عرض المسلم، متى تعرض لقذف الأوباش والأوشاب.
والوصف الثالث من أوصاف " عباد الرحمن " يشير إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} بمعنى أنهم إذا خلوا بأنفسهم في الليل وسكونه، وخصصوا حصة منه لمناجاة الحق سبحانه وتعالى، والتنفل بعدد محدود من الركعات، وقد كان تهجده صلى الله عليه وسلم بالليل لا ينقص عن سبع ركعات في الحد الأدنى، ولا يزيد على ثلاث عشرة ركعة في الحد الأعلى، حسبما ورد في
صحيح مسلم وموطأ الإمام مالك، وفي رسول الله للصالحين من أمته إسوة حسنة، قال ابن عباس:" من صلى ركعتين أو أكثر بعد العشاء فقد بات لله ساجدا وقائما ".
والوصف الرابع من أوصاف " عباد الرحمن " يشير إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} ، بمعنى أنهم بالرغم مما هم عليه من طاعة وعبادة وحسن خلق لا يسيطر عليهم العجب والغرور بما قدموه من أعمال، بل يدعون الله، وهم بين يديه ساجدون، وفي تهجدهم مستغرقون، أن يقيهم عذاب النار ويجنبهم ما في القيامة من أهوال، وهكذا يتقلب قلب المؤمن الحق دائما بين الخوف والرجاء، وإن بلغ ما بلغ في درجات القرب والاصطفاء، ومعنى لفظ " الغرام " في قوله تعالى هنا:{إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} الهلاك الملازم، والخسران الدائم.
والوصف الخامس من أوصاف " عباد الرحمن " يشير إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} ، بمعنى أنهم عند قيامهم بالإنفاق في الطاعات لا يفرطون في الإنفاق، إلى حد أن لا يجدوا ما ينفقون على عيالهم، ومن هم مطالبون بالإنفاق عليهم، كما أنهم لا يقبضون أيديهم عن الإنفاق شحا وبخلا، إلى حد أن يهملوا ما عليهم من الحقوق والواجبات، ولا يتطوعوا بأي شيء من الصدقات، بل يلتزمون الحد الوسط في نفقاتهم المطلوبة شرعا، وهذا معنى قوله تعالى هنا:{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} قال ابن عطية: " والحسن في
ذلك هو القوام أي العدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخفة ظهره، وصبره وجلده على الكسب، أو ضد هذه الخصال، وخير الأمور أوساطها "، على حد قوله تعالى في آية أخرى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}، [الإسراء: 29]، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد عن أبي الدرداء: " من فقه الرجل قصده في معيشته " وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد أيضا عن عبد الله بن مسعود " ما عال من اقتصد ". أما الإنفاق في المعاصي، فهو أمر محظور حظرت الشريعة قليله وكثيره، وعباد الرحمن الذين أثنى عليهم القرآن منزهون عن هذا النوع من الإنفاق، لأنه من مظاهر الانحراف وآيات النفاق.
والوصف السادس من أوصاف " عباد الرحمن " يشير إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} ، بمعنى أنهم أسلموا وجوههم لله بالمرة، وتبرأوا كل البراءة من اتباع الهوى والتمسك بالأثرة والأنانية، فلم يتخذوا إلههم هواهم، فضلا عما هو فوق ذلك من الشرك والوثنية.
والوصف السابع من أوصاف " عباد الرحمن " يشير إليه قوله تعالى: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} ، بمعنى أنهم لا يتسببون في قتل النفوس التي أمر الله بحفظها، بل يحافظون بكل الوسائل على حياة أصحابها، إلى أن يأذن الله بموتها، إيمانا منهم بأنه هو وحده الذي يحيي ويميت. وواضح أن الأمر باحترام نفوس الغير يقتضي من باب أولى وأحرى الأمر
باحترام الإنسان لنفسه بنفسه، فلا يسوغ له الانتحار، بدعوى الفشل أو غسل العار، إذ لا عقاب لقاتل نفسه عند ربه إلا النار، قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء 29 - 30]، وقوله تعالى هنا:{إِلَّا بِالْحَقِّ} إشارة إلى القتل المشروع في حدود الله، رعاية من الحق، لمصالح الخلق، كالقتل المترتب على الكفر بعد الإيمان، والزنى بعد الإحصان، فعباد الرحمن لا يقفون في وجه إقامة الحدود، حتى لا يحاسبوا على إهمالها في اليوم الموعود. وإذا كان قتل الإنسان لنفسه ونفوس الناس بمعنى القتل المادي أمرا محرما في الشرع والطبع، فإن قتله لنفسه أو نفوس الناس بالمعنى الروحي لا يقل خطورة عن الأول، بل ربما كان عملا أخطر، وجرما أكبر، و " القتل المعنوي للنفوس " هو تركها ترتع في الشهوات والمخالفات دون حساب يسير ولا عسير، وتركها تتخبط في الشبهات والضلالات دون هدى ولا كتاب منير.
والوصف الثامن من أوصاف " عباد الرحمن " يشير إليه قوله تعالى: {وَلَا يَزْنُونَ} ، بمعنى أنهم لا يتناولون الخبائث ولا يقربون الفواحش، لا ما ظهر منها ولا ما بطن، فهم حريصون على أن تكون حياتهم الاجتماعية والعائلية كلها نظافة وطهرا، وترفعا عن انتهاك الأعراض التي حرمها الله سرا وجهرا، فأعراض المحصنات المؤمنات معهم في أمان، في كل الأزمان.
والوصف التاسع من أوصاف " عباد الرحمن " يشير إليه قوله
تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ، وهذا الوصف يصدق بمعنيين اثنين:
- المعنى الأول أنهم لا يشهدون مجالس الخنى والسوء التي يغشاها البطالون المنحرفون ولا يزكونها بحضورهم، والمعنى الثاني أنهم لا يشهدون شهادة الزور، فيحقوا الباطل ويبطلوا الحق بشهادتهم. والمراد " بالزور " كل كذب وباطل زوق وزخرف. وفي الصحيحين عن أبي بكرة قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قلنا بلى يا رسول الله، قال: الشرك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور. ألا وشهادة الزور. فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت أي شفقة عليه " وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجلد شاهد الزور أربعين جلدة، ويسخم وجهه، أي يسوده، ويحلق رأسه، ويطوف به في السوق.
والوصف العشر من أوصاف " عباد الرحمن " يشير إليه قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} بمعنى أنهم يربأون بأنفسهم عن أن يشغلوها بالسفاسف، مما ليس فيه صلاح دين ولا صلاح دنيا، لا من الأفعال ولا من الأقوال، وهذا معنى مرورهم به مر الكرام، إذ يتكرمون عنه، ويترفعون عن تضييع الوقت فيه، لتفاهته وعدم فائدته. واستعمال " المرور مر الكرام " بقصد الاختصار في القول المفيد، والإيجاز في ذكر الشيء المحتاج إلى التفصيل من مسائل العلم، استعمال في غير محله، واقتباس مقلوب.
والوصف الحادي عشر من أوصاف " عباد الرحمن " يشير إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} بمعنى أن لهم آذانا صاغية، وقلوبا واعية، متى ذكروا بآيات الله تذكروا، واتعظوا وازدجروا، وأكبوا عليها حرصا على استماعها، وأقبلوا على من يذكرهم بها، فلا إعراض منهم ولا إهمال، في أي حال من الأحوال، وقوله تعالى هنا:{لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} قال ابن عطية: " كأن المستمع للذكر قائم القناة قويم الأمر، فإذا أعرض وضل كان ذلك خرورا، والخرور هو السقوط على غير نظام وترتيب ". وفي شأن من أعرض ونأى بجانبه جاء قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [البقرة: 206].
والوصف الثاني عشر من أوصاف " عباد الرحمن " يشير إليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} بمعنى أنهم يأخذون حظهم المشروع من زينة الدنيا ومتاعها الطيب، ولا يحرمون أنفسهم من الحياة الزوجية، والسعي لإنجاب الذرية، ملتمسين من الله أن يهب لهم من الأزواج والأبناء ما تقر به العين وتسر به النفس، وتحصل به الكفاية، فيكون مجلبة للهناء والسعادة، ونيل الحسنى وزيادة.
والوصف الثالث عشر من أوصاف " عباد الرحمن " يشير إليه قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} ، بمعنى أنهم لا يكتفون بأن يكونوا صالحين في أنفسهم بممارسة هذه الصفات وحدهم، بل يطمحون إلى أن يكونوا مصلحين لغيرهم، وقدوة حسنة لمن
يأتي من بعدهم، حتى تتضاعف بهم قافلة النور عددا ومددا، وتستمر رسالتها أبدا وسرمدا.
ونظرا لضعف الإنسان وتعرضه لإغواء الشيطان، وما يمكن أن يصدر عنه من مخالفة وعصيان، نبه كتاب الله إلى عقاب من فرط في جنب الله، وانتهك حرمات الله، إذا لم يبادر إلى التوبة والعمل الصالح، كما بشر المذنبين التائبين إذا تابوا توبة نصوحا بقبول توبتهم، وإسدال الستر الجميل على سيئاتهم، فقال تعالى:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} . وتبديل السيئات بالحسنات يصدق في الدنيا بالتوفيق إلى الطاعة بعد العصيان، وفي الآخرة بالعفو والغفران.
وإعلانا لما أكرم الله به " عباد الرحمن " وخصهم به من الرحمة والإحسان في كل زمان، بشرهم بخير بشرى، في الدنيا قبل الأخرى، فقال تعالى:{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} .
وفي ختام هذا الربع الذي هو مسك الختام لسورة الفرقان المكية وجه الحق سبحانه وتعالى خطابه إلى كافة عباده، من آمن منهم ومن كفر، واضعا لهم جميعا أمام مسؤولياتهم، مذكرا إياهم أنه لولا رحمته بهم، وإحسانه إليهم، لتركهم كريشة في مهب
الريح ضحية التضليل والتدجيل، ولما كانوا محل العناية الإلهية ودعوة رسله جيلا بعد جيل، فقال تعالى:{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} .