الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الثامن والثلاثين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الربع الأول من الحزب الثامن والثلاثين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة الشعراء المكية:{قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} إلى قوله تعالى في نفس السورة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ــ
في الآيات الست الأخيرة من الربع الماضي قص كتاب الله على خاتم أنبيائه ورسله قصة نوح مع قومه بغاية الإيجاز، فقال:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
ويلاحظ في هذه القصة وبقية القصص التي تلتها في نفس السورة أن كتاب الله اختار أن يفتتحها كلها بصيغة واحدة لا يتبدل فيها إلا اسم الرسول وحده أو اسم قومه، فقال تعالى في بداية
قصة نوح مع قومه {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} ، وقال تعالى في بداية قصة هود مع عاد {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} ، وقال تعالى في بداية قصة صالح مع ثمود:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} ، وقال تعالى في بداية قصة لوط مع قومه {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} ، وقال تعالى في بداية قصة شعيب مع أصحاب الأيكة:{كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} ، ولم يقل كتاب الله: كذب قوم نوح نوحا، أو كذبت عاد هودا، أو كذبت ثمود صالحا، أو كذبت قوم لوط لوطا، أو كذب أصحاب الأيكة شعيبا، إشعارا بأن من قابل بالتكذيب رسولا واحدا فقد كذب ضمنيا وبصورة غير مباشرة كافة الرسل، وذلك لأن الرسالات الإلهية - وإن تعددت بتعدد الأنبياء والمرسلين - هي في طبيعتها وجوهرها رسالة واحدة، صادرة من منبع واحد، هو منبع الوحي الإلهي الواحد والوحيد.
ثم إن خصائص الرسل، والأمارات المميزة لهم، التي اقتضت حكمة الله أن تكون متوافرة فيهم ليكونوا رسلا من عند الله لا تختلف في أصلها من رسول إلى آخر، بل هي متشابهة ومتماثلة، وطريقة معرفة الرسل واحدة، إذ ما منهم من أحد إلا وقد أيده الله بمعجزة يتحدى بها الكافرين، وحجة يقنع بها المنكرين، وعلى هذا الأساس ألزم الإسلام معتنقيه بعد الإيمان بالله أن يومنوا بكتبه ورسله دون استثناء، وكان شعار المسلمين {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} . يضاف إلى ما سبق أن الله تعالى أمر كل رسول من رسله بأن يبلغ قومه خبر الرسل الذين يرسلهم
الله من بعده، تعريفا لهم بأن سلسلة الرسالات الإلهية حلقات متوالية، إلى أن يحين ختمها بخاتم الأنبياء والمرسلين، وذلك حتى يكونوا على قدم الاستعداد لتصديق الرسول المنتظر فيصدق الخبر الخبر، وبهذا الاعتبار يكون من كذب رسوله الذي أرسل إليه، مكذبا لجميع الرسل منذ اللحظة الأولى، ويصدق عليه أنه قد كذب المرسلين أجمعين، ولم يكذب رسوله وحده، وهذا المعنى هو الذي أكده كتاب الله في فاتحة القصص الخمس، الواردة في هذه السورة (سورة الشعراء)، بعد قصة موسى وقصة إبراهيم.
ومما يستلفت النظر، ويدل على وحدة الرسالات الإلهية، ووحدة الرسل الذين جاؤوا بها أن كتاب الله استعمل أسلوبا واحدا في حكاية ما خاطب به أولئك الرسل أقوامهم، على اختلاف أزمانهم وتعدد مواطنهم، إذ نجده يحكي عن نوح وهود وصالح ولوط وشعيب في هذه السورة أنهم جميعا عبروا عن نفس المعاني والمقاصد، واستعملوا نفس الطريقة في مخاطبة أقوامهم ودعوتهم إلى الإيمان بالرسالة التي جاؤوا بها من عند الله، إذ قال كل منهم مخاطبا لقومه:{أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} وهذا الخطاب يوضح أن هدف الرسالات الإلهية الأساسي هو وضع حد لما يقع فيه الناس من الانحراف والاستهتار، وإيقاظ ضمائرهم للخروج من تيه الغفلة واللامبالاة وقفص الجحود والإنكار، حتى يقبلوا على إصلاح ما فسد،
ويهتموا بترميم ما تداعى للسقوط، ويحيوا حياة إنسانية نظيفة، منسجمة مع إرادة الله، لا تجلب سخطه وإنما تجلب رضاه، وتتحقق بها في الأرض الخلافة عن الله، وهذا هو معنى " التقوى " الذي يدعو إليه كافة الأنبياء والرسل {أَلَا تَتَّقُونَ} ، إذ التقوى في معناه العام هو جعل النفس في " وقاية " مما يخاف منه ويؤذي، لتفادي جميع الأدواء والأسقام، والعيش في هناء وسعادة وسلام، لكن وسائل الوقاية الناجعة لا يستطيع الإنسان الإلمام بها على الوجه الأكمل، إلا إذا تلقاها عن ربه الذي يعلم السر في السماوات والأرض، فهو سبحانه وحده الذي أحاط بكل شيء علما، وهو وحده الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، ولا طريق لذلك إلا تلقي الرسالات الإلهية عن رسل الله، الذين اختصهم برعايته، وائتمنهم على رسالته، وجعل طاعتهم سبيلا إلى طاعته، فقال كل منهم لقومه عن أمر الله وكلمته:{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} . وحتى لا يوصم رسل الله من أقوامهم بالطمع والاستغلال، تكفل الحق سبحانه وتعالى لرسله بأرزاقهم، فكانوا في حياتهم الخاصة يتمتعون بالاكتفاء الذاتي والاستقلال، ولذلك كانوا يواجهون أقوامهم بما يدفع الشبهة في هذا الباب، حتى لا يجدوا لرفض دعوتهم أي سبب من الأسباب، وهذا هو مغزى قوله تعالى حكاية عن كل واحد منهم:{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
ثم إن كتاب الله عندما أراد أن يحكي مقالة الرسل إلى أقوامهم أتى بلفظ معبر له مغزى خاص في هذا المقام بالذات، فوصف الرسول بأنه " أخو قومه " كما في قوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ} ، وقوله تعالى:{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ} ، وقوله تعالى:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ} ، وقوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} . ذلك أن الحكمة الإلهية اقتضت بادئ ذي بدء أن يكون الرسل إلى عامة البشر بشرا مثلهم، يشاركونهم في المشاعر والأحاسيس، ويعايشونهم أفرادا وجماعات، ويلازمونهم ملازمة الظل للشاخص، وبذلك يحصل التفاهم والتجاوب بينهم وبين الناس، مصداقا لقول تعالى في سورة الأنعام:{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الآية: 9]. وللمزيد من الألفة بين الرسل ومن أرسل إليهم اقتضت الحكمة الإلهية أن يتكلم بلسانهم، وأن يكون بالنسبة إلى قومه أخا من إخوانهم، إما أخا لهم عن طريق القرابة والنسب، وإما أخا لهم من باب المجانسة والأدب، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى في آية أخرى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4].
ولا شك أن تقديم كتاب الله لقصص الأنبياء السابقين، وتلاوة رسوله للآيات التي نزلت في شأنها على المؤمنين، وسماع أخبارها في فجر الإسلام من طرف المكذبين والكافرين مما يزيد
المؤمنين إيمانا على إيمانهم، عندما يعرفون نجاة إخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان في سالف الأزمان، ومما يزعزع ثقة المكذبين والكافرين بمعتقداتهم الباطلة، عندما يعرفون المصير المفجع الذي آل إليه أمر المكذبين بالرسالات الإلهية، في القرون الماضية، عسى أن يذكروا ويعتبروا، ويتراجعوا عن باطلهم ويزدجروا. وإلى هذا المغزى يشير قوله تعالى على لسان شعيب عليه السلام فيما سبق من سورة هود:{وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [الآية: 89]، وقوله تعالى فيما سبق من سورة التوبة:{أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الآية: 70].
والآن فلننظر ماذا استنكر كل رسول من قومه، وماذا واجهوا به من قول السوء:
- أما نوح عليه السلام فقد قضى عهدا طويلا في نصح قومه وتذكيرهم بآيات الله، ودعوتهم إلى دين الحق، لكنهم أصروا على ضلالهم، فلم يومن برسالته إلا قليل منهم، وقد حكى كتاب الله في سورة يونس، قول نوح لقومه:{يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} [الآية71]، وحكى كتاب الله في سورة هود قولهم لنوح: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا
تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الآية: 32]، كما حكى في نفس السورة، استهزاءهم به إلى أقصى الحدود، إذ قال تعالى:{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [الآية: 38]. وها هو كتاب الله يحكي في هذا الربع مأخذا جديدا يؤاخذ به قوم نوح نبيهم، ألا وهو اهتمامه بضعفاء قومه، وقبول دخولهم في دين التوحيد، واعتبارهم أهلا لصحبته ومرافقته، وتلقي ما جاء من عند الله، وها هم يلحون عليه في طردهم وإبعادهم من ساحته {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} ، وعندما يرفض ادعاءهم ويستنكر استعلاءهم، ويصر على أن دين الله للجميع، وأن الناس سواسية فيه لا فرق بين فريق وفريق، يهددونه بالقتل رجما بالحجارة {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} فلم يسعه إلا أن يلتجئ إلى الله، ويشكو إليه بلواه، ويسأله أن يحكم بينه وبين قومه، إذ هو خير الحاكمين {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وأوجز كتاب الله هنا في ذكر عاقبته وعاقبتهم، فقال تعالى:{فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
وأما هود عليه السلام فقد استنكر من قومه عاد ما وجدهم
عليه من العبث والاستهتار والإسراف في التشييد والبنيان، والتوسع في العمران، مع ممارسة البطش والتجبر والطغيان، والكفر بما أنعم الله به عليهم من النعم المتعددة الأصناف والألوان، وها هو كتاب الله يحكي ما وعظ به هود قومه إذ قال:{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} والريع المكان المرتفع الذي يبدو من بعيد. {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فما كان منهم إلا أن أجابوه جواب المصرين على إهمال دعوته، والإعراض عن رسالته {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} وأوجز كتاب الله هنا في ذكر عاقبتهم، فقال تعالى:{فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} .
وأما صالح عليه السلام فقد استنكر من قومه ثمود ما هم عليه من الإسراف في الفساد، والتعنت والتفنن في النحت والبناء، والإغراق في سعة العيش والنعيم والرخاء، مع " الفقر الروحي " البارز في سلوك الآباء والأبناء، فهم لا يفكرون في أي عمل صالح، يقيهم النكبات والجوائح، وهم لا يقدرون الله حق قدره، لا يأتمرون بأمره، وها هو كتاب الله يحكي الخطاب الذي وجهه صالح إلى قومه إذ قال: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا
هَضِيمٌ} أي يانع نضيج {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} أي فرحين آمنين مكر الله {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} ، فما كان منهم إلا أن أجابوه مكذبين متهمين، وطالبوه بتقديم دليل يدل على أنه من الصادقين:{قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فأجابهم قائلا: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ} أي لها حظ في الماء {وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ * وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وأوجز كتاب الله هنا في ذكر عاقبتهم، فقال تعالى:{فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} .
وأما لوط عليه السلام فقد استنكر من قومه ما ابتدعوه دون بقية الناس من الانحراف والشذوذ، والخروج على كل ما هو متعارف بين البشر ومعهود، فقد خلق الله الذكر والأنثى ليكمل بعضهما بعضا، لا ليستغني أحدهما عن الآخر فيبطل حكمة الله ويرفض حكمه رفضا، إذ في ذلك ما فيه من ضياع النسل وانقطاع الذرية، وتعطيل الحكمة الإلهية، وكفى بهما بلية وأي بلية، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]. وها هو كتاب الله يحكي الخطاب الذي خاطب به لوط قومه منددا ببدعتهم، ومنذرا بسوء عاقبتهم: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
عَادُونَ}، فما كان منهم إلا أن هددوه بالنفي والإبعاد، عقابا له على مقاومته لمظاهر الانحراف، والفساد {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} فرد عليهم قائلا:{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} أي المبغضين {رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} ، ثم أوجز كتاب الله في ذكر عاقبته وعاقبتهم فقال تعالى:{فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} .
وأما قصة شعيب مع أصحاب الأيكة التي استغرقت خمس آيات في نهاية هذا الربع فسنتناولها في بداية الربع القادم إن شاء الله، لنأتي بها كاملة في سياق واحد، مع بيان ما فيها من العبر والفوائد، والله المستعان، وعليه التكلان.
ومن خلال الحوار الذي دار في هذه القصص بين الرسل وأقوامهم يتضح لكل ذي عينين ان الرسالات الإلهية منذ فجرها الأول لم تكن توجه الناس نحو السماء إلا لتلهمهم طريق الصلاح في الأرض، وان هدفها الأول والمباشر كان هو العمل على إصلاح المجتمع البشري أدبيا وماديا، والسعي لتطهيره من كل الشوائب، حتى لا يبقى فيه أثر للمساوئ والمعايب، وبذلك يتفادى الوقوع في الكوارث والنوائب، ويصبح مجتمعا مثاليا، جديرا بأن يوصف بكونه إنسانيا، لأنه ينهج نهجا أخلاقيا ربانيا، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].