الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثمن الثاني من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثين
بالمصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نتناول الثمن الثاني من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعاللا:{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} إلى قوله تعالى: {إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} .
ــ
بعد أن عرض كتاب الله دلائل وحدانيته وقدرته وحكمته البارزة في الأنفس والآفاق، في الآيات الخمس الأخيرة من الحصة الماضية، وأعقب كل واحدة منها قوله:{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو الحق المبين، يلاحظ أن كتاب الله ختم كل دليل بما يناسبه، فختم الدليل الأول بقوله:{بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ، أي يعدلون عن عبادته، أو يعدلون به غيره مما هو مخلوق مخترع. وختم الدليل الثاني بقوله تعالى:{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} إشارة إلى ان البعض من الناس يعلم ذلك ويفكر فيه، وختم الدليل الثالث بقوله تعالى:{قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} ، إشارة إلى توالي النسيان على الإنسان، إذ ينسى ربه الذي كان يدعوه من قبل، وختم الدليل الرابع بقوله: {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا
يُشْرِكُونَ}، إذ كانت الأصنام والأوثان التي يعبدونها لا تهديهم في بر ولا بحر، ولا ترسل ريحا طيبة ولا تنزل غيثا نافعا، وختم الدليل الخامس بخاتمة تنتظم مجموع الدلائل، حيث خاطب المشركين والكافرين، وكافة الجاحدين والمعاندين في كل حين، متحديا إياهم، مطالبا لهم بالحجة والبرهان، والكف عن التحريف والهذيان:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
ثم أعرب عن إحدى العقائد الأساسية في ملة التوحيد، ألا وهي انفراد الحق سبحانه وتعالى بعلم الغيب من دون أحد من خلقه {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} ، على غرار قوله تعالى في آية أخرى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]، ومن ذلك انفراده وحده بعلم وقت الساعة المحدود، وما يصاحبها من نشر وحشر، وعرض وحساب، وثواب وعقاب {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ولفظ " أيان " هنا بمعنى متى، وهي مركبة من أي والآن، وهو الوقت، أي لا يعرفون متى تقوم الساعة ولا متى يبعثون. وعن هذه الآية تفرع قوله تعالى في بداية هذا الثمن:{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} إشارة إلى أن المشركين والكافرين والجاحدين في كل عصر اختلط عليهم الحابل بالنابل في شأن النشأة الأخرى والحياة الآخرة، وكثر منهم الخوض فيها من دون جدوى، وطال جدالهم في أمرها دون علم، فنفاها بعضهم، وشك فيها بعضهم، واستبعدها بعضهم و " العلم "
هنا بمعنى الحكم والقول، أي تتابع منهم القول والحكم في شأن الآخرة من دون الوصول إلى نتيجة، وأصل " ادراك " تدارك، أدغمت الدال في التاء وجيء بألف الوصل، وإنما تكرر في هذه الآية لفظ " بل " وهو للاضطراب، ثلاث مرات، تبعا لتقلب احوالهم، وتناقض مواقفهم، ودرجات عنادهم، وحيرتهم الناشئة عن الشرك والكفر والجحود.
وبعد أن وصف كتاب الله حيرتهم البالغة ردد ما تناقلته الأجيال في كل عصر عن هذا الصنف الحائر السخيف، فقال تعالى حكاية عنهم:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} ، وقال تعالى في نفس السياق حكاية عنهم أيضا:{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} . رغما عن تباعد العصور، ويغلب عليها طابع السطحية والسذاجة والتقليد الأعمى، كأن من أبدع النشأة الأولى عاجز عن إبداع النشأة الثانية، لا أنه الخالق الذي يبدئ ويعيد، والقادر على ان يأتي بخلق جديد، أو كأن عمر النوع الإنساني على وجه الأرض يقف عند حد عمرهم وعمر آبائهم ولا يمتد وراء ذلك، أو كأن عمر النوع الإنساني كله منذ ظهوره على سطح الأرض إلى أن يأذن الله بانقراضه يعتبر أمدا بعيدا، بينما هو بالنسبة للأرض نفسها فضلا عن بقية الأكوان المنتشرة في الملأ الأعلى يعد أمدا قصيرا إلى أقصى الحدود، ولذلك كان الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه
يقربون لأقوامهم أمد البعث، مبالغة في التحذير، وكل آت قريب.
ودعا كتاب الله رسوله الأمين إلى أن يحض الناس، مومنهم وكافرهم، على التجول في أرض الله، للتأمل والاعتبار، حتى تحدثهم عن مصارع الذين أجرموا بأصح الأخبار، وذلك قوله تعالى:{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} .
ونظرا لأن خاتم النبيئين والمرسلين أرسله الله رحمة للعالمين، فقد كان عليه الصلاة والسلام يحرص أشد الحرص على إنقاذ البشر من الضلال، رغما عما يتحمله في سبيل ذلك من المتاعب والأهوال، وها هو كتاب الله يفرج عنه كربتهم، ويخفف وطأتهم، فيخاطبه قائلا:{وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} .
وحيث أن أعداء الحق من المشركين والمنافقين واليهود - على عهد الرسالة - كانوا لا ينقطعون عن الكيد للإسلام والمسلمين، والمكر بهم سرا وعلنا، كما تشير إليه الآية السابقة {وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} ها هو كتاب الله يبشر رسوله بأن عاقبة مكرهم آتية لا ريب فيها، ويدعوه إلى إنذارهم بقرب حلولها ونزولها بساحتهم قائلا:{قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} ، وسيأتي في سورة فاطر المكية قوله تعالى مؤكدا لهذا المعنى:{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [الآية: 10] وقوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [الآية: 43]. ومعنى {رَدِفَ
لَكُمْ} اقترب لكم ودنا منكم، وهو من ردف الشيء الشيء إذا تبعه وجاء في أثره.
وإمعانا في تسلية الرسول الأعظم وتهدئة روعه من كيد الكائدين ومكر الماكرين ذكره كتاب الله بأن جحود الكثرة الساحقة من الناس لنعم الله المتواصلة، وإعراضهم عنها، وعدم قيامهم بحق شكرها، لن يحول دون استمرار مدده، إذ هو الرحمن الرحيم، والغني الكريم، فما على رسوله الأمين إلا ان يواصل أداء رسالته إلى الناس كافة، شكروا أم كفروا، أخلصوا أم مكروا، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} .
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى فيما سبق من سورة الإسراء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الآية: 18، 20].
ومعنى {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} ما تخفيه القلوب التي في الصدور، من أكن الشيء إذا أخفاه. قال جار الله الزمخشري:" يعني أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم، وهو معاقبهم على ذلك بما يستوجبونه ". وقال أبو حيان: " أسند كتاب الله الإعلان إلى ذواتهم، إذ قال في هذه
الآية: {وَمَا يُعْلِنُونَ} ، لأن الإعلان من أفعال الجوارح، ولما كان المضمر في الصدور وهو ما ينطوي عليه القلب هو الداعي لما يظهر على الجوارح والسبب في إظهاره، قدم " الإكنان " على " الإعلان "، فقال تعالى:{مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} " وهذا من لطائف التفسير. ومثل هذا التحليل يوجد عند الرازي إذ قال: " ما تكنه صدورهم هو الدواعي والقصود، وهي أسباب لما يعلنون، وهي أفعال الجوارح ".
وبعد أن كشف كتاب الله الستار عن أعداء الإسلام، وأكد أن الله يعلم سرهم ونجواهم ولا تلتبس عليه أحوالهم، عمم القول بأن الله تعالى يعلم كل المغيبات لا يخفى عليه منها شيء لا في الأرض ولا في السماء، وأن ما قد ينكشف منها للخلق لا ينكشف ويبرز إلى الوجود، إلا في وقته المحدود، فقال تعالى:{وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، قال ابن شجرة:" المراد بالغائبة هنا جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغيبه عنهم، وهذا أمر عام ".
ولما كان الامر الثابت في القديم والحديث ما تعرضت له كتب اليهود والنصارى المنزلة، من تبديل وتغيير، وتحريف وتزوير، وحمى الله من ذلك كله كتابه الكريم والذكر الحكيم، إذ تعهد الله بحفظه {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] جعل سبحانه هذا الكتاب الإلهي المحفوظ حكما على الكتب الأخرى ورقيبا عليها، يبين لأهلها الحق من الباطل، والحالي من العاطل، ويفصل بينهم فيما اختلفوا فيه، فقال تعالى فيما سبق
من سورة المادة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [الآية: 48] وقال تعالى هنا في سورة النمل، التي قص فيها على نبيه عدة قصص لها علاقة وثيقة بتاريخ بني إسرائيل وكتبهم المحرفة:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، كما قال في مطلع هذه السورة قبل أن يشرع في قصة موسى:{وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ * إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ} [الآيتان: 6، 7]، وكما قال تعالى في سورة المائدة بعد التصريح بهيمنة القرآن على غيره من الكتب السابقة:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [الآية: 48] قال تعالى هنا في سورة النمل: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} ، ولما كان (القضاء) المفهوم من قوله تعالى:{يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} يقتضي العلم بما يحكم به، وتنفيذ ما يقضي به، جاءت عقبة الصفتان الملائمتان لذلك، وهما صفة " العلم " للوصول إلى معرفة الحكم، وصفة " العزة " التي هي الغلبة والقدرة، للتمكن من تنفيذه، فقال تعالى في نفس السياق:{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} .
وإمدادا للرسول الأعظم بمدد إلهي جديد، وهو في خضم المعركة مع قوى الشرك والإلحاد، والشر والفساد، وتثبيتا لفؤاده حتى يتخطى جميع العقبات والمزالق، وجه إليه كتاب الله هذا الخطاب الرقيق الرفيق:{فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} ، ومن كان الله له نصيرا وعليه وكيلا، لم ينل منه العدو
كثيرا ولا قليلا، قال جار الله الزمخشري:" وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج، الذي لا يتعلق به الشك والظن، وفيه بيان ان صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته، وأن مثله لا يخذل "{وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
وليريح الحق سبحانه وتعالى ضمير رسوله من العناء الكبير، الذي يلاقيه ممن طبع الله على قلوبهم عندما لا يستجيبون لله ورسوله {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] وليرفع عنه كل مسؤولية في عدم استجابتهم، بعد بذل الجهد البالغ في أداء الأمانة، خاطبه قائلا:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ} فمن كان ميت القلب، أصم الأذن، أعمى البصر والبصيرة، لا شفاء له من دائه العياء، ولا أمل في هدايته ولا رجاء، {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].
وعلى العكس من ذلك من كان حريصا على كشف حقيقة ذاته، والتعرف على جوهر إنسانيته، وإدراك دوره في الحياة ورسالته، فإنه لا محالة يفتح قلبه وعقله للتأمل والنظر، ويفتح أذنه وعينه لاستيعاب كل ما يسمعه ويراه من المثلات والعبر، فينقاد للحق الذي طالما بحث عنه وسعى إليه، وبمجرد ما يكتشفه ويعثر عليه، وعلى مثل هذا الصنف من الناس يصدق قوله تعالى في ختام هذه الحصة:{إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} .