المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الأخير من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٤

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الرابع

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة مريم

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة طه

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأنبياء

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحج

- ‌الربع الأول من الأول من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المؤمنون

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والثلاثسنفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النور

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والثلاثسنفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الفرقان

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)(القسم الأول من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)(القسم الأول من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)(القسم الثاني من هذا الربع)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)(القسم الثاني من هذا الربع)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الشعراء

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النمل

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأخير في الحزب الثامن والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأول في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة القصص

- ‌الثمن الثاني من الربع الثاني في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب التاسع والثلاثينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌تعليق وتحقيق

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والثلاثينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة العنكبوت

- ‌الربع الثاني من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الأربعينفي المصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والثلاثينفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الأخير من الحزب الواحد والثلاثين

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

في حصة هذا اليوم نتناول الربع الأخير من الحزب الواحد والثلاثين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة مريم:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} إلى قوله تعالى في نفس السورة: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}

ــ

سبق في الرابع الماضي في معرض الحديث عن سيرة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام قوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} ، كما سبق في نفس الربع، حكاية على لسان عيسى ابن مريم عليهما السلام قوله تعالى:{وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} ، وفي آية أخرى سابقة من كتاب الله يقول الله تعالى:{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125].

وسبق في سورة البقرة، خطابا لبني إسرائيل، قوله تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}

ص: 43

[الآية: 43]، وقوله تعالى فيها خطابا لهم أيضا:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [الآية: 45] وسبق في سورة آل عمران قوله تعالى في شأن زكريا عليه السلام: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [الآية: 39].

وبهذه الآيات وما شابهها يتبين أن (الصلاة والزكاة) شعيرتان قديمتان من شعائر الدين، التي أوحى الله بها إلى عدد من الأنبياء والرسل السابقين، نظير (الحج) الذي دعا إليه إبراهيم الخليل، امتثالا لأمر الله تعالى الوارد في كتابه العزيز، إذ قال مخاطبا له:{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 27 - 28]، ونظير (الصيام) الذي ورد في شأنه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 183، 184].

وبناء على ذلك تكون شعائر الإسلام وأركانه الأربعة المتفرعة عن (الإيمان) الذي هو القاسم المشترك بين كافة الأنبياء والرسل كلها ذات أصل واحد، ولها جذر عريقة في القدم، على حد قوله تعالى:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، والإسلام إنما أحياها وجدد معالمها، وأصلح منها ما أفسدته الأهواء والشهوات، ونفى عنها ما

ص: 44

دخل عليها من الجهالات والضلالات، وقد أدرك الإسلام عرب الجاهلية وهم يمارسون الحج والصيام والصلاة بالمفهوم الجاهلي الذي آل إليه أمر هذه العبادات عندهم، {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 45] وكانت بداية إصلاح ما فسد منها، وتنقيتها من الشوائب، في التشريع المكي على وجه الإجمال، ثم بلغ أمر تنقيتها وتهذيبها وتجديد نظمها في التشريع المدني حد الكمال، مصداقا لقوله تعالى في آخر عهد الرسالة:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وعلى ضوء هذا التحليل ننتقل إلى أول آية في هذا الربع وهي قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} ، فقد كان الحديث في الآية قبلها عن الذين أنعم الله عليهم من النبيئين السابقين من ذرية آدم وذرية إبراهيم وإسرائيل، ومن ذرية الذين حملهم نوح معه في السفينة وبذلك يكون الضمير في قوله تعالى هنا {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} عائدا على أولئك النبيئين السابقين الذين كانوا يصلون ويأمرون الناس بالصلاة، حتى إذا جاءت الأجيال اللاحقة من بعدهم لم تهتد بهديهم في طاعة الله وتقواه، بل أقبلت على الشهوات وقطعت صلتها مع الله، ومن أجل ذلك أطلقت عليهم الآية هنا لفظ (خلف) بمعنى أولاد السوء.

ويشهد للتفسير الذي ذهبنا إليه، المبني على ربط هذه الآية بما قبلها، قوله تعالى في سورة البقرة أثناء الحديث عن بني

ص: 45

إسرائيل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الآية: 83] مع التعقيب عليه بعد ذلك بقوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} .

و (الشهوات) عبارة عما يوافق الإنسان ويشتهيه، ويلائمه ولا يتقيه، والمراد بها هنا اللذات والمعاصي، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات). وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} أي سيلقون ضلالا وخيبة وخسرانا وهلاكا في جهنم. ولا مانع من إدخال تاركي الصلاة الذين هم عن صلاتهم ساهون، ولها مضيعون، ممن ينتسبون للإسلام، تحت الوعيد الوارد في هذه الآية، إذ ما جرى على المثل يجري على المماثل، والجرم الذي يرتكب في حق الله تعالى يعاقب عليه صاحبه كيفما كانت الملة التي ينتسب إليها. جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة "، وفي موطأ الإمام مالك عن نافع مولى عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب كتب إلى عماله:(إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع).

وقوله تعالى في نفس السياق: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} استثناء من الوعيد الشديد الموجه إلى تاركي الصلاة، ومقتضاه أن من تاب إلى الله ورجع عن

ص: 46

ترك الصلاة فأقبل على إقامتها وحافظ على أدائها، وتراجع عن الاستغراق في الشهوات فلم يبق أسيرا من أسرائها، وانصرف إلى الأعمال الصالحة بمختلف أصنافها، فإن الله يقبل توبته، ويحسن عاقبته، ويمن عليه بأعظم منة، فيجعله من ورثة الجنة، وفي الحديث الشريف " التائب من الذنب كمن لا ذنب له "، وقوله تعالى:{وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} يقتضي أنهم لا يحاسبون على ما عملوه قبل التوبة، لأن التوبة إذا استوفت شروطها تجب ما قبلها.

وبمناسبة ذكر (الجنة) في هذا السياق تولى كتاب الله وصف الجنة التي وعد بها عباده المتقين، ترغيبا في الإقبال على العمل الصالح والتمسك بالتقوى، فقال تعالى:{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} .

وقوله تعالى في هذه الآية {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} يفهم منه أن رزقهم في الجنة دائم غير منقطع، على غرار قوله تعالى:{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32، 33]، ومعنى كلمة (عدن) الواردة في نص الآية الإقامة والاستقرار، والجنة دار إقامة جعلها الله إرثا للمتقين.

وقوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} يحتمل تفسيرين اثنين:

ص: 47

التفسير الأول: أن تكون هذه الآية مرتبطة بما قبلها، وحيث أن الحديث فيما قبلها مباشرة كان عن الجنة التي يورثها الله عباده المتقين، تكون هذه الآية حكاية لقولهم عند دخول الجنة، إخبارا منهم عن حالهم فيها، ويكون معناها: وما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر ربك، لا يخفى عليه أي شيء من أعمالنا وأحوالنا، ولا يغادر كبيرة ولا صغيرة من شؤونها، على غرار قوله تعالى في آية أخرى:{لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52].

التفسير الثاني: أن تكون غير مرتبطة بما قبلها، بل بداية موضوع جديد، وعلى هذا الفهم يكون الخطاب في قوله تعالى:{إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} موجها إلى خاتم النبيئين والمرسلين، تأكيدا لكون الرسالة عن الله لا تتجاوز حدود التبليغ عنه، وتنبيها إلى ضرورة انتظار ما يرد من أوامره العليا عن طريق الوحي، ويكون ضمير المتكلم ومعه غيره أو المعظم نفسه في قوله تعالى:{وَمَا نَتَنَزَّلُ} عائدا على ملك الوحي جبريل عليه السلام، إخبارا منه بأنه لا يستطيع أن ينزل على الرسول إلا إذا أمره الله بالنزول، وبأنه لا يتأخر عن تنزيل الوحي متى صدرت به أوامر الله إلى الرسول {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ} ، ويكون قوله تعالى في نفس السياق:{لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} واردا على لسان ملك الوحي، تأكيدا لكونه في قبضة الله، ومسيرا في أفعاله بأمر الله على الدوام والاستمرار، وأنه مهما علا قدره فما هو إلا واحد من ملائكة الرحمن الذين {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

ص: 48

وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} يحتمل وجهين اثنين:

الوجه الأول - أن يكون المراد إدخال الطمأنينة على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهدئة روعه عندما يتأخر عنه الوحي، وذلك حتى لا يستولي عليه القلق، ولا يظن به أعداء الله الظنون، والمعنى حينئذ أنه بالرغم من تأخر الوحي عنك فإن الله لا ينساك، وأنه في كل وقت يرعاك، على غرار قوله تعالى:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3].

الوجه الثاني - أن يكون المراد تنبيه الرسول عليه السلام وعن طريقه تنبيه كافة المؤمنين إلى أن الوحي إذا لم ينزل في بعض الشؤون فإنه لا يتصور في حق الله أن يكون ذلك عن نسيان، وإنما المقصود به الرفق والتيسير والتوسعة على بني الإنسان. روى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية أي معفو عنه فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم ينس شيئا " ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} .

وقوله تعالى هنا: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي هل تعلم لله نظيرا وشبيها، ولفظ (سمي) في هذا المقام مأخوذ من (المساماة) لا من الاسم، يقال " ساماه " إذا عالاه وباراه، وتسامى القوم إذا تباروا وتفاخروا، والمراد أنه لا مثل له ولا شبيهة {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .

وقوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى

ص: 49

الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} أن معناه أن الله تعالى يسلط عذابه يوم القيامة على رؤساء الضلال قبل أتباعهم، ويبدأ بأكابر المجرمين قبل أصاغرهم، لعظم مسؤوليتهم في إشاعة الفاحشة ونشر الإجرام، وصد الخلق عن طريق الحق، على غرار قوله تعالى في آية أخرى:{حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف: 38]، وقوله تعالى في آية أخرى:{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67، 68].

وقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} إما أن يكون الخطاب فيه موجها إلى أصناف الكافرين، والعصاة المتمردين، وعلى هذا المعنى يكون " الورود " على النار قاصرا عليهم دون غيرهم، مصداقا لقوله تعالى في آية أخرى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، وتكون هذه الآية مرتبطة بما قبلها تمام الارتباط، وإن كان الضمير فيما سبقها ضمير غيبة، والضمير الوارد فيها ضمير خطاب، قال ابن الأنباري:" جائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب " واستدل بقوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 21، 22].

وإما أن يكون الخطاب فيه موجها إلى الناس أجمعين،

ص: 50

ويكون الورود على النار لازما للجميع، يرد عليها المتقون عابري سبيل، فتكون عليهم بردا وسلاما، ثم يصدرون عنها، ناجين من عذابها، مصداقا لقوله تعالى هنا:{ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} ويكون ما وعدهم الله به من الإبعاد عنها عبارة عن كونهم - وإن دخلوها - لا يحسُّون منها وجعاً ولا ألماً.

ويَرِد عليها الكافرون والعصاة المتمردون فيُخلَّد فيها الكفار، ويصلى بنارها الفجار، مصداقا لقوله تعالى هنا:{وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} ، روي عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الورود الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، ونذر الظالمين فيها جثيا) أسنده أبو عمر بن عبد البر في كتاب " التمهيد ".

وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} هذا غاية الوعيد والتهديد لمن أصر على الضلال، واغتر بإمهال الله له، ظنا منه أن ذلك نوع من الإهمال، نظير قوله تعالى:{وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110]، وقوله تعالى:{إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178].

وقوله تعالى: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} الشفاعة في العصاة بعد تعذيبهم لا تكون إلا بإذن الله، وهذا الإذن لا يمنح إلا لمن اتخذ عند الله عهدا، و (العهد) هنا لفظ جامع للإيمان والعمل الصالح {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].

ص: 51

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} وعد صادق من الله تعالى لكل من آن وعمل صالحا ذكرا أو أنثى بأنه سيغرس محبته في القلوب، وسيخلع عليه رداء القبول، حتى يصبح في أعين الناس المثل الأعلى للمومن المقبول المحبوب، علاوة على ما يحظى به من تيسير الله له كل عسير، وما يناله من لطفه الخفي في كل أمر خطير، مصداقا لقوله تعالى في سورة النحل {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [الآية: 98]، وفي آية ثانية:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4]. روى الترمذي من حديث سعد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أحب الله عبدا نادى جبريل: إني قد أحببت فلانا فأحبه، فينادي في السماء، ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قوله تعالى سيجعل لهم الرحمن ودا، وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل: إني أبغضت فلانا، فينادي في السماء، ثم تنزل له البغضاء في الأرض " وخرجه البخاري ومسلم بمعناه، ومالك في الموطأ وأحمد في المسند.

وبختام هذا الربع ختمت سورة مريم المكية، وكان مسك الختام التنويه بالدعوة الإسلامية وما جاءت به من البشائر للمتقين آيات الذكر الحكيم، وما ينتظر أعداءها الألداء من هلاك مقيم في عذاب الجحيم {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} .

ص: 52