الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب التاسع والخمسين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موضوع حديث اليوم تفسير الربع الثالث من الحزب التاسع والخمسين في المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى في فاتحة سورة "الانفطار" المكية:{بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} ، ونهايته قوله جل علاه في سورة "الانشقاق" المكية أيضا:{إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} .
ــ
في مطلع هذا الربع، وهو فاتحة سورة " الانفطار " المكية يتناول كتاب الله الحديث عن انفطار السماء، وانتثار الكواكب، وتفجير البحار، وبعثرة القبور، ويشير إلى أن هذه الظواهر الكونية الغريبة التي تزعزع كيان الكون، وتقلبه رأسا على عقب، سترافقها وستصاحبها ظاهرة أخرى تزعزع كيان الإنسان، لا تقل عنها قوة ولا تأثيرا، ألا وهي ظاهرة كشف الإنسان عن حقيقة نفسه بنفسه، واطلاعه على دخيلة أمره، حتى لا تبقى زاوية من زواياه، ولا سر من أسراره، إلا وقد انكشف له انكشافا تاما،
وألقيت عليه الأضواء من كل جانب، والإنسان -حسبما يعيش عليه في دنياه - يكذب على نفسه كثيرا، ويخيل إليه غير ما مرة أنه أحسن مما هو عليه في الواقع، ويحاول أن ينسى كل ما ارتكبه من سيئات ومخالفات، وأن يتناسى كل ما يصبه على غيره من إذايات وإساءات، ويخادع نفسه كلما دعته الضرورة إلى خداعها، تفاديا من وخزها وتبكيتها، فإذا جاء الموعد لاطلاعه على حقيقته كما هي، وظهر عاريا من كل الأصباغ ومساحيق التجميل، التي اعتاد استعمالها لتستر ما ظهر من عيوبه وما بطن، فستكون مفاجأته بنفسه على حقيقتها أكبر مفاجأة، وسيخيب ظنه في نفسه، قبل أن يخيب ظنه فيما كان يمني به نفسه من الجزار الحسن، وقبل أن يخيب ظن غيره فيه، ممن كان يحاول أن يظهر أمامهم في دنياه بمظهر الصلاح والاستقامة وحسن السلوك، فيكتشفون في الآخرة -بدورهم- أنه إنما كان مجرد وحش في صورة إنسان، وشبح ملك في حقيقة شيطان، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:{بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} .
ويتجه الخطاب الإلهي بعد ذلك إلى الإنسان المملوء زهوا وغرورا، لافتا نظره إلى أنه لا ينبغي له أن يبقى سادرا في غلوائه، متجاهلا ما عليه نحو ربه وخلقه من حقوق وواجبات، وإلى أن كرم الله على الإنسان بنعمة الإيجاد والإمداد أولى أن يكون حافزا للإنسان على شكر مولاه وطاعته، والسعي في
مرضاته، بدلا من أن يكون دافعا له إلى كفر نعمه، وجحود كرمه، وهكذا يوجه كتاب الله إلى الإنسان، هذا العتاب الإلهي الرقيق، عسى أن يحرك في قلبه أوتار الإيمان:{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} .
ويلتفت كتاب الله مرة أخرى إلى الذين لا يزالون يكذبون بالمعاد والجزاء، مؤكدا لهم أنه قد وكل بهم ملائكة يحفظون أعمالهم، فلا سبيل إلى نسيانها، ويسجلونها بالكتابة، فلا سبيل إلى محوها، وكأن الحق سبحانه يغري عباده في نفس الوقت بالاستقامة والصلاح والتقوى، حتى لا يثيروا اشمئزاز الحفظة الكرام وسخطهم، فضلا عن أن يثيروا بمعاصيهم سخط الله وغضبه، إذ " المعاصي بريد الكفر "، والمعصية تجر إلى أختها، ثم تدفع إلى ما هو أكبر منها، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:{كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} .
وينتقل كتاب الله إلى التذكير بمصير الأبرار ومصير الفجار من خلقه، وما أعده في الآخرة لكلا الفريقين، فقال تعالى:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} .
وبين كتاب الله أهمية " يوم الدين "، وهو يوم الجزاء الأكبر، يوم تفصل شؤون الخلائق أمام محكمة العلي الأعلى القاهر فوق
عباده، والذي لا معقب لحكمه، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} .
ولننتقل الآن بعون الله وتوفيقه إلى سورة " المطففين " وهي مكية في قول ومدنية في قول آخر، وقد سميت بهذا الاسم، لما ذكر فيها من أمر " المطففين "، والمراد " بالمطففين " التجار الذين ينقصون الكيل إذا كالوا للناس، وينقصون الوزن إذا وزنوا لهم بينما إذا كالوا أو وزنوا لأنفسهم يأخذون أكثر من حقهم، وإذا كان التطفيف في الكيل والميزان يتمشى مع روح " الجاهلية الأولى "، وما عرف فيها من الربا الفاحش والعقود الفاسدة، فإنه لا ينسجم مع روح الإسلام في قليل ولا كثير، ولذلك نزل كتاب الله لمحاربته، والتنفير منه ومن أصحابه، وتهديدهم بالخسران والهلاك والويل، فقال تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}.
وتولى كتاب الله بنفسه تفسير المعنى المراد " بالمطففين " فقال تعالى في وصفهم: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} ، أي: إذا اكتالوا لأنفسهم من الغير بأن كانوا هم المشترين والغير هو البائع أخذوا حقهم بالوافي والزائد، {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} ، أي: وإذا كالوا أو وزنوا لغيرهم -بأن كانوا هم البائعون وكان الغير هو المشتري- نقصوا من حقه في الكيل والوزن، وأعطوه أقل مما يستحق، وألحقوا به الخسارة عن طريق " التطفيف ".
ثم توعّد الحق سبحانه هؤلاء اللصوص المحترفين، الذين
يختلسون أموال الناس عن طريق التطفيف في الكيل والميزان، في كل جيل وفي كل زمان، وهددهم بالحساب العسير يوم القيامة أمام الله، فقال تعالى:{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، أي: يوم يكون الناس كلهم واقفين أمام الله في موقف رهيب، ينطق كل ما فيه بالعظمة والجلال، ويوحي بالرهبة والخوف من الكبير المتعال.
ثم أخذ كتاب الله يصف حالة " الأبرار " وحالة " الفجار "، إذ لا عبرة في الآخرة إلا بهذا الاعتبار، فأما " الأبرار " الذين عملوا الصالحات، واتبعوا في حياتهم مقتضى الآيات البينات، فقد نزل في وصفهم وجزائهم -ترغيبا في سلوك طريقهم والاقتداء بهم- قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} ، وقوله تعالى:{فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} .
وأما الفجار الذين عملوا السيئات وانتهكوا الحرمات، ووقفوا في وجه ما جاءت به النبوات والرسالات، فقد نزل في وصفهم وجزائهم -تنفيرا من تقليدهم وإتباعهم- قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} ، وقوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ
هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}.
وألقت الآيات الكريمة في هذه السورة بعض الأضواء الكاشفة على السر الدفين، الذي يدفع الفجار إلى التكذيب " بيوم الدين " ألا وهو ما هم عليه من الإغراق في الظلم والعدوان، ومن الاستغراق في المعاصي والآثام، وهذه الحالة الجنونية التي يكونون عليها، ولا ينفكون عنها طيلة حياتهم، تجعلهم حريصين كل الحرص على أن يبعدوا عن خيالهم كل الأشباح المزعجة، التي تدينهم على ما يرتكبونه من المظالم والآثام، ولو كانت أشباحا وأحلاما في المنام، فما بالك بعذاب الله، الذي ينتظرهم يوم الحساب أمام الله، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} ، أما " المقسطون " الذين لا يعتدون ولا يظلمون، وأما " الصالحون " الذين لا يعصون ولا يأثمون، فإنهم يحبون لقاء الله ويشتاقون إلى يوم اللقاء، أضعاف أضعاف اشتياق الظمآن إلى الماء. " ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه " كما في الحديث الشريف.
وكشف كتاب الله الستار عن الاستخفاف والتهوين من " قيمة المسلمين "، في نظر الكفار، وأن الكفار يضحكون من الذين آمنوا ويستهزؤون بهم، ويعتبرونهم ضالين عن سواء السبيل، ولا يحملون لهم أدنى تقدير أو احترام، بينما الكفار في خاصة أنفسهم يعتزون بما هم عليه، ويعودون إلى بيوتهم وهم بالمسلمين يهزءون، وبأحوالهم يتفكهون، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ}، ثم قال تعالى:{وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} ، إشارة إلى ما في الكفار من الفضول الزائد، وتتبع أحوال المؤمنين والانشغال بهم، وإن كانوا غير مسئولين عنهم.
وقوله تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ، يمكن تفسيره على وجهين:
- الوجه الأول: أن مجازاة الكفار على معاملتهم للمسلمين، بالتنقيص من قدرهم، والاستهزاء بهم - وهي موضوع السؤال- قد تولاها الحق سبحانه بنفسه، وسيعاقبهم " يوم الفصل " بما يستحقون.
- الوجه الثاني: أن يكون السؤال واردا بمعناه الأصلي، إشارة إلى أن معاملة الكفار للمسلمين يجب أن يرد عليها المسلمون بالمثل، فيفرضوا احترامهم على الغير، ولا يسمحوا للغير بأن يجعلهم محل استهزاء أو سخرية، وذلك لا يتم تحقيقه إلا بالتزام الوصايا الإلهية والتوجيهات الإسلامية في معاملة غير المسلمين.
ولننتقل الآن إلى سورة "الانشقاق" المكية، مستعينين بالله، والحديث في مطلعها يتناول فناء العالم، وظواهر الانقلاب الكوني الشامل {بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} .
ثم يوجه الله تعالى خطابه إلى الإنسان الغافل المتثاقل الخطى، مذكرا له بأن رحلته على ظهر الأرض مهما طالت فهي رحلة قصيرة، وبأن حياته فيها مهما امتدت فهي حياة عابرة، علاوة على ما في الحياة بطبيعتها من متاعب ومشاق، وشدائد وأهوال، وكد وجهد، فإن لم يدخر الإنسان من يومه لغده، ومن حياته الأولى لما بعدها، كانت صفقته صفقة خاسرة، وكان من الأخسرين أعمالا، {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (الكهف: 104)، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} ، وكأن الله تعالى يقول لعبده "الخاوي" الوفاض، البادي "الإنفاض" بماذا ستلاقي ربك؟ هل ستلاقيه باليد الفارغة والكتاب الأسود؟ إن الأمر ليس أمر هزل، ولكنه أمر جد، فماذا أنت فاعل أيها الإنسان الوسنان؟.
ثم يعقب كتاب الله على هذا النداء المباشر بذكر أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وما يناله كلا الفريقين، عسى أن تتحرك همم الكسالى المتخاذلين:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} ، أي: أنه كان يعتقد أنه لن يرجع إلى الله، ولن يبعث بعد الموت، و"الحور" هو الرجوع، {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} .