الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب الخامس والخمسين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حديث هذا اليوم نتناول تفسير الربع الثاني من الحزب الخامس والخمسين في المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى في سورة "المجادلة" المدنية:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، ونهايته قوله جل علاه في سورة "الحشر" المدنية أيضا:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
ــ
وكتاب الله في مطلع هذا الربع يحذر الرسول عليه السلام من طائفة المنافقين، ويبين له ما هم منطوون عليه من موالاة اليهود الذين لا يضمرون أي خير للعرب، لا للعرب المسلمين، ولا حتى للعرب المنافقين الذين يمالئونهم في الباطن. ويهتك كتاب الله الستر عن أسلوب التضليل والتدجيل الذي يستعمله " المنافقون " تقليدا لليهود لجلب المؤمنين الصادقين إلى صفهم والتأثير عليهم، ولا سيما ما يقسمون به من الأيمان المغلظة،
تأييدا لدعاويهم، وتدعيما لأكاذيبهم، ويبين كتاب الله أن الأيمان المغلظة التي يحلفونها إنما هي ستار كثيف يخفون به مقاصدهم، وسلاح خفيف يحمون به أنفسهم، حتى لا تفتضح نياتهم، ولا تنكشف عوراتهم، وحتى تستمر أحكام الإسلام الظاهرة جارية عليهم، باعتبار أنهم " مسلمون ". وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
ثم يتحدث كتاب الله عن المصير السيئ الذي ينتظر " المنافقين " يوم القيامة، وأن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم في الآخرة من الله شيئا، إذ لا يستطيعون فدية رقابهم بالمال، ولا يستطيعون نصرة أنفسهم بالرجال، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
وحيث أن من عاش على شيء مات عليه، وحيث أن المنافقين قد تمكن النفاق من قلوبهم، واعتادوا الحلف بالأيمان الكاذبة وهم على قيد الحياة في الدنيا، واتخذوا من أيمانهم الفاجرة وقاية يتقون بها سطوة الإسلام وسلطانه، فإنهم سيواصلون نفس الخطة وهم في الآخرة، وسيحلفون أمام الله على الكذب، كما كانوا يحلفون عليه أمام رسوله والمؤمنين، جهلا منهم بأن الله يعلم السر والنجوى، وظنا منهم أن ذلك سينجيهم من عذاب الله،
مثل ما أنجاهم كذبهم في الدنيا من متابعة الناس، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .
ونظرا لأن البشر على اختلاف أجناسهم إنما هم فريقان: فريق يدعوا إلى " الحق " ويسعى في الصلاح، وفريق يدعو إلى " الباطل " ويسعى في الفساد، فقد اعتنت الآيات الكريمة هنا بتحديد الفروق الواضحة والسمات المميزة التي يتميز بها الفريق الأول وهو " حزب الله " عن الفريق الثاني وهو " حزب الشيطان "، وذلك ليعرف المؤمنون عن بينة، في جهة من يجب أن يضعوا ثقتهم، وفي يد من يجب أن يضعوا أيديهم:
- فأما " حزب الشيطان " الذي يقود الشيطان خطواته، ويوحي إلى أهله زخرف القول غرورا، فهو الذي استحوذ عليه الشيطان استحواذا تاما، بحيث أنساه ذكر الله بالمرة، فلا هو من يؤمن بالرسل ورسالاتهم، ولا هو من يؤمن بالكتب المنزلة وشرائعها، ولا هو من يؤمن بالآخرة وعذابها، بل هو يتحدى أوامر الله ونواهيه تحديا صارخا، فينتهك الحرمات، ويتعدى الحدود، ويحاول أن يقف في وجه كل شيء له علاقة بتوحيد الله وهدايته، ويعمل كل ما في وسعه جاهدا لطمس معالم الوحي والدين، بين البشر أجمعين، وإلى هذا الحزب الضال المضل من البشر يشير قوله تعالى:{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
- وأما " حزب الله " فهو الذي شرح الله صدره للإيمان، وحببه إليه، وأقره في قلبه، وأيده بروح منه، وثبته بالقول الثابت، في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وألقى في قلبه محبة المؤمنين بالله ورسوله ومودتهم، وعداوة غيرهم إلى الأبد، ولو كان هذا الغير من أقرب الأقربين. وإلى حزب الله من الهادين المهتدين، الذين هم النبراس المضيء في الدنيا والدين، يشير قوله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
ومما يجب التنبيه إليه ما جاء في سياق التفرقة بين حزب الله وحزب الشيطان من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} ، فهذه الآية " تتوعد حزب الشيطان " بأن مصيره المحتوم هو الخزي والذل والهوان، مهما تطاول على الله وجاهره بالشنآن والعدوان. كما أنها " تعد حزب الله " الذي يرعاه الله، ويتصدره " أولو العزم " من الرسل، بالغلبة على حزب الشيطان والنصر عليه، لا في الآخرة وحدها، ولكن حتى في الدنيا قبلها، طبقا لصريح قوله تعالى في آية أخرى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر: 51)، وقد صدق الله وعده لحزبه فعلا، فغلب الإيمان
على الكفر، وانتصر التوحيد على الشرك في رقعة واسعة من العالم، وأظهر الله دينه الحنيف على كثير من المعتقدات الزائفة، والتقاليد الباطلة، التي كانت قبل ظهوره سائدة في جميع أطراف الأرض، فآمنت بالله ورسوله، ودانت بدين الله، مآت الملايين من البشر، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، وها هو مد الإسلام، لا يزال في امتداد مستمر على الدوام، رغما عما تعرض له المسلمون عبر الأجيال والقرون من بطش وضغط، ومكر سيء، وكيد خفي، يلاحقهم به أعداء الإيمان، في كل مكان. أما موجات الكفر والإلحاد التي تتصاعد في بعض الفترات وفي بعض الأجيال، وفي بعض البقاع، فإن مآلها دائما إلى تقهقر وتراجع، أمام تيار الإيمان الصاعد، الذي يمده كل يوم مدد جديد من العلم بأسرار الكون، والمعرفة بعجائبه، والاكتشافات الحديثة لآفاقه الواسعة، وبذلك كله تتحقق الغلبة لله ولرسله في الدنيا كما هي محققة في الآخرة.
وقوله تعالى في التعقيب على هذا المعنى: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} ، إشارة إلى أن " قوة " الله التي لا تعادلها قوة، وإلى أن " عزته " التي لا يلحقها ضيم، هما أكبر ضمان لحزب الله في صراعه مع حزب الشيطان، وما دام الأمر كذلك فمن تمسك بحبل الله، وانضم إلى حزب الله، كان أقوى من كل قوي، وأعز من كل عزيز، إذ أنه يأوي إلى ركن ركين، ويعتمد على سند متين.
والآن فلننتقل إلى سورة " الحشر " المدنية أيضا، وقد سميت " سورة الحشر " أخذا من قوله تعالى في الآية الثانية منها: {هُوَ
الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ}، وهذه السورة الكريمة تشير إلى يهود " بني النضير "، وجلائهم عن المنازل التي كانوا يسكنونها، والحصون التي كانوا يتحصنون بها خارج " المدينة " على أميال منها من الناحية الشرقية، وذلك بعدما حاصرهم رسول الله والمؤمنون ست ليال، على رأس ستة أشهر من " غزوة أحد " أوائل السنة الرابعة من الهجرة، فنزلوا واستسلموا، على أساس الكف عن دمائهم، والجلاء عن منازلهم وحصونهم، وأن لهم ما أقلّته إبلهم وحملته من الأموال والأمتعة، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، إلاّ " الحلقة " وهي السلاح الكثير، فلم يسمح لهم بحمله معهم، واتجه فريق من بني النضير إلى " خيبر "، واتجه فريق آخر إلى " أذرعات " من أعالي الشام.
والسبب المباشر لحصار " بني النضير " ونزولهم على " الجلاء " فيما يذكره أصحاب المغازي والسير هو أنهم تواعدوا مع رسول الله على أن يخرج إليهم في طائفة من أصحابه، وأن يخرج إليه منهم طائفة من أحبارهم، حتى يلتقي الفريقان ويسمعوا منه، فيؤمنوا به إن صدقه أحبارهم، فلما حل الموعد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم:" إنكم لا تؤمنون عندي إلا بعهد تعاهدونني عليه "، فأبوا أن يعطوه عهدا، رغما عن مهادنته لهم منذ هجرته إلى المدينة، وما أعطوه له من العهد والذمة إذ ذاك، وبهذه المناسبة خلا بعضهم ببعض، فقالوا: " إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، وكان رسول الله مستندا إلى
جنب جدار من بيوتهم، فهل من رجل يعلو على هذا البيت فيلقي صخرة على محمد فيريحنا منه؟ " وانتدبوا لذلك واحدا منهم، فصعد أشقاهم ليلقي الصخرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله في نفر من أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي، فأوحى الله إلى رسوله بما أراد القوم من اغتياله، وقفل وحده راجعا إلى المدينة، ولما أقبل عليه أصحابه أخبرهم بخيانة " بني النضير " ونقضهم للعهد الذي عاهدوا عليه الرسول، ومحاولتهم للغدر به وهو بين أظهرهم، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، ولما أعدوا العدة سار إليهم بالكتائب حتى نزل بهم، فتحصنوا في الحصون، وبعد مضي مدة الحصار الإسلامي المضروب على حصونهم طلبوا الصلح، وسألوا رسول الله أن يحقن دماءهم ويجليهم عن ديارهم، فصالحهم على ذلك، وتم جلاء " بني النضير " عن منازلهم التي كانوا بها خارج المدينة، ولم يسلم منهم بهذه المناسبة إلا رجلان أسلما على أموالهما فأحرزاها، وهما يامين بن عمرو وأبو سعد بن وهب. وإلى الواقعة تشير الآيات الكريمة الواردة في " سورة الحشر " وكان ابن عباس يطلق عليها أيضا " سورة بني النضير ".
وقد ابتدأت هذه السورة بما يفيد خضوع جميع المخلوقات، في الأرض والسماوات، لعزة الله وجلاله، وتنزيهها لخالقها عن كل نقص أو عجز، واعترافها بحكمته وكماله، وذلك قوله تعالى:{بسم الله الرحمن الرحيم سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
ثم شرعت الآيات الكريمة في وصف حصار " بني النضير " وجلائهم، فقال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} ، وفي هذه الآية إشارة إلى أن الوضع المادي الذي كان عليه " بنو النضير " من المال والسلاح والحصون كان يوحي إليهم بأنهم في عز ومنعة، بحيث لا يستطيع أن يطاولهم أحد، فضلا عن أن ينتصر عليهم:{وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} ، كما كان هذا الوضع نفسه يوحي إلى الجماعة الإسلامية الناشئة بأن الاستيلاء على " بني النضير " يحتاج إلى تضحيات جُلى، إن لم يكن في حكم المتعذر بالمرة، {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} ، فلما فتحوا أبواب حصونهم وخرجوا منها مستسلمين، يعرضون بأنفسهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكف عن قتالهم، وأن يجليهم عن ديارهم، كان ذلك أمرا إلهيا خارقا للعادة، {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} ، إذ لم يكن هذا المصير الذي انتهوا إليه بعد ست ليال من حصارهم منتظرا، لا عند المسلمين، ولا عند " بني النضير " أنفسهم، وقد كان في الإمكان أن يطول الحصار أسابيع وشهورا. وإذن " فالرعب " الذي ألقاه الله في قلوبهم، والهزيمة التي استولت على نفوسهم، هما العاملان الأساسيان في خروج " بني النضير " من حصونهم، واستسلامهم للرسول والمؤمنين، ورضاهم بالجلاء عن " المدينة " عاصمة الإسلام الأولى، وفي هذا الإطار من الظروف والملابسات نستطيع أن نفهم المراد بقوله تعالى في هذا
وقوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} ، في وصف " بني النضير " وهم يتأهبون للجلاء عن ديارهم، إشارة إلى ما قاموا بهدمه من مبانيهم، وما قاموا بنقضه من سقوفهم، وما قاموا بقلعه من أخشاب أبوابهم، وما قاموا بحمله من مختلف الأمتعة والرياش التي كانت بمنازلهم، وبذلك خرّبوا بيوتهم بأيديهم وتركوها خرابا يباباً.
وقوله تعالى: {وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} ، إشارة إلى ما قام به المسلمون أثناء حصارهم " لبني النضير "، فقد كان المسلمون إذا ظهروا على درب أو دار هدموا حيطانها ليتسع المكان للقتال.
وقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} تعقيب على ما في هذه الواقعة الفريدة من نوعها من مختلف العظات والعبر، فهي درس عملي أعطاه الإسلام للمشركين، وللمنافقين، وللكافرين من أهل الكتاب على السواء.
وقوله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، إشارة إلى " الفيء " الذي آل إلى المسلمين من أموال " بني النضير "، وفي حكمه كل ما يؤول إلى المسلمين من هذا النوع، والمراد " بالفيء " كل مال أخذ من الكفار أثناء الجهاد من غير إيجاف خيل ولا ركاب، أي:
من غير مبارزة ولا مصاولة، ولا ركض بخيل أو جمال، والشأن في هذا النوع أن يرد على المسلمين، ويصرف في وجوه البر والمصالح العامة.
ثم بين كتاب الله " مصاريف الفيء " الذي يؤول إلى المسلمين أثناء جهادهم في سبيل الله، والوجوه التي ينبغي أن يصرف فيها فقال تعالى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} .
وقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} ، معناه كما قال ابن كثير:" جعلنا هذه المصاريف لمال الفيء، كي لا يبقى مأكلة يتغلب عليها الأغنياء، ويتصرفون فيها بمحض الشهوات والآراء، ولا يصرفون من الفيء شيئا إلى الفقراء ".
وللزيادة في بيان من يستحق الأخذ من مال " الفيء " ضرب كتاب الله المثل " بفقراء المهاجرين " الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم، وبهذه المناسبة نوّه " بالأنصار " الذين آووهم وآثروهم على أنفسهم، وذلك قوله تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ، إلى آخر الآية.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ، إلى آخر الآية إشارة إلى قسم ثالث يستحق فقراؤهم أن يصرف إليهم من " مال الفيء "، ما دام الجهاد قائما في سبيل الله. بالإضافة إلى فقراء المهاجرين وفقراء الأنصار هناك فقراء المؤمنين التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، على غرار قوله تعالى في سورة التوبة (100):{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} ، والمراد " بالتابعين لهم بإحسان "، كما قال ابن كثير:" المتبعون لآثارهم الحسنة، وأوصافهم الجميلة، الداعون لهم في السر والعلانية "، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .