الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب الثامن والخمسين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حديث هذا اليوم نتناول تفسير الربع الثاني من الحزب الثامن والخمسين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة "المزمل" المكية:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} ، إلى قوله جل علاه في ختام سورة "المدثر" المكية:{فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} .
ــ
تعود الآيات الكريمة في مطلع هذا الربع إلى الحديث مرة أخرى عن " قيام الليل " الذي كان أوجبه الله على المسلمين في فجر الإسلام، وعلى رأسهم أول المسلمين سيد الأنام، عليه الصلاة والسلام، فقد اقتضت حكمة الله، إعدادا لنبيه، واختبارا للطائفة الأولى من المؤمنين، أن يفرض عليه وعليهم التهجد بالليل، واستمرت هذه الفريضة سارية المفعول مدة غير قصيرة، وإلى فرضها أشار قوله تعالى في الربع الماضي:{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} .
وروي عن عائشة أنها قالت: " إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة - تقصد سورة المزمل- فقام رسول الله وأصحابه حولا، حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا، من بعد ما كان فريضة، وإلى هذا " التخفيف " وجعل قيام الليل تطوعا بعد أن كان فرضا يشير قوله تعالى في هذا الربع الذي هو موضوع حديث اليوم: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}، قال ابن كثير: " وقد قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من السلف إن هذه الآية نسخت ما كان الله قد أوجبه على المسلمين أولا من قيام الليل ".
ورغما عن إسقاط فريضة " التهجد " فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي يتهجد بالخصوص طوال عهد الرسالة، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى، ولم يقل قيامه عن ثلث الليل، وكان صلى الله عليه وسلم يوتر بإحدى عشرة ركعة، فلما تقدم به السن أخذ يوتر بسبع ركعات، ثم يصلي ركعتين وهو جالس، كما روي عن عائشة رضي الله عنها، وذلك امتثالا لقوله تعالى خطابا لرسوله:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} . قالت عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها "، وسئلت أم سلمة عن قراءة رسول الله، فقالت: " كان
يقطع قراءته آية آية: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ، أي: إنه سبحانه يطيل من هذا، ويقصر من ذاك فيطول الليل وينقص، ويأخذ هذا من هذا أحيانا، ويعتدلان أحيانا، طبقا للناموس الذي وضعه الله لهما.
وقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} ، إشارة إلى فرض قيام الليل، الذي كان الله قد فرضه على المسلمين اختبارا لهم، وإن كان يعلم عجزهم عن موالاة القيام به دائما، وها هو الحق سبحانه يخففه عنهم، حتى لا يكون عليهم في الدين من حرج، ويشهد لمعنى هذه الآية قوله تعالى في آية أخرى:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} (الأنفال: 66).
وقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} ، إذْنٌ من الله تعالى للمؤمنين بأن يكتفوا بقراءة ما تيسر من القرآن، أثناء صلاة الليل، وفسر ابن كثير هذه الآية بمعنى:" قوموا من الليل ما تيسر " من غير تحديد، لا بثلثي الليل ولا بنصفه ولا بثلثه ".
وقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، إشارة إلى حكمة الله في التخفيف عن المسلمين من فريضة قيام الليل، وجعل قيامه تطوعا لا غير، فهنالك
" مرضى " لا يسمح لهم بقيام الليل، وهناك " مسافرون " يضربون في الأرض، سعيا في طلب الرزق والتكسب بالتجارة، ابتغاء فضل الله، قد يضطرون إلى السفر ليلا فضلا عن النهار، وهنالك " مجاهدون " ينتظر أن يكرسوا حياتهم للجهاد في سبيل الله، قد تدعوهم الضرورة إلى الانتفاع بالسُرى والمشي إلى ساحة الجهاد ليلا، " وعند الصباح يحمد القوم السرى " كما يقول المثل العربي.
ثم عقب كتاب الله على هذه الأعذار الشرعية المعقولة وما ماثلها، بإعادة أمر " التخفيف " وتكريره مرة أخرى فقال تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ، أي الآن خفف الله عنكم، فخففوا إذن على أنفسهم، واكتفوا بقراءة ما تيسر من القرآن فيما تيسر من صلاة الليل، حسبما تسمح به ظروفكم، دون مشقة زائدة ولا إرهاق، وكان الحسن البصري يرى أن من الواجب على حملة القرآن أن يقوموا بقراءة شيء منه في الليل.
ونبه ابن كثير إلى أن ذكر " القتال في سبيل الله " في هذه السورة المكية، ولم يكن القتال قد شرع بعد، يعد من أكبر دلائل النبوة، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة.
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} ، يفيد صدور الأمر الإلهي للمسلمين بأداء الصلاة مع إيتاء الزكاة منذ كانوا بمكة، وقبل أن ينتقلوا إلى المدينة، قال ابن كثير:" وهذا يدل لمن قال إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرج منها لم يبين إلا بالمدينة، والله أعلم ".
وقوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} ، أي: أن ما تقدمونه بين أيديكم لآخرتكم تجدونه عند الله خيرا لكم مما أبقيتم وراءكم في دنياكم. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنما مال أحدكم ما قدم، ومال وارثه ما أخر "، رواه البخاري في صحيحه والنسائي في سننه.
وقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، إشارة إلى الأثر الطيب الذي يثمره العمل الصالح، فإنه طريق إلى غفران الله ونيل رضوانه.
ولننتقل الآن إلى سورة " المدثر " المكية أيضا، مستعينين بالله، وقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله أنه كان يقول:" أول شيء نزل من القرآن {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، فقد سأله أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن، فقال له: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ}، قال أبو سلمة: قلت: يقولون: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، قال له جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه مسلم أيضا وفيه: أن جابر بن عبد الله سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثه عن فترة الوحي، وأنه نزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}، ثم حمي الوحي وتتابع. قال ابن كثير: " وخالف الجمهور جابر بن عبد الله، فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1)، ثم بين أن الجمع بين رواية جابر بن عبد الله ورأي الجمهور
ممكن وغير متعذر، على أساس أن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} هو أول قرآن نزل على رسول الله، لأول ما تلقى الوحي من عند الله، ثم فتر الوحي مدة، وبعد استيناف الوحي إلى رسول الله كان أول شيء ينزل عليه من القرآن سورة " المدثر ":{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} ، إلى آخر الآيات.
وقوله تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، انتداب وجهه الحق سبحانه وتعالى إلى رسوله للقيام بتلقي الرسالة وتبليغها إلى الناس، وإغراء له على استقبال مرحلة جديدة من الحياة، هي حياة الكفاح والجهاد في سبيل الله، والتطوع الدائم لهداية الخليقة إلى خالقها، وإرشاد الإنسانية إلى مبدعها.
وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، أمر من الله لرسوله بالطهارة التي هي من أولى شعائر الإسلام وضرورياته. ونبه ابن كثير إلى أن هذه الآية قد تشمل الطهارة من الذنوب، والطهارة من الإثم، وطهارة الجسم والثياب، وطهارة القلب أيضا. فإن العرب تطلق لفظ " الثياب " حتى على القلب، بحيث يكون من جملة معاني الآية:" وقلبك فطهر ".
وقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} ، أي: حارب الأصنام والأوثان، وادع الناس إلى هجرها.
وقوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} ، قال ابن عباس: أي: " لا تعط العطية تلتمس أكثر منها "، وقال الحسن البصري:" لا تمنن بعملك على ربك تستكثره "، واختاره ابن جرير.
وقوله تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} ، أمر للرسول عليه السلام بالتأهب والاستعداد لتحمل تكاليف الرسالة وأعباءها، وعدم التأثر بما يقف في طريقها من العقبات والعراقيل، وأنواع الأذى على غرار قوله تعالى في سورة " المزمل " السابقة:{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} ، وكما أن " الصبر الجميل " هو الذي لا شكوى معه " فالهجر الجميل " هو الذي لا عتاب معه.
وقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} ، توعّد من الله جل جلاله لمن أنعم عليه ربه بأجل النعم، فكفر بأنعم الله، وقابلها بالجحود والعصيان، ولم يعترف لربه بأي شكر أو امتنان، على غرار قوله تعالى في سورة " المزمل " السابقة:(10 - 12){وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} .
وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} ، أي: ما جعلنا خزنة جهنم، المكلفين بها، إلا من الملائكة، وقد وصف الحق سبحانه في آية أخرى خزنة جهنم بأنهم " غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " فالمراد " بأصحاب النار " في هذه الآية بالخصوص خزنة جهنم، لا نفس المعذبين فيها، بينما المراد " بأصحاب النار " في غيرها من الآيات أهل النار أنفسهم، المعذبون فيها على الدوام.
وتحدث كتاب الله في الآيات الباقية من هذا الربع عن إيمان المؤمنين الذين يزداد إيمانهم على مر الأيام، وعن نفاق المنافقين الذين في قلوبهم مرض، وعن جنود الله المبثوثة في أرجاء الكون، والتي لا يحصيها إلا خالقها، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} ، وعن عذاب النار وأهوالها، وما يلقاه المجرمون فيها، وعن نعيم الجنة المقيم، وما يلقاه المؤمنون فيها من الرعاية والتكريم.
ووضح كتاب الله " حيثيات الحكم الإلهي " العادل، الصادر بعذاب المجرمين، إذ قال تعالى حاكيا لاعترافاتهم وعلى لسانهم:{قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} ، ثم عقب كتاب الله على اعترافاتهم قائلا:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} .
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} ، إشارة إلى القرآن العظيم، ورسالته السامية التي يؤديها للخلق، فهو الذي يذكر الناسين، وينبه الغافلين، ويهدي الضالين.
وقوله تعالى: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، تنبيه إلى وجوب الأدب مع الله في كل ما يأتيه المؤمن من أعمال وتصرفات، بحيث يربطها في ذهنه ويقينه دائما بمشيئة الله العليا، فهو الذي بيده مقاليد الكون الظاهرة والباطنة، وكما أنه سبحانه " أهل " لأن يتقيه عباده، ويلتزموا طاعته وتقواه، فهو سبحانه أيضا " أهل " لأن يغفر لعباده إذا أنابوا إلى ربهم وتابوا إليه من ذنوبهم، {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} .