المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٦

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأحقاف

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة محمد

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الفتح

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحجرات

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة ق

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الذاريات

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الطور

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النجم

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة القمر

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الرحمن

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الواقعة

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحديد

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المجادلة

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحشر

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الممتحنة

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الصف

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الجمعة

- ‌ سورة المنافقون

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة التغابن

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الطلاق

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة التحريم

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الملك

- ‌ سورة القلم

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحاقة

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المعارج

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة نوح

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الجن

- ‌ سورة المزمل

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المدثر

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة القيامة

- ‌ سورة الإنسان

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المرسلات

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النبأ

- ‌ سورة النازعات

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة عبس

- ‌ سورة التكوير

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الانفطار

- ‌ سورة المطففين

- ‌ سورة الانشقاق

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة البروج

- ‌ سورة الطارق

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الستّينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأعلى

- ‌ سورة الغاشية

- ‌ سورة الفجر

- ‌الربع الأول من الحزب الستّينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الستينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة البلد

- ‌ سورة الشمس

- ‌ سورة الليل

- ‌ سورة الضحى

- ‌الربع الثاني من الحزب الستينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الشرح

- ‌ سورة التين

- ‌ سورة العلق

- ‌ سورة القدر

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة البينة

- ‌ سورة الزلزلة

- ‌ سورة العاديات

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة القارعة

- ‌ سورة التكاثر

- ‌ سورة العصر

- ‌ سورة الهمزة

- ‌ سورة الفيل

- ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأخير في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة قريش

- ‌ سورة الماعون

- ‌ سورة الكوثر

- ‌ سورة الكافرون

- ‌ سورة النصر

- ‌ سورة المسد

- ‌ سورة الإخلاص

- ‌ سورة الفلق

- ‌ سورة الناس

- ‌الثمن الثاني من الربع الأخير في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ت)

‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الستين

بالمصحف الكريم (ت)

عباد الله

في حديث هذا اليوم نتناول تفسير الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الستين بالمصحف الكريم، وهذا الثمن من كتاب الله يشمل بقية سورة "العاديات" وسورة "القارعة" وسورة "التكاثر" وسورة "العصر" وسورة "الهمزة" وسورة "الفيل"، وكلها سور مكية.

ــ

وأول هذا الثمن يحتوي على ختام سورة " العاديات " التي تناول الحديث فيها جحود الإنسان لنعمة ربه، رغما عما يتقلب فيه من الهبات الإلهية، والعطايا الربانية، التي لا حد لها ولا حصر، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (إبراهيم: 34).

ففي ختامها تساءل كتاب الله هل بلغ الجهل والغرور بالإنسان، الكافر بالله، الجاحد لنعمه، إلى حد أن يتجاهل ما هو مقبل عليه -أحب أم كره- من مفارقة القبر بعد نزوله، وانتقاله منه، بعد سكناه المؤقتة، إلى دار البقاء والخلود، ليحاسب فيها على ما أصر عليه من الكبر والجحود:{أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} ؟ أي: إذا أخرج من كان مقبورا فيها من الأموات،

ص: 460

{وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} ، أي: أبرز ما كان مكتوما فيها من النيات والسرائر، {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} ، أي: إنه سبحانه سيفاجئ الناس يوم القيامة، بأنه كان مطلعا على جميع أعمالهم وتصرفاتهم، وأنه سيحاسبهم عليها بمقتضاها، {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف: 49).

ومن هنا ننتقل إلى سورة " القارعة " المكية، و " القارعة " أحد الأسماء التي تطلق في كتاب الله على يوم القيامة، كالحاقة، والطامّة، والصاخّة، والغاشية، وفي هذه السورة يصف الحق سبحانه بعض أهوال الساعة ومشاهدها الرهيبة، ولا سيما ما يصيب الإنسان عند قيامها من ذهول واضطراب، وما يصيب الجبال من نسف وخراب، وما ينال السعداء والأشقياء من ثواب وعقاب، وذلك قوله تعالى بعد البسملة:{الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} ، أي: يوم يكون الناس في حيرة وذهول، متفرقين شذر مذر، كالفراش الذي أعشى النور بصره، فانتشر من حوله، وتراكم بعضه على بعض، لا يدري ماذا يصنع، {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} ، أي: تصبح الجبال التي كانت أوتادا صلبة ترسي الأرض في منتهى الرخاوة واللين والتفتت، كأنها صوف منفوش تذروه الرياح، {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} ، أي: فأما من رجحت حسناته على سيئاته، فثقلت كفة الحسنات في ميزانه، فهو في عيشة خالدة يرضى عنها الله، ويرضى عنها عبده كل الرضى، إذ يرى فيها وفاء من الله بوعده، {إِنَّ اللَّهَ لَا

ص: 461

يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (آل عمران: 9)، {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} ، أي: وأما من رجحت سيئاته على حسناته، فخفت كفة الحسنات في ميزانه، فالنار هي أمه ومأواه كما قال ابن زيد وقتادة، وبذلك يكون قوله تعالى هنا:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} ، تفسيرا قرآنيا " للهاوية "، ولتصور ما عليه النار من درجة الحرارة، أعاذنا الله منها جميعا، يكفي أن نعرف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها:" نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم "، رواه البخاري وأحمد.

ولننظر الآن في تفسير سورة " التكاثر " المكية، مستعينين بالله، وهذه السورة يدور الحديث فيها عن استغراق الغافلين، في شؤونهم المادية، ومصالحهم الشخصية، حتى يدركهم الأجل، وهم لم يتزودوا لآخرتهم بأي زاد من العمل الصالح، وفيها تأكيد للخلق، وتعريف لهم بأنهم سيسألون يوم القيامة عما آتاهم الله من فضله، وسيحاسبون على النقير من نعمه والقطمير، وذلك قوله تعالى بعد البسملة:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، أي: ألهاكم الانهماك في التفاخر والتكاثر من الأموال والأولاد عن طاعة الله، وأداء حقوقه وحقوق خلقه، {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} ، أي: حتى أتاكم الموت ودفنتم في القبور، دون أن تقدموا بين أيديكم ما ينفعكم عند الله.

والتعبير هنا بلفظ " زرتم المقابر " دون التعبير مثلا " بسكنتم المقابر " فيه إشارة واضحة إلى أن إقامة الإنسان في قبره بعد الموت إنما هي مجرد إقامة مؤقتة، شبيهة بالزيارة أياما معدودة،

ص: 462

لا سكنى مستمرة، أما منزله الذي سيسكنه وسيستقر فيه فهو إما الجنة وإما النار. عن ميمون بن مهران قال:" كنت جالسا عند عمر بن عبد العزيز فقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، فلبث هنيهة ثم قال: " يا ميمون، ما أرى المقابر إلا " زيارة "، وما للزائر بدّ من أن يرجع إلى منزله ". قال أبو محمد:" معنى أن يرجع إلى منزله، أي: إلى جنة أو إلى نار ".

وقوله تعالى: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} ، هذا وعيد مضاعف من الله تعالى للغافلين عن آخرتهم، الشاكين في بعثهم وحسابهم، وقوله تعالى:{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} ، هذا تفسير من الله للوعيد الشديد الذي توعد به الشاكين والكافرين، وفيه تأكيد بالغ لما سينالهم من عذاب الله، جزاء شكهم وكفرهم، و " عين اليقين " درجة زائدة على " علم اليقين "، إذ هي " الرؤية التي هي نفس اليقين وخالصته ".

وقوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} ، هذا تأكيد قوي؛ لأن الله سبحانه سيتولى سؤال عباده عن كل ما تقلبوا فيه من النعم أثناء حياتهم في الدنيا، ومن تلك النعم الأمن والغنى، والشبع، والظل، والنوم، واعتدال الخلق، وصحة الأبدان، وسلامة الأسماع والأبصار. قال مجاهد:" النعيم عبارة عن كل لذة من لذات الدنيا "، وقال ابن عباس:" يسألهم الله عن نعمه فيما استعملوها، وهو أعلم بذلك منهم "، كما في قوله تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}

ص: 463

(الإسراء: 36). روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ، ثم قال:" يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت "، رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد: يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله "، رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.

ولنستقبل الآن سورة " العصر " المكية أيضا، ومدار الحديث في هذه السورة على التعريف بالقيمة الحقيقية لحياة الإنسان، والإشارة إلى أن العبرة في حياته إنما هي بنوع المساعي التي يسعى فيها، والتصرفات التي يتصرفها، خيرا أو شرا، صلاحا أو فسادا، وفي هذه السورة قسم من الله " بالعصر "، وهو مفرد العصور، والمراد به الزمن الذي يقطعه الإنسان في حياته، وتقع فيه شتى حركاته وتصرفاته، وكما ذكر كتاب الله هنا لفظ " العصر " الذي هو مفرد العصور، ذكر في آية أخرى لفظ " الدهر " الذي هو مفرد الدهور.

والمقسم عليه هنا هو إثبات أن الإنسان يظل خاسرا لنفسه ولحياته، ولا يعتبر من الفائزين المفلحين، إلا إذا تحول من إنسان جاحد، فاسد، أناني، إلى إنسان مؤمن بالله، قائم بالعمل الصالح، متمسك بالحق، " وموص " لغيره بالتمسك به، معتصم بالصبر، و " موص " لغيره بالاعتصام به، وذلك قوله تعالى بعد البسملة: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا

ص: 464

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي الحسن الأشعري يقول:(عليك بالصبر، واعلم أن الصبر صبران: أحدهما أفضل من الآخر، الصبر في المصيبات حسن، وأفضل منه الصبر عما حرم الله تعالى). وقال علي بن أبي طالب: " بنيّ الإيمان على أربع دعائم: اليقين، والصبر، والجهاد، والعدل ".

ومن هنا ننتقل إلى سورة " الهمزة " المكية أيضا، معتمدين على الله.

وهذه السورة يدور الحديث فيها على تنفير المؤمنين من الغيبة والنميمة، ومن الطعن في الناس والازدراء بهم قولا أو فعلا، وفيها وعيد شديد من الله بالعذاب الأليم، لمن يتخذ من أعراض الناس وأحوالهم مجالا للتنقيص والازدراء، وذلك قوله تعالى بعد البسملة:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} ، أي: هلاك وخسار لكل هماز لماز، و " الهماز اللماز " من يزدري الناس بقوله أو بفعله، بعينه أو لسانه أو يده، قال ابن عباس:" {همزة لمزة} أي طعان معياب ". وقال الربيع بن أنس: " الهمزة: يهمزه في وجهه، واللمزة: يلمزه من خلفه ".

وقوله تعالى: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} ، هذا وعيد من الله بالخصوص لأولئك الذين يطغيهم الغنى والمال، فينظرون إلى من دونهم من الفقراء نظرة التحقير والازدراء، ويتخذون منهم مادة رخيصة لسخريتهم وهمزهم ولمزهم من أجل كونهم ضعفاء، {كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا

ص: 465

أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ}، أي: مقفلة عليهم بحيث لا يفارقونها، {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} ، أي: في قيود ثقيلة لا يفلتون منها.

ولنلق الآن نظرة على سورة " الفيل " المكية أيضا، وهذه السورة تتضمن امتنانا من الله على رسوله بأحد " الإرهاصات " الكبرى التي سبقت ولادته ونبوته، فقد عزم " أبرهة الحبشي " على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود قبيل ولادة الرسول عليه السلام، وأقبل على مكة في جيش عرمرم تتقدمه الفيلة، وعلى رأسها فيل أبرهة نفسه، وكان فيلا ضخم الجثة لم ير مثله، فلما وجهوه نحو " الكعبة " برك في مكانه، واستعصى عليهم أمره، رغما عن ضربه ضربا مبرحا، وكان كلما وجهوه نحو الجهات الثلاث الأخرى يهرول ويسير، حتى إذا ما وجهوه نحو " الكعبة " صاح وبرك من جديد، وامتنع عن السير، وبينما هم كذلك؛ إذ أرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طائر ثلاثة أحجار، كل حجر دون حبة الحمص، وفوق حبة العدس، واحد في منقاره واثنان في مخلبيه، ولم تصب تلك الأحجار أحدا منهم إلا هلك في الحين، فخرج من بقي منهم يبتدرون الطريق هاربين، وبقيت الكعبة رابضة في مكانها، خالدة إلى يوم الدين. قال ابن إسحاق:" حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك اليوم، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان فيما يعد على قريش من نعمه عليهم وفضله ما رد عليهم من أمر الحبشة ". وقال ابن كثير: " إن هذا من باب

ص: 466

الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدر يقول:" لم ننصركم يا معشر قريش على الحبشة لخيريتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره لبعثة النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء؟ " وذلك ما يشير إليه قوله تعالى خطابا لنبيه وامتنانا عليه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} ، أي: أبطل كيدهم، وخيب سعيهم، يقال:" ضلل كيده " إذا أبطله وجعله ضائعا، {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} ، أي: أسرابا متتابعة، {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} ، أي: طين مطبوخ بالنار مختلط بحجر، {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} ، أي: كالتبن الذي جز لعلف الدواب فأكلته وراثته، وهذا التعبير جاء على أسلوب " أدب القرآن "، على غرار قوله تعالى:{كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} ، قال أبو حيان في تفسيره " البحر المحيط ": في خطابه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَعَلَ رَبُّكَ} ، تشريف له عليه السلام، وإشادة بذكره، كأنه قال:" ربك ومعبودك هو الذي فعل ذلك، لا أصنام قريش: إساف ونائلة وغيرهما ".

وقال القشيري في " لطائف الإشارات "، إشارة إلى دور عبد المطلب في هذه القصة، ودعائه على أبرهة الحبشي وجيشه دفاعا عن البيت:" إذا كان عبد المطلب عندما أخلص في التجائه إلى الله، لاستدفاع البلاء عن البيت، لم يخيب الله رجاءه، وسمع دعائه، فالمؤمن المخلص إذا دعا ربه لا يرده خائبا ".

ص: 467