المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربع الثاني من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ت) - التيسير في أحاديث التفسير - جـ ٦

[محمد المكي الناصري]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السادس

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأحقاف

- ‌الربع الأول من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة محمد

- ‌الربع الثاني من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الثالث من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الفتح

- ‌الربع الأخير من الحزب الواحد والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأول من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحجرات

- ‌الربع الثاني من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة ق

- ‌الربع الثالث من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الذاريات

- ‌الربع الأخير من الحزب الثاني والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الطور

- ‌الربع الأول من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النجم

- ‌الربع الثاني من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة القمر

- ‌الربع الثالث من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثالث والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الرحمن

- ‌الربع الأول من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الواقعة

- ‌الربع الثاني من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحديد

- ‌الربع الثالث من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌الربع الأخير من الحزب الرابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المجادلة

- ‌الربع الأول من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحشر

- ‌الربع الثاني من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الممتحنة

- ‌الربع الثالث من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الصف

- ‌الربع الأخير من الحزب الخامس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الجمعة

- ‌ سورة المنافقون

- ‌الربع الأول من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة التغابن

- ‌الربع الثاني من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الطلاق

- ‌الربع الثالث من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة التحريم

- ‌الربع الأخير من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الملك

- ‌ سورة القلم

- ‌الربع الأول من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الحاقة

- ‌الربع الثاني من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المعارج

- ‌الربع الثالث من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة نوح

- ‌الربع الأخير من الحزب السابع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الجن

- ‌ سورة المزمل

- ‌الربع الأول من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المدثر

- ‌الربع الثاني من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة القيامة

- ‌ سورة الإنسان

- ‌الربع الثالث من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة المرسلات

- ‌الربع الأخير من الحزب الثامن والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة النبأ

- ‌ سورة النازعات

- ‌الربع الأول من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة عبس

- ‌ سورة التكوير

- ‌الربع الثاني من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الانفطار

- ‌ سورة المطففين

- ‌ سورة الانشقاق

- ‌الربع الثالث من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة البروج

- ‌ سورة الطارق

- ‌الربع الأخير من الحزب التاسع والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الأول من الحزب الستّينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الأعلى

- ‌ سورة الغاشية

- ‌ سورة الفجر

- ‌الربع الأول من الحزب الستّينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الربع الثاني من الحزب الستينفي المصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة البلد

- ‌ سورة الشمس

- ‌ سورة الليل

- ‌ سورة الضحى

- ‌الربع الثاني من الحزب الستينفي المصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة الشرح

- ‌ سورة التين

- ‌ سورة العلق

- ‌ سورة القدر

- ‌الثمن الأول من الربع الثالث في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة البينة

- ‌ سورة الزلزلة

- ‌ سورة العاديات

- ‌الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة القارعة

- ‌ سورة التكاثر

- ‌ سورة العصر

- ‌ سورة الهمزة

- ‌ سورة الفيل

- ‌الثمن الأول من الربع الأخير في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ت)

- ‌الثمن الثاني من الربع الأخير في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ق)

- ‌ سورة قريش

- ‌ سورة الماعون

- ‌ سورة الكوثر

- ‌ سورة الكافرون

- ‌ سورة النصر

- ‌ سورة المسد

- ‌ سورة الإخلاص

- ‌ سورة الفلق

- ‌ سورة الناس

- ‌الثمن الثاني من الربع الأخير في الحزب الستينبالمصحف الكريم (ت)

الفصل: ‌الربع الثاني من الحزب السادس والخمسينفي المصحف الكريم (ت)

‌الربع الثاني من الحزب السادس والخمسين

في المصحف الكريم (ت)

عباد الله

في حديث هذا اليوم نعالج تفسير الربع الثاني من الحزب السادس والخمسين في المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى في سورة "المنافقين" المدنية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، ونهايته قوله تعالى في ختام سورة "التغابن" المدنية أيضا:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .

ــ

في بداية هذا الربع تواجهنا آية كريمة تلفت نظر المؤمنين إلى أن خُطة الاعتدال والتوسط هي أرشد خطة يسلكها المؤمنون، بالنسبة لأداء الحقوق والواجبات، بحيث يؤدون حقوق الله كما يؤدون حقوق أنفسهم وحقوق أهلهم وحقوق عامة الناس دون إفراط ولا تفريط، وبناء على هذا الأساس لا ينبغي للمؤمنين أن تلهيهم أموالهم، أو يلهيهم أولادهم عن حقوق الله، فيهملوها ويضيعوها، بدعوى أن مشاغلهم المالية أو العائلية لا تترك لهم وقتا للتفكير في أداء هذه الحقوق، وإذا كان الإسلام يعتبر للإنسان على نفسه حقا، ولأهله وأولاده عليه حقا، ويشجعه على الوفاء بهذه

ص: 241

الحقوق، بل يطالبه بها إن قصر فيها أو أهملها بالمرة، فإنه لا يسمح للمسلم أن يسلك مسلك " الإفراط " في العناية بحقوقه الشخصية والعائلية، ويسلك مسلك " التفريط " فيما لله عليه من حقوق، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، فمصب النهي في هذه الآية وما شابهها ليس مجرد العناية بالأموال والأولاد، وإنما مصب النهي بنص الآية هو الانهماك في الاشتغال بشؤون الأموال والأولاد، إلى حد أن ينسى معه المسلم القيام بواجباته نحو الله، بحيث يستغرق استغراقا تاما في حظوظ نفسه وحظوظ عائلته، وفي ترضية شهواته المختلفة دون انقطاع، ويلهيه ماله وولده عن الله.

وانتقل كتاب الله إلى حضّ المسلمين مرة أخرى على إنفاق أموالهم في سبيل الله، فقد كانت فريضة الجهاد التي فرضها الله عليهم - وهم بالمدينة- دفاعا عن حوزة الإسلام ودولته الأولى، فريضة كبرى تحتاج إلى مدد لا ينقطع، وتضحية مستمرة بالأموال والأنفس.

وبين كتاب الله أن " خير البر عاجله " وأن الصدقة قبل " حلول الأجل " أضمن منها عند حلوله وأكثر ثوابا، إذ عند " حلول الأجل " لا يبقى أي مجال للانتظار ولا لتدارك ما فات، وذلك قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ *

ص: 242

وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

والآن فلننتقل إلى " سورة التغابن " المدنية أيضا، وقد سميت بهذا الاسم أخذا من قوله تعالى فيها:{ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} ، وهي آخر السور المبدوءة بتسبيح الله، المعروفة " بالمسبحات " بين سور القرآن الكريم.

وبعدما سجلت فاتحة هذه السورة توجّه جميع المخلوقات إلى ربها بالتنزيه والحمد: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، إن لم يكن منها كلها بلسان المقال، فبلسان الحال في كل الأحوال، انتقلت الآيات الكريمة إلى التعبير عن حقيقة طبيعية ونفسية ميز الله بها الإنسان من بين المخلوقات، ألا وهي تزويده بالاستعداد التام، للاتجاه نحو الخير إن أراده، والاتجاه نحو الشر إن رغب فيه، وجعله حرا في اختيار ما يشاء من الهدى أو الضلال، وهذا المعنى هو المراد بقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} ، أي أن من اختار الكفر منكم كفر، ومن اختار الإيمان منكم آمن، ومن حرية الاختيار التي زود الله بها الإنسان نشأت مسؤوليته عن عمله، وجزاؤه خيرا إن عمل خيرا، وشرا إن عمل شر. أما من ناحية الخلق والتكوين فقد خلق الله الإنسان متساويا مزودا بنفس الملكات اللازمة، ونفس الأجهزة الضرورية، وله بعد ذلك أن يختار، وعليه أن يتحمل مسؤولية اختياره في الدنيا وفي الآخرة، وقد جاء التعقيب المناسب على ذلك بقوله تعالى:{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ،

ص: 243

أي: أنه سبحانه يحصي أعمالكم، ويراقب اختياراتكم، ثم يجازيكم عليها بما أنتم أهل له.

وعاد كتاب الله إلى التذكير بقدرة الله، والتنويه بحكمته، المتجلية في خلق السماوات والأرض، وفي تصوير الإنسان على أحسن صورة، وفي ذلك تنبيه للإنسان - ولا سيما إذا كان منحرفا عن الحق- إلى أن يعود إلى الله، ودعوة له إلى أن يتدبر آياته في الآفاق والأنفس، إذ لا فضل عليه لأحد سواه، فهو الذي خلقه أحسن خلق، وصوّره أحسن صورة، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، وهو الذي يستحق أن يُحمد ويُشكر ويُعبد ولا يُكفر، لا سيما وأن منه كان البدء، وإليه ستكون العودة، وذلك قوله تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} .

وقوله تعالى هنا: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} ، يشير بالأصالة إلى تكوين الخلقة الإنسانية وصنعها في حد ذاتها، وإلى هندستها الفريدة بين المخلوقات، وإلى ما ميزها الله به من أجهزة ووظائف وخصائص جعلت الإنسان عموما " سيد الأحياء " المتفوق عليها جميعا، ولو كان شكل بعض أفراده دميما وغير جميل، فجمال الخلقة الإنسانية وكمال التركيب الإنساني لا يختلفان، بالنسبة لغيره من الحيوانات غير الناطقة، وإن كانت أشخاص الإنسان تتفاوت بعضها عن بعض في نسبة الجمال والتناسب.

ثم وضح كتاب الله أن علم الخالق سبحانه محيط بجميع

ص: 244

خلقه، بحيث لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فهو سبحانه مطلع على ظواهر الناس وبواطنهم دون أي فرق ولا استثناء، وبذلك لا يستطيع الإنسان - وإن أسرّ ما في نفسه، وأخفى ما في صدره- أن يتملّص من رقابة الله، أو أن يتخلص من عين الله التي تراه " فإن لم تكن تراه فإنه يراك "، فما على المؤمن إلا أن يحسب الحساب لرقابة الله عند كل خطوة يخطوها نحو الخير أو الشر، وأن يقدر نتائج عمله وعواقبه كل التقدير، وإلى هذا المعنى ينبه قوله تعالى:{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .

وذكر كتاب الله مشركي قريش ومن لف لفهم بمصرع الأمم الغابرة التي تمردت على طاعة الله، وتنكرت لأنبيائه ورسله، واستكثرت على أفراد من البشر يعيشون بين ظهرانيها أن يختارهم الله لرسالته، بدلا من إرسال ملائكته، فأنفت من طاعتهم، واستكبرت عن إتباعهم، فعاقبها الله بالخبال والوبال، وقضى عليها بالخراب والدمار، وذلك قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} أي: استغنى عنهم، {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} .

وكتاب الله عندما يذكر مشركي قريش بهذه الحقائق والوقائع يريد أن يبطل اعتراضهم على رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فاعتراضهم هو من جنس اعتراض الأمم الغابرة التي أصبحت في خبر كان، ولو حققوا في الأمر لأدركوا أن الرسالة المحمدية

ص: 245

وما سبقها من الرسالات إنما هي كرامة من الله للجنس البشري الذي استخلفه في الأرض، وحمله أمانة " التكليف "، وإذا كان الحق سبحانه قد أوجد الإنسان من العدم، ونفخ فيه روح الحياة الناطقة، التي ميزه بها على بقية الأحياء، فما المانع أن يختار من بين خلقه من يؤهلهم لاستقبال رسالته، وتلقيها من الملأ الأعلى، ثم حملها وتبليغها إلى كافة الناس:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124).

وأثار كتاب الله من جديد قضية " البعث والنشأة الآخرة " ورد على مزاعم المشركين والكافرين، المنكرين لهذه الحقيقة الثابتة، مبينا أن " النشأة الآخرة " في منطق العقلاء هي أيسر وأقرب من " النشأة الأولى " لو كانوا يعقلون.

قال ابن كثير: " أمر الله رسوله أن يقسم بربه عز وجل على وقوع المعاد ووجوده في ثلاث آيات من كتاب الله:

- الآية الأولى في سورة (يونس: 53): {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} .

- الآية الثانية في سورة (سبأ: 3): {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} .

- والآية الثالثة هنا في سورة التغابن: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} .

وبعد قسم الرسول صلى الله عليه وسلم بربه على توكيد أمر البعث ثلاث

ص: 246

مرات في ثلاث سور لا يبقى محل لأي توكيد آخر ".

ووجه كتاب الله خطابه إلى المؤمنين ليزدادوا إيمانا بالله ورسوله، وليستضيئوا بالنور الذي نزل معه، وهو " نور القرآن "، فهو في حقيقته نور منبثق من نور الله:{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (النور: 35)، وهو في آثاره الظاهرة والباطنة نور لا يعادله أي نور، فبه تشرق القلوب، وتنشرح الصدور، وبه يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وذلك قوله تعالى:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ، ويتصل بهذا المعنى قوله تعالى في هذا الربع وفي هذه السورة أيضا:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

وانتقلت الآيات الكريمة للحديث عن يوم القيامة، وما يناله فيه المؤمنون " المصدقون "، والكافرون " المكذبون " وبين كتاب الله أن " يوم الجمع " هو " يوم التغابن " وسمي يوم القيامة " يوم الجمع " لأنه سيجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد، من جميع الأجيال ومن جميع الخلائق. بما فيهم ملائكة الرحمن، وسمي يوم القيامة أيضا " يوم التغابن " نظرا لأنه يفوز فيه فريق بدخول دار النعيم، ويخسر فيه فريق بدخول دار الجحيم، فالخاسر " مغبون " بالنسبة للفائز، ولا أمل له في الرجوع " بالغبن " أبدا. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} .

وكما ابتدأت الآيات في هذا الربع بحض المؤمنين على

ص: 247

عدم الاستغراق في الشؤون الشخصية والعائلية، إلى حد أن تضيع معه حقوق الله، التي لا يسوغ التفريط فيها، إذ قال تعالى فيما سبق:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} ، عادت الآيات الكريمة إلى الحديث في آخر هذا الربع عن نفس الموضوع، فبينت أن تكاليف الزوجات والأولاد، ورغباتهم وشهواتهم، قد تعرض الزوج والوالد إلى التفريط في حقوق الله، أو تدفعه إلى الاعتداء على حقوق الناس، وذلك حرصا منه على تلبية رغبات عائلته وخدمة مصالحها، وبذلك تنقلب الزوجة " عدوا " لزوجها، وينقلب الأولاد " أعداء " لوالدهم، إذ يورطونه فيما لا تحمد عقباه، مع الناس ومع الله، ويوقعونه في مآزق لا مخرج له منها إن لم يصحبه لطف الله، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ، وهذا تنبيه من الله للزوجات والأولاد، حتى لا يكثروا من الضغط على الأزواج والوالدين، إذ ربما دفعهم ذلك الضغط إلى ارتكاب ما لا يرضى عنه الخلق والدين، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128).

ص: 248