الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب الستين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حديث هذا اليوم نعالج تفسير الربع الثاني من الحزب الستين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في فاتحة سورة "البلد" المكية:{بسم الله الرحمن الرحيم لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} إلى قوله جل علاه في ختام سورة "الضحى" المكية أيضا: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} .
ــ
وفي بداية هذا الربع، وهو فاتحة سورة " البلد " المكية، قسم عظيم من الله تعالى على حقيقة واقعية تجمل حياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها، وكتاب الله عندما يأتي في سوره بهذه الأنواع من القسم يتوخى أمرين اثنين:
- الأمر الأول: لفت نظر المؤمنين والناس كافة إلى الأهمية الخاصة التي تكون للشيء المقسم به في حد ذاته، فالتنبيه إليه، وتركيز الفكر حوله، مدعاة إلى التأمل فيه تأملا كافيا يعين على تحقيق الغرض المطلوب.
- الأمر الثاني: لفت نظر المؤمنين والناس كافة إلى الحقيقة الكبرى التي تنعكس من خلال المعنى المقسم عليه، فإدراك تلك
الحقيقة والتعمق فيها هو الهدف الرئيسي للقسم من أصله، بما يحتوي عليه من صيغة القسم والمقسم به والمقسم عليه.
والمُقسَم به هنا في فاتحة هذه السورة " هذا البلد "، أي: مكة " أم القرى " حيث يوجد بيت الله الحرام، أول بيت وضع لعبادة الله وتوحيده في الأرض، وحيث يلتقي جميع الناس في أمن وسلام، ودماء بعضهم على بعض حرام.
ويدرج كتاب الله في سياق هذا القسم بالذات إقامة رسوله عليه السلام بنفس البلد، واستقراره به، إشارة إلى تكريم الله تكريما جديدا لمكة، بجعلها في نهاية المطاف مهد الرسالة، ومنزل الوحي، والمقر الأول لسكنى خاتم الأنبياء والمرسلين، وكأن الأقدار الإلهية تلوح هنا بأن " آية الإيمان " هي التي ستستقر بمكة إلى الأبد، وأنها ستمحو ظلمة الشرك من شعابها وبطاحها، فتعود مياه التوحيد إلى مجاريها، على ملة إبراهيم الخليل، وابنه إسماعيل، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:{بسم الله الرحمن الرحيم لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} .
وقوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} ، يمكن أن يكون إشارة إلى نعمة التوالد والتناسل، التي أنعم الله بها على كثير من خلقه، كما يمكن أن يكون إشارة خاصة إلى إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل، فالوالد هو إبراهيم، والولد هو إسماعيل، ولا يخفى ما في هذه الإشارة من التناسب والانسجام، مع نفس السياق في هذا المقام، فقد كان إبراهيم الخليل هو باني البيت الحرام، بمساعده
ابنه إسماعيل عليهما السلام.
وأما الحقيقة المقسم عليها فهي أن الإنسان منذ أن يستقر جنينا في بطن أمه وطيلة حياته إلى حين وفاته، لا ينفك عن مكابدة المتاعب، ومواجهة الشدائد، وتحمل المشاق، من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى أخرى، ولا يهون من ضغط هذه الحقيقة التي تفرض نفسها على كل إنسان أن تختلف طرق الكفاح باختلاف الناس، فلكل صنف منهم متاعبه الخاصة، وكفاحه الدائم، الذي لا ينتهي إلا بانطفاء جذوة الحياة في الجسم وحلول الأجل، والهدف المتوخى من تذكير الإنسان بهذه الحقيقة التي تستغرق كل حياته هو تنبيهه إلى أنه إذا كان ولا بد سيكابد متاعب الحياة الدنيا، لينتقل منها إلى مكابدة متاعب أشد هولا منها في الحياة الثانية، فإنه سيكون أخسر الخاسرين، ولذلك ينبغي له أن يعمل عملا صالحا في دنياه، حتى يلقى الله وعنده من الحسنات، ما يضع حدا نهائيا لمتاعبه المعتادة في حياته الأولى، وبذلك يستأنف حياة ثانية كلها نعيم مقيم، ورضوان من ربه الكريم، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا * أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} ، وها هنا ينعى كتاب الله على البخلاء الإشحاح بخلهم وشحهم بالإنفاق في سبيل الله، إذ ينفقون أموالهم في غير وجهها المشروع، وكلما دعوا إلى الإنفاق في وجوه البر والإحسان تبجحوا بأنهم قد أنفقوا مالا كثيرا، {مَالًا لُبَدًا} ، وإن كان ما أنفقوه إنما صرفوه في الشهوات والملذات، وفي المعاصي
لا في الطاعات، وينسون أن الله سائلهم عما استخلفهم فيه من المال، من أين اكتسبوه، وأين أنفقوه، وأنهم سيحاسبون عليه حسابا عسيرا.
ثم أخذ كتاب الله يستعرض مننه على الإنسان الذي هو مدين لخالقه بكل شيء، وذكر على سبيل المثال العينين اللتين يبصر بهما، واللسان الذي يعبر به، والشفتين اللتين يستعين بهما على الكلام وأكل الطعام، بالإضافة إلى ما في تكوين كل عضو من أعضاء الإنسان عموما من دقة الصنع، وإبداع التكوين، وغرابة التركيب، مما لا يستطيع أي مخلوق أن يصنع مثله، ولا أن يبدع نظيره، لا من الأولين ولا من الآخرين، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في إيجاز وإعجاز:{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} .
وأضاف كتاب الله إلى هذه النعم نعمة العقل والتفكير التي أكرم بها الإنسان، وجعلها وسيلة في متناول يده، ليميز بها الخير من الشر، والحق من الباطل، والضلال من الهدى، وهذه النعمة التي وهبها له الحق سبحانه هي مناط التكليف والتشريف، ومناط الثواب والعقاب، وذلك قوله تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ، أي: طبعنا طبيعته على استعداد مزدوج: استعداد للخير إن اختاره، واستعداد للشر إن أراده، و " النجدان " نجد الخير ونجد الشر، أي الطريقان المؤديان إليهما. روي عن ابن عباس أنه فسر " النجدين " بالثديين، بمعنى أن الله هدى الإنسان بمجرد خروجه من بطن أمه إلى التقام ثدييها، إلهاما منه وإحسانا. ويشهد
للتفسير الأول - وهو الذي رجحه ابن جرير- قوله تعالى في آية أخرى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان: 2، 3).
وقوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} ، حض من الله لعباده المؤمنين على مغالبة أنفسهم، والتغلب عليها بسلوك طريق النجاة والخير. والمراد " باقتحام العقبة " اقتحام الحواجز النفسية والمادية، التي تحول دون الإيثار والبر والإحسان، والإقبال على الإنفاق في سبيل الله، ومن وجوه الإنفاق الصالحة: المساعدة في عتق الأرقاء، وكفالة اليتامى، وإطعام المساكين.
وبين كتاب الله أن مما يساعد على اقتحام العقبات والتغلب عليها: الإيمان بالله، والتواصي فيما بين المؤمنين " بالصبر والمرحمة ": الصبر على القيام بالتكاليف التي تعزز الإيمان، وتجعل المؤمنين كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، والمرحمة التي تجعل من مجتمعهم مجتمعا تسوده الرحمة ويعمه الإخاء، ويبرز فيه التكافل بين كافة الفقراء والأغنياء، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} ، ثم بشر كتاب الله الذين آمنوا، وبرزت في أخلاقهم ومعاملاتهم روح الإيمان، بأنهم سيكونون يوم القيامة من أصحاب اليمين المنعمين، {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} ، وأنذر الذين
كفروا بالله وكفروا بنعمه بأنهم سيكونون في ذلك اليوم من أصحاب الشمال المعذبين: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} ، أي: نار مطبقة عليهم لا محيد لهم عنها.
ومن هنا ننتقل إلى سورة " الشمس " المكية أيضا مستعينين بالله.
وهذه السورة الكريمة يتصدرها قسم من الله بالشمس والقمر، والنهار والليل، والسماء والأرض، والنفس ذات الاستعداد المزدوج، ومناط القسم فيها هو تأكيد طبيعة النفس البشرية، وزيادة التعريف بميزتها الخاصة، ألا وهي استعدادها في كل وقت للميل نحو الخير، وللميل نحو الشر، فإذا مالت نحو الخير كانت نفسا زكية طاهرة، وإذا مالت نحو الشر كانت نفسا شقية قذرة، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{بسم الله الرحمن الرحيم وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} ، أي: جلى البسيطة وأنار أرجاءها، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} ، أي: يغشى البسيطة فتظلم آفاقها، {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} ، أي: بسطها ودحاها، نظير قوله تعالى في آية أخرى:{وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 30، 31)، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} ، أي: ما خلقها عليه من الفطرة المستقيمة، نظير قوله تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30)، ثم قال تعالى:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ، أي: جعلها قادرة على التمييز بين خيرها
وشرها، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} ، أي: فاز من نمى في نفسه استعداد الخير، وطهر نفسه بطاعة الله وتقواه، {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} ، أي: خسر من أضعف في نفسه روح الخير، وأقبل على الموبقات والمعاصي.
وبهذه المناسبة عرض كتاب الله نموذجا من نماذج النفوس الشريرة، فتحدث عن أشقى رجل من ثمود قام " بعقر الناقة " عصيانا لله ورسوله، رغم تحذير صالح عليه السلام، وقد سبق الحديث عن " ناقة صالح "، وموقف قومه منها بتفصيل في سورة الأعراف، وسورة هود، وسورة الإسراء، وسورة الشعراء، وسورة القمر، ثم تجددت الإشارة إليها في هذه السورة، فقال تعالى:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} ، أي: احذروا أن تمسوا ناقة الله بسوء، أو تتعرضوا لها في يوم سقياها، {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} ، أي غضب الله عليهم وأهلكهم بجرمهم جميعا، {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} ، أي: أن عاقر الناقة لم يكن يقدر عاقبة ما صنع، أو المراد: أن الله تعالى لا يخاف تبعة أحد، على حد قوله سبحانه:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23).
ولننتقل الآن إلى سورة " الليل " المكية أيضا، وفي بداية هذه السورة قسم من الله بالليل والنهار، وبخلق الذكر والأنثى، والمقسم عليه فيها أمر يتعلق بالإنسان الذي هو محور الرسالة ومحور التكليف: ذلك أن الإنسان بحكم طبيعته مختلف الميول، متعدد الاتجاهات، متباين الاستعدادات، وليس لجميع أفراده
استعداد واحد، ولا مؤهلات واحدة في جميع المجالات، ومن أجل ذلك يختلف اتجاهه، ويختلف تقديره، ويختلف عمله، ويختلف سعيه، ويختلف جزاؤه، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى:{بسم الله الرحمن الرحيم وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} .
ومعنى {مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} من بذل من نفسه وماله ابتغاء وجه الله، ومعنى {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} من وثق بما عند الله من العاقبة الحسنة والجزاء الحسن، ومعنى {اليُسْرَى} ، أن الله تعالى ييسر أموره ويسهل عليه بلوغ مقاصده دون شدة ولا عنت، ومعنى {مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} من بخل بما أعطاه الله، وخيل إليه أنه مستغن عن الله، فلم يؤد حقوق الله ولا حقوق العباد، ومعنى {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} من أساء الظن بالله، ولم يثق بما وعده به من العاقبة الحسنة والجزاء الحسن، ومعنى {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} سنخذله ولا نوفقه، وسيصطدم في طريقه بكل المعوقات والعراقيل، والتعبير عن هذا المعنى بلفظ " التيسير " مثل التعبير بلفظ " التبشير " في قوله تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران: 21)، من باب التبكيت والتنكيت، ومعنى {إِذَا تَرَدَّى} إذا هلك وهوى في الدرك الأسفل من النار.
ثم بين كتاب الله أن عناية الله بالإنسان عناية بالغة، ومن أجل ذلك، أرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وله بعد ذلك
أن يختار لنفسه ما يشاء، وأن يتحمل تبعة اختياره في دار الجزاء، فإما أن يكون (أتقى)، وإما أن يكون (أشقى)، وذلك قوله تعالى:{إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى * فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} .
ولننتقل الآن إلى سورة " الضحى " المكية أيضا، وهذه السورة تعبر عن رعاية الله لرسوله من فوق سبع سماوات، وتسجل ما يتمتع به من رضى مولاه وتأييده في الشدة والرخاء، وفي بدايتها قسم " بالضحى والليل إذا سجى ". و {الضحى1} وقت ارتفاع النهار وامتداد الشمس، و " سجى " بمعنى سكن وهدأ، والمقسم عليه فيها هو أن الله تعالى يرعى نبيه بعين رعايته التي لا تنام، وأنه لا يمكن أن يجفو رسوله عليه السلام، ولا أن يكله إلى نفسه، بعدما اختاره لرسالته، وأعده لحمل أمانته، وأن ما ادخره له سبحانه من الفضل والعطاء، يتجاوز العد والإحصاء، ويفوق كل ما يؤمله من الثواب والجزاء، وذلك قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم
وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}، أي ما أبغضك وما هجرك، {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} .
ثم اتجه الخطاب الإلهي إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، يذكره بما رافق حياته منذ بدايتها وفي جميع أطوارها من العناية الربانية والمدد الإلهي، مؤكدا له " أن الكريم إذا بدأ كمل "،
وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} ، أي: وجدك " يتيما " فسخر لك من يحنو عليك ويقف بجانبك في السراء والضراء ووجدك " ضالا " بين قوم سيطرت عليهم " الجاهلية "، وأنت تتلمس طريق الهدى: فعصمك من جاهليتهم، وأعدك لتكون رسوله إلى العالمين على غرار قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} (الشورى: 52). {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} ، أي: أكرمك بقناعة النفس وغنى القلب، فلم تلهك الدنيا ولا شهواتها ولا مطامعها.
وخُتِمت هذه السورة الكريمة بالدعوة إلى كفالة اليتيم والإحسان إليه، وإكرام السائل والعطف عليه، والتحدث بنعم الله التي أنعم بها على رسوله والمؤمنين، وعلى رأسها نعمة الإيمان والإسلام، والذكر الحكيم الذي أنزله الله رحمة للعالمين، وذلك قوله تعالى:{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} ، أي: اكفله وقربه وأصلح أمره، {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} ، أي: إما أن تعطيه مما أعطاك الله، أو تعده، أو ترده ردا جميلا بكلمة طيبة ويندرج تحت هذه الآية السائل عن دينه من أجل البيان والمعرفة. {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} ، أي: اشكر إحسان الله إليك وإنعامه عليك، بالجوارح واللسان والجنان.