الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب السابع والخمسين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حديث هذا اليوم نعالج تفسير الربع الأخير من الحزب السابع والخمسين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة "المعارج" المكية:{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} ، إلى قوله جل علاه في ختام سورة "نوح" المكية أيضا:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} .
ــ
في بداية هذا الربع يؤكد كتاب الله أن للقدرة الإلهية من إمكانات الخلق والإبداع على غير مثال سابق، ما يشمل الكون كله من أدناه إلى أقصاه، إذ الحق سبحانه وتعالى هو رب المشارق وهو رب المغارب على تعدادها، والكل منه وإليه، ولن يعجزه ما قدره من المعاد والبعث والنشور، كما يزعم المشركون، الذين سيطر عليهم الجهل والغرور، بل إن الله تعالى قادر على أن يعيدهم بنفس الأجساد التي كانوا عليها في الدنيا، وقادر على أن يبدلهم من أجسادهم في الدنيا أشكالا أخرى خيرا منها في
الآخرة، وما دام الحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان على غير مثال سابق، وهو سبحانه غير مسبوق بغيره في خلق الإنسان وإبداعه، فأمر إعادة الإنسان بعد موته شيء يسير وهين بالنسبة لقدرته وحكمته، ولا حاجة إلى القسم عليه، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} ، وإلى هذا المعنى ينظر قوله تعالى في آية أخرى:{عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} (الواقعة: 61).
وهناك تفسير آخر لقوله تعالى: {أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} ، بمعنى أن نخلق بدلهم أمة أخرى تطيع الله ولا تعصيه، وتصدق بيوم الدين ولا تشك فيه، على غرار قوله تعالى في آية ثانية:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38)، وقوله تعالى في آية ثالثة:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} (إبراهيم: 19). وهذا التفسير الأخير، هو الذي اختاره ابن جرير.
واتجه الخطاب الإلهي إلى الرسول عليه السلام، آمرا له بالإعراض عن المشركين والكافرين، بعد أن بلغ الرسالة إليهم، وأقام الحجة عليهم، مبينا أن من اختار منهم الضلال على الهدى والكفر على الإيمان، سيلقى جزاءه مقرونا بالذلة والهوان، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ * يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي
كَانُوا يُوعَدُونَ}، ومعنى " يوفضون " يسرعون، و " النصب " ما نصب للإنسان من علم أو بناء أو صنم، فهو يقصده مسرعا إليه.
ومن هنا ننتقل إلى سورة " نوح " المكية أيضا، وفي بدايتها يتحدث كتاب الله عن الرسالة الأولى التي كلف الله بها رسوله نوحا عليه السلام، وما دعاهم إليه من عبادة الله وتقواه، وما حضهم عليه من طاعة الله ورسوله لنيل غفرانه ورضاه، وما حذرهم منه من حلول الأجل وهم غافلون، وحلول النقمة وهم مستكبرون، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، ففي هذه الآية يؤكد كتاب الله لرسوله والمؤمنين والناس أجمعين، أن مصدر الرسالة، ومنبعها الأول والأخير، كان ولا يزال في جميع العهود، وبالنسبة لجميع الأنبياء والرسل، من عهد نوح عليه السلام إلى عهد سيدنا محمد خاتم النبيئين والمرسلين، هو الله تعالى خالق الخلق ومصدر الوجود، فهو الذي خلق الخلق وأرسل إليهم الرسل، لهدايتهم إلى سواء السبيل، وهو الذي كلف رسله جميعا بالدعوة إلى عبادة الله وتقواه، وإلى طاعة رسله فيما يبلغونه عن الله:{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} ، لكن قوم نوح لم تزدهم دعوة رسولهم إلا عنادا واستكبارا، ولم يزدهم إلحاحه على هدايتهم، وحرصه على إنقاذهم، إلا نفورا منه وفرارا، وأصروا
على كفرهم إصرارا، رغما عن كل ما بذله نوح عليه السلام من محاولات طويلة ومضنية لإصلاح حالهم، وما عرض عليهم من وعد الله حينا ووعيده حينا، ورغما عما لفت أنظارهم إليه من دلائل القدرة الإلهية، وآثار الحكمة الربانية، في آفاق الكون الظاهرة، وآفاق النفس الباطنة، وإلى ذلك يشير قوله تعالى حكاية على لسان نوح عليه السلام:{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} .
ومما يجب التنبيه إليه في هذا المقام أن " أسلوب الدعوة " الذي حكاه كتاب الله عن نوح عليه السلام لا يختلف في شيء عن أسلوب الدعوة الذي استعمله خاتم النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كما أن الحجج والبراهين الكونية والنفسية التي كان نوح يقارع بها قومه هي نفس الحجج والبراهين التي واجه بها رسول الله مشركي قريش ومن لف لفهم،
وسلك طريقهم، مما يوضح لكل ذي عينين أن طبيعة الرسالة الإلهية واحدة، وأن مصدر الوحي الإلهي واحد، وأن الشبه التي تعرض لقصار النظر، والضلالات التي يقعون فيها، على تباعد ما بين العصور والأجيال، هي شبه وضلالات متقاربة، إن لم تكن متماثلة في أغلب الأحيان، وكما أن الداء البشري واحد، فالدواء الإلهي واحد.
وبعدما قام نوح عليه السلام بتبليغ الرسالة عن ربه، واستعمل مع قومه جميع وسائل الترغيب والترهيب، وقضى أكبر قسم من حياته الطويلة في أداء الواجب دون الوصول معهم إلى جدوى أخذ يستعيذ بالله من كفرهم وعصيانهم، ويبرأ إليه من مكرهم وعدوانهم، وذلك ما يحكيه عنه قوله تعالى:{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} ، أي: مكرا كبيرا وعظيما.
ووصف كتاب الله الدعوة الضالة المضلة التي كان يقوم بها قوم نوح لإفساد الناس، وتحريضهم على الاستمساك بالشرك والوثنية، والتزام عبادة الأصنام، كما وصف كتاب الله أثر دعوتهم الضالة في النفوس، واستيلاءها على الأفكار، فقال تعالى حكاية عنهم:{وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} .
وهذه الأصنام وغيرها قد استمرت تقاليد عبادتها إلى حين ظهور الإسلام، إذ انتقلت عدواها من قوم نوح إلى العرب، فكان لقبيلة كلب صنم يدعى " ودا "، وكان لقبيلة هذيل صنم يدعى
باسم " سواع "، وكان لقبيلة مراد ثم لبني غطيف صنم يدعى باسم " يغوث "، وكان لقبيلة همدان صنم يدعى باسم " يعوق "، وكان " نسر " صنما لقبيلة حمير.
وقوله تعالى: {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} ، إشارة إلى هذا المعنى، إذ إن السابقة الخبيثة والسنة السيئة التي سنها قوم نوح قد انتقلت عدواها منهم إلى غيرهم من البشر، ولا تزال عبادة الأصنام قائمة إلى اليوم في عدة شعوب أضلها سادتها وكبراؤها، ولولا أن من الله على البشرية بالإسلام لكان كثير من أبنائها حتى اليوم غارقا في عبادة الأصنام، وإلى تقرير هذه الحقيقة نفسها يشير دعاء إبراهيم الخليل بعد نوح عليهما السلام، فقد حكى الله تعالى عن إبراهيم قوله في دعائه:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} (إبراهيم: 35، 36).
ثم أخذت الآيات الكريمة تسجل أدعية نوح على الضالين المضلين من قومه، بعد أن استفرغ جهده في هدايتهم، واستنفد طاقته في دعوتهم، ولم يصل معهم إلى أية نتيجة مرضية، وذلك قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام:{وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} ، وقوله تعالى عنه أيضا:{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} ، أي: لا تبق منهم أحدا على وجه الأرض.
وبينت الآيات الكريمة أن الله قد استجاب دعاء نوح عليه
السلام، فأهلك جميع من كان على وجه الأرض من الكافرين وأغرقهم، ولم يستثن منهم أحدا حتى ولد نوح من صلبه، الذي كان اعتزل عن أبيه، كما قال تعالى في سورة هود:{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} ، فرد عليه أبوه نوح قائلا:{لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} ، ولم يجد ولد نوح وسيلة للخلاص من العذاب، {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} ، وإنما نجى الله سفينة نوح وحدها بمن فيها أصحابه المؤمنين، {وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، وإلى إغراق قوم نوح في الدنيا وعذابهم في الآخرة يشير قوله تعالى هنا:{مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} .
على أن الدافع الذي دفع نوحا عليه السلام إلى الدعاء على قومه بالإبادة والهلاك لم يكن مجرد الرغبة في الانتقام منهم، على عدم استجابتهم إلى دعوته، وعدم إيمانهم برسالته، وإنما كان دعاؤه عليهم اقتناعا منه بأنهم قد بلغوا في الانحراف والفساد والضلال، إلى حد أنه لم يبق أي أمل في هدايتهم، ولا أدنى رجاء في إصلاحهم، فقد أصبح مرضهم مزمنا وداؤهم عضالا، والعضو المتآكل لا ينفع فيه إلا البتر، " وآخر الدواء الكي " وإلى هذا المعنى المبرر لدعاء نوح عليه السلام على قومه، يشير قوله تعالى حكاية عنه وهو يخاطب ربه قائلا:{إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} .
وبعدما عرض كتاب الله دعاء نوح على الكافرين، نقل إلينا صورة حية من دعائه للمؤمنين إلى يوم الدين، وفي نقل القرآن لهذه الصورة من الدعاء الصالح توجيه وإرشاد إلى كيفية الدعاء، وإلى صيغته وآدابه، وإلى من يستحق الدعاء له بالخير ومن لا يستحقه، وذلك قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} ، أي: لا تزد الظالمين إلا هلاكا وخسارا.