الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب الثالث والخمسين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حديث هذا اليوم نتناول تفسير الربع الأخير من الحزب الثالث والخمسين في المصحف لكريم، وبدايته قوله تعالى:{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} ، ونهايته قوله جل علاه:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} .
ــ
لا نزال نتذكر أن كتاب الله - في نهاية الربع الماضي- أعاد إلى الأذهان قصة نوح وقومه حيث قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} ، وفي بداية هذا الربع يتوالى الحديث عن نفس القصة، إذ يبين كتاب الله أن نوحا عليه السلام، بعد جهود متواصلة وتضحيات متوالية، وصل إلى مرحلة قطع فيها كل رجاء وأمل في إصلاح حال قومه، أو إنقاذهم من الضلال الذي هم فيه، فلم يجد نوح عليه السلام بدا من أن يعلن أمام ربه عجزه عن إصلاحهم، ويستنجد عليهم بقوة الله القاهر فوق عباده، وذلك قوله تعالى هنا حكاية عن نوح:{فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} ، وعلم الله الذي أحاط بكل شيء لم
يفاجئه يأس نوح من قومه، ولا طلبه النصر عليهم من الله، فقد كان دعاء نوح مجرد سبب، لأن ينال قوم نوح من العذاب الأليم ما هم أهل له، وما أسرع ما وقع انتصار الله لدينه ولنبيه، بتسليط طوفان عارم على قوم نوح، اشتركت فيه السماء والأرض على السواء، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} . ونجى الله نوحا من عذاب الطوفان على ظهر سفينة كانت تكلؤها عناية الله، وتحميها من كل خطر، كما قال تعالى:{وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} ، و " الدسر " مسامير السفينة أو أضلاعها. ثم قال تعالى:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} ، أي تجري بأمرنا وتحت حفظنا. وقوله تعالى:{جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} ، إما أن يكون المراد به رعاية الله لنوح، وحمله ومن آمن معه في " سفينة النجاة " إكراما له من الله، وإنقاذا له من كفران قومه به وبرسالته، وإما أن يكون المراد به عذاب الطوفان الذي سلطه الله على قوم نوح، جزاء لهم على كفرهم وعنادهم، وسوء معاملتهم لنوح عليه السلام.
وأشار كتاب الله إلى أن الحكمة في عرض مثل هذه القصة على المشركين والكافرين هي تذكيرهم بما وقع للأقوام والأمم من قبلهم، حتى يعودوا إلى رشدهم، ويتجنبوا الوقوع تحت ضربات السوط الإلهي الذي يمهل ولا يهمل، وتعريفهم بأن عاقبة الصلاح واحدة، وعاقبة الفساد واحدة، إذ " ما جرى على المثل يجري على المماثل ". وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا
آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}، على غرار قوله تعالى في آية أخرى:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} (الحاقة: 11).
ثم أورد كتاب الله قصة عاد مع هود عليه السلام وما حل بهم من العقاب الإلهي الشديد، وقد كانت منازلهم في جنوب جزيرة العرب، إذ سلط الله عليهم ريحا عنيفة في منتهى البرودة، فأخذت تقتلعهم من الأرض حتى تغيبهم عن الأبصار، ثم تنكسهم وتلقي بهم على رؤوسهم، فيسقطون صرعى وهم جثث هامدة، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} .
واتجه الخطاب الإلهي إلى كل من يسمع القرآن ويتلى عليه من الناس، مذكرا أربع مرات في هذا الربع، بأن هذا الذكر الحكيم الذي أكرم الله به البشر قد جعله الله ميسرا للفهم، ميسرا للحفظ، ميسرا للتلاوة، بحيث يكفي أن ينصت إليه الإنسان، وأن يفتح له عقله وقلبه، ليدرك أثره في نفسه ومشاعره، وفي حياته كلها دون إبطاء، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ، ومعنى قوله سبحانه وتعالى:{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ، فيما نقله الإمام البخاري تعليقا عن مطر الوراق:" هل من طالب علم، فيعان عليه؟ ".
وأشارت الآية الكريمة في هذا السياق إلى قصة ثمود مع
صالح عليه السلام، وقد كانت منازلهم في شمال جزيرة العرب، وما واجهوه به من السفه والتحدي والعناد، وعدم الطاعة والانقياد، وما ابتلاهم الله به من أمر " الناقة " التي قاسمتهم الماء: يوم لها ويوم لهم، فضاقوا بها ذرعا ولم ينقادوا لأمر الله، ولم يصبروا على ابتلائه، وذلك قوله تعالى:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ * إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ * وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ * فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} .
وقوله تعالى هنا: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} ، إشارة إلى عاقر الناقة الذي كان أشقى واحد في قومه، وإليه يشير قوله تعالى في سورة (الشمس: 12): {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} ، وهو أحد الرهط المفسدين الذين يشير إليهم قوله تعالى في سورة (النمل: 48): {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} .
وقوله تعالى هنا: {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} ، أي: أنهم بادوا عن آخرهم ولم يبق منهم باقية، كما يقع للزرع والنبات عندما ييبس ويحترق وتذروه الرياح.
وانتقلت الآيات الكريمة إلى التذكير مرة أخرى بقصة لوط، حيث سلط الله عليهم ريحا تحمل حجارة من طين، فاقتلعت
قراهم، وقضت عليهم القضاء المبرم، جزاء تمردهم على الله، وانحرافهم عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها، بممارسة الشذوذ الجنسي البغيض، حتى وصل بهم الأمر إلى مراودة ضيوف لوط عليه السلام، ومحاولة الاعتداء عليهم أنفسهم، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ * فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} ، ثم تعرض كتاب الله لقصة فرعون وقومه، فقال تعالى:{وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} .
ووجه كتاب الله بعد ذلك كله إلى المشركين عدة أسئلة كلها تقريع واستنكار: هل يعتبرون أنفسهم خيرا من كل من سبقهم من الأقوام والأمم، التي عاقبها الله أشد العقاب على كفرها وعنادها؟
هل إن عند المشركين صكا إلهيا مسجلا في الكتب المنزلة من عند الله يعطيهم حصانة دائمة، وبراءة قاطعة من كل عقاب وعذاب؟
هل يعتقدون أن لهم من القوة والمنعة ما يتقون به الخذلان والهزيمة، وما يقف في وجه القوة الإلهية التي لا تغلب ولا تغالب؟
وإلى ذلك كله يشير قوله تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} . ورد الحق سبحانه على المشركين ردا مفحما فقال: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} .
وتحدث كتاب الله عن مصير المجرمين الذين أصروا على الشرك والكفر، فقال تعالى:{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} .
وأكد كتاب الله مرة أخرى ما للحق سبحانه من حكم بالغة في خلقه، ومن أسرار باهرة في صنعه، وما لقدرته من سرعة الإبداع والإنجاز، والتنفيذ والقضاء، وذلك قوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} .
وعقب كتاب الله على ما سبق من قصص الرسل مع أقوامهم، وما عاقب به مكذبيهم، فقال تعالى مخاطبا لمشركي قريش، الذين هم ورثة أولئك المكذبين:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} .
وخُتِمَ هذا الربع من كتاب الله بما أعده الله للمتقين من عباده، فقال تعالى منوها بهم، وممتنا عليهم بمغفرته ورضوانه:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} .