الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب الثامن والخمسين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موضوع حديث اليوم تفسير الربع الثالث من الحزب الثامن والخمسين في المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى في فاتحة سورة "القيامة" المكية:{بسم الله الرحمن الرحيم لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} ، ونهايته قوله جل علاه في سورة "الإنسان" المكية أيضا:{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} .
ــ
في مطلع هذا الربع وهو فاتحة سورة " القيامة " المكية، إشارة إلى أمرين اثنين: الأمر الأول القيامة وأهوالها. والأمر الثاني: النفس وأحوالها، وكأن فاتحة هذه السورة براعة استهلال، فقد استغرق الحديث عن هذين الأمرين السورة بتمامها، من بدايتها إلى نهايتها، {بسم الله الرحمن الرحيم لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} ، والمقسم عليه في هذا المقام هو نفي ما يزعمه المشركون، من أنه لا قيام للساعة ولا بعث للإنسان، والتأكيد على إثبات المعاد، وبعث الأجساد.
أما " يوم القيامة " فمعروف، وأما " النفس اللوامة " فقد قال
مجاهد: " هي التي تندم على ما فات وتلوم عليه "، وقال الحسن البصري:" إن المؤمن - والله- ما نراه إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟، وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه "، والأشبه بظاهر التنزيل في رأي ابن جرير أن " النفس اللوامة " هي التي تلوم صاحبها على الخير والشر، وتندم على ما فات، وقال ابن عطية:" كل نفس متوسطة ليست بمطمئنة ولا أمارة بالسوء، فإنها لوامة في الطرفين، مرة تلوم على ترك الطاعة، ومرة تلوم على فوت ما تشتهي، فإذا اطمأنت خلصت وصفت، ولعل كلمة " الضمير " بالمعنى المتعارف اليوم ترادف كلمة " النفس اللوامة "، ولا سيما إذا كان ضميرا حيا لا ميتا، فوخز الضمير يشابه لوم النفس من عدة وجوه.
وتساءل كتاب الله عن الوهم الذي يداخل بعض النفوس الضعيفة، ولا سيما نفوس المشركين، وهو استبعادهم إعادة الحياة إلى الإنسان بعد موته، المعبر عنها هنا " بجمع عظامه بعد افتراقها " حيث قال تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} ، ثم أجاب كتاب الله على هذا التساؤل الغريب بما يفيد أن الله قادر على ذلك وعلى أكثر منه، وليس بعزيز على قدرته سبحانه أن ينشئ الإنسان في خلق جديد، أو أن يعيد تكوينه على ما كان عليه بأدق أجزاءه وجميع تفاصيله، بحيث لا ينقص من الإنسان المعروف أي عضو من أعضائه مهما صغر، ولا يتبدل فيه شكل أي عضو مهما دق، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} ، ولا غرابة في هذا، فإن الإنسان
ليس إلا مخلوقا من صنع الله وإبداعه، وهو سبحانه الذي انفرد بإنشائه سلالة ونوعا وأفرادا، منذ ظهر على وجه الأرض إلى يوم الدين:{مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} (الكهف: 51).
ثم بين كتاب الله لماذا يميل ضعاف النفوس إلى عدم الإيمان بالبعث والنشأة الآخرة، موضحا أن السبب في ذلك هو ما يطغى عليهم من الشهوات واللذات، وما يغرقون فيه من أنواع الفسق والفجور، وما يحرصون عليه من تفادي كل ما ينغص عليهم هذا النوع التافه من " العيش البهيمي " الذي ألفوه ولا يستطيعون عنه انفكاكا، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى:{بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} ، قال مجاهد:" ليفجر أمامه " أي: ليمضي أمامه راكبا رأسه.
ووضح كتاب الله نفسية ضعاف النفوس الفجرة، وإصرارهم على ما هم فيه من فسق وفجور، ومحاولتهم بكل الوسائل لدفع " شبح " البعث والنشأة الآخرة عن خيالهم المريض، وذلك بتكذيبهم لوجوده حينا، واستبعادهم لوقوعه حينا آخر، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى:{يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} ، أي: يسأل ذلك الإنسان عنه سؤال استبعاد لوقوعه، حتى لا يقض مضجعه، ولا ينغص عيشه، لأنه يرغب في أن يفجر، وأن يمضي في فجوره باستمرار، دون مكدر ولا معقب، لكن الإنسان المكذب بالبعث، المستبعد لوقوعه، حرصا على الاستمتاع بشهواته دون حساب، لا يلبث أن يفاجأ بالحقيقة المرة، عندما يرى أن القيامة قد قامت، وأن ساعة
البعث قد حلت، فيتساءل إلى أين الفرار؟ ويجد نفسه وقد سقط في شرك الأقدار، أحقر وأعجز من فار:{فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} .
ويرد كتاب الله على سؤال الفاجر المستهتر، المكذب بالبعث والنشور، {كَلَّا لَا وَزَرَ} ، أي: ها أنت قد وقعت في قبضة الله، وليس لك أي مكان تعتصم فيه من عذاب الله، {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} ، أي: إليه المرجع والمصير، {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} ، أي: يخبر الإنسان بجميع أعماله، أولها وآخرها، قديمها وحديثها، صغيرها وكبيرها، ما قدمه قبل وفاته من الأعمال، وما يترتب على تلك الأعمال بعد وفاته من الآثار، هل سن سنة حسنة فيكون له أجرها وأجر من عمل بها؟ أو سن سنة سيئة فيكون عليه وزرها ووزر من عمل بها؟ وها هنا ينكشف الستار، وتسقط الأعذار، فها هو الإنسان قد اطلع على كتابه، وها هو قد تلقى سجل حسابه، وكفى بنفسه عليه حسيبا، وشاهدا ورقيبا:{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} .
واتجه الخطاب الإلهي بعد ذلك إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، ملقنا إياه الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها عند تلقي الوحي من عند الله، والمراحل التي تتبع ذلك، فقال تعالى في خطابه لنبيه:{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، فالحالة الأولى بعد تلقيه
القرآن من الملك جمعه في صدره {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ} ، والحالة الثانية تلاوته:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} ، والحالة الثالثة تفسيره وإيضاح معناه:{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .
وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} معناه إذا تلاه عليك الملك عن الله تعالى فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ، أي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا، كما فسره ابن كثير، وإلى هذا الموضوع نفسه يشير قوله تعالى في آية أخرى:{وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 111)، قال المفسر الشهيد:" إن الإيحاء الذي تتركه في النفس هذه الآيات هو تكفل الله المطلق بشأن هذا القرآن، وحيا وحفظا وجمعا وبيانا، وإسناده إليه سبحانه بكليته، ليس للرسول صلى الله عليه وسلم من أمره إلا حمله وتبليغه، ثم لهفة الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة حرصه، على استيعاب ما يوحى إليه، وخشيته أن ينسى منه عبارة أو كلمة، مما كان يدعوه إلى متابعة جبريل عليه السلام في التلاوة آية آية، وكلمة كلمة، يستوثق أن شيئا منها لم يفته، ويتثبت من حفظها فيما بعد ".
ثم عاد كتاب الله إلى مخاطبة الغافلين المغرورين الذين يستغرقون كل حياتهم في الشهوات والملذات دون أن يحسبوا لما بعدها أي حساب، فقال تعالى:{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} ، وكأن في هذا الخطاب تلويحا إلى ما في طبع الإنسان
من غريزة " العجلة ": {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (الأنبياء: 37)، فبحكم هذه الطبيعة البدائية يميل الإنسان الغافل إلى الاستمتاع بيومه قبل غده، ويلتهم العيش التهاما، دون أن يفكر في العواقب، على حد قول القائل:" ولك الساعة التي أنت فيها "، لكن العاقل من شغل عمره بما يستمر ويبقى، لا من يشغله بما يمر ويفنى. ولعل هذا هو السر في وصف القرآن الكريم للدنيا في هذه الآية باسم " العاجلة " إيماء إلى قصر مدتها، وسرعة فنائها، وإشارة إلى استغراق الغافلين المغرورين في شهواتها وملذاتها، خشية فواتها.
وانتقل كتاب الله بعد ذلك إلى وصف ما أعده الله في الآخرة للمتقين المصدقين، وما أعده فيها للمحرومين المكذبين:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} .
ويتساءل كتاب الله سؤال استنكار واستغراب: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} ، أي: أيظن الإنسان أنه خلق ليترك في حياته هملا لا يؤمر ولا ينهى، وأنه خلق ليترك بعد موته منسيا لا يحاسب ولا يعاقب:{أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} .
ومن هنا ننتقل إلى سورة " الإنسان " المكية أيضا، مستعينين بالله، سائلين منه الهداية والتوفيق.
وفي مطلع هذه السورة الكريمة يعود الحديث من جديد إلى موضوع الإنسان الذي لم يخلقه الله سدى، ويبين كتاب الله أنه قد مضى زمن طويل على العالم دون أن يكون فيه للإنسان وجود ولا ذكر، ويشير إلى أن وجوده فيه إنما هو طارئ عليه، لحكمة إلهية اقتضت إيجاده وإمداده، وهي حكمة الابتلاء والتكليف والخلافة عن الله في الأرض، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{بسم الله الرحمن الرحيم هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} .
وواصل كتاب الله الحديث عن الأبرار والفجار من بني الإنسان، فوصف كلا الفريقين، ووضح جزاء الطرفين، فعن الفجار وجزائهم قال تعالى هنا:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} وعن الأبرار وجزائهم قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} .
وعرض كتاب الله في نفس السياق مكارم الأخلاق التي يدخل بها الناس في عداد " الأبرار " السعداء حيث قال تعالى في وصفهم: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} .
ثم عاد كتاب الله إلى الحديث عن جزاء الأبرار حيث قال
تعالى في حقهم: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا * مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} إلى قوله تعالى في نهاية هذا الربع: {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} .