الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الرابع والخمسين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موضوع حديث اليوم تفسير الربع الأول من الحزب الرابع والخمسين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في فاتحة سورة "الرحمن" المكية:{بسم الله الرحمن الرحيم الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} إلى قوله تعالى في ختام نفس السورة: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .
ــ
تتضمن هذه السورة الكريمة امتنان الله على خلقه، بإنزال القرآن عليهم وتعليمه لهم، وامتنانه سبحانه بخلق الإنسان، وما منحه من المنطق والبيان، ثم تستعرض السورة آيات الله الناطقة، ونعمه السابغة، التي بثها في العالم العلوي والعالم السفلي، من شمس وقمر، ونجم وشجر، وسماء وأرض، وما خلقه من جن وإنس، ومشرق ومغرب، وماء أجاج وماء عذب، وتعقب السورة على ذلك كله بمشهد الفناء المطلق لجميع الخلائق، ومشهد البقاء المطلق لوجود الخالق.
فقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} ، امتنان من الله على عباده بنزوله، وتيسير حفظه وفهمه، وهدايتهم بإتباع تعاليمه،
وإسعادهم بتطبيق شرائعه، وتهذيبهم بالتخلق بأخلاقه.
وقوله سبحانه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ، امتنان على الإنسان بخلقه في أحسن تقويم، وتزويده بالنطق والفهم والإدراك السليم، على غرار قوله تعالى في آية أخرى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} (النمل: 78).
وقوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} ، إشارة إلى تسخير الله لهما بالخصوص لخير الإنسان. نعم، إن هنالك من النجوم ما هو أكبر وأعظم، ولكن ليست له علاقة مباشرة بحياة الإنسان، ولا تأثير مباشر على سطح الأرض " كالشعرى " و " السماك الرامح " و " سهيل " وإن كان نورها أقوى من نور الشمس أضعافا مضاعفة، أما " الشمس " فهي أهم شيء بالنسبة للإنسان ولحياته، إذ لولا ضوء الشمس وحرارتها وجاذبيتها لما أمكن للإنسان أن يعيش على سطح الأرض، فضلا عن النبات والحيوان، اللذين تتوقف عليهما حياة الإنسان، وكذلك الشأن في " القمر " فرغما عن كونه تابعا صغيرا للأرض يعتبر ذا أثر قوي في حياتها، وحياة الإنسان المستقر فوقها، وقد ربط الله بالقمر حركة المد والجزر في البحار، وهذه الحركة الدائمة هي التي عليها في فن الملاحة المدار.
وقوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} ، إشارة إلى خضوع جميع الكائنات لمكونها ومبدعها، وإلى سلطة الله
المبسوطة على جميع خلقه، فالكل مرهون بربوبيته، بحيث لا يتخلف عن مشيئته أي مخلوق، جل شأنه أو صغر، في الأرض أو في السماء، والكل ينشأ وينمو ويفنى طبقا للسنن الثابتة، التي رسمتها للجميع قدرة الله وحكمته وعلمه، وذلك على غرار قوله تعالى في آية أخرى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} (الحج: 18).
وقوله سبحانه: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} ، تنبيه للإنسان على استجلاء عظمة الله وبالغ قدرته، من خلال هذا الفضاء الواسع المترامي الأطراف الذي تسبح فيه ملايين الملايين من النجوم، على اختلاف أصنافها وأحجامها وأبعادها، دون أن تصطدم بعضها ببعض، ودون أن يصيبها خلل أو فتور، و " الميزان " الذي وضعه الله لهذا الكون هو تقديره المحكم الذي لا يختل، القائم على أساس التناسق والتناسب والانسجام والتكامل.
وقوله تعالى: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} ، تنبيه للمؤمنين إلى أنهم ينبغي أن يتخلقوا بخلق الله، وأن يستمدوا من سنن الله الثابتة في خلقه منهاج سلوكهم في حياتهم، بالنسبة لأنفسهم وبالنسبة لبقية الناس، وذلك أن يقيموا حياتهم على أساس من الحكمة والعدل، وحسن التقدير والتدبير، حتى لا يلحقها خلل كبير أو صغير.
وقوله سبحانه: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ
وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}، إشارة إلى ما أنعم الله به على الإنسان من تمهيد للأرض، كي يسهل عليه الاستقرار فوقها، ويستطيع الانتفاع بخيراتها وثمراتها، ولو لم تكن الأرض ممهدة كالفراش لاستحال عيش الإنسان فوقها بالمرة، ويكفي أن نتخيل منطقة بركانية أو زلزالية في حركة دائبة تنفث الرعب، واللهب، لندرك استحالة العيش فيها، وتعذر الحياة بين جنباتها، ولنقدر ماذا يكون عليه الإنسان من شقاء سرمدي وتشرد أبدي.
وقوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} ، إشارة إلى شروق الشمس وشروق القمر، وغروب الشمس وغروب القمر، وذلك بمناسبة ذكرهما والامتنان بهما في الآية السابقة:{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} ، ويمكن أن يفهم من " المشرقين " مشرق الصيف ومشرق الشتاء، ومن " المغربين " مغرب الصيف ومغرب الشتاء، كما جاء في آية أخرى قوله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} (المعارج: 40)، إشارة إلى اختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم، بالإضافة إلى ما يتضمنه الشروق والغروب في حد ذاتهما من المنافع والفوائد للإنسان وبقية الأحياء.
وقوله سبحانه: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} ، إشارة إلى ما أقامته القدرة الإلهية من حاجز حصين يفصل ماء البحر المالح عن الماء العذب المستودع في الأنهار، رغما عن اتصالها بالبحار، فلا ماء البحر ينقلب حلوا، ولا ماء
النهر ينقلب ملحا، إذ بينهما برزخ إلهي غير منظور، يحول دون تجاوز كل منهما لحده المقدور.
وقوله تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} ، إشارة إلى الفلك التي تمخر البحار، والتي لولا تسخير الله لها لما استطاعت - وهي فوق الماء وبين الأمواج- أن يقر لها أي قرار.
وقوله سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} ، إشارة إلى تفرد الحق سبحانه بالبقاء، وإلى اختفاء أشباح الخلائق وظلالها عندما يدق ناقوس الفناء.
وقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} ، إشارة إلى الحصار الإلهي المضروب من حول خلقه، أقوياء وضعفاء، أغنياء وفقراء، مرؤوسين ورؤساء، فلا سبيل لهم إلى الإفلات من قبضة الله، ولا مفر من الوقوع بين يديه، والانتهاء في نهاية المطاف إليه. وإذا أصبح في إمكان الإنسان أن يجول بين بعض {أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وداخلها فإن ذلك لا ينفي أنه عاجز كل العجز عن أن يتجاوزها ويفارقها ويخرج منها بالمرة، وذلك هو " النفاذ منها ".
وانتقلت الآيات الكريمة إلى الحديث عن قيام الساعة، وما يبرز فيها من ظواهر كونية خارقة للعادة:{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} ، وإلى الحديث عن مصير المجرمين من
خصوم الرسالات الإلهية، وما يلقونه من العذاب الأليم:{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} ، وعن مصير المتقين، الصادقين الراشدين، وما ينالونه من النعيم المقيم، {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} .
وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، الذي تكرر في سياق هذه السورة إحدى وثلاثين مرة، معناه كما قاله مجاهد وغيره:" بأي النعم يا معشر الثقلين من الإنس والجن تكذبان "، أن النعم ظاهرة عليكم، وأنتم مغمورون بها، فكيف تستطيعون إنكارها وجحودها.
وختمت سورة الرحمن بتمجيد اسم الله وتقديس جلاله وعظمته، وهو سبحانه أهل لأن يشكر ويذكر، ولا ينسى ولا يكفر، وذلك قوله في ختام هذه السورة الكريمة، وختامها مسك:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} .