الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب الخامس والخمسين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موضوع حديث اليوم تفسير الربع الثالث من الحزب الخامس والخمسين في المصحف الكريم، ابتداء من قوله تعالى في سورة "الحشر" المدنية:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ} ، إلى قوله جل علاه في سورة "الممتمحة" المدنية أيضا:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .
ــ
في بداية هذا الربع تناول كتاب الله وصف الدّور السافل الذي قام به " المنافقون " في قصة " بني النضير "، حيث شجعوهم على نقض عهد رسول الله ومخالفته، والتآمر عليه وعلى المسلمين، ووعدوهم بالنجدة والنصرة إذا تعرضوا لاصطدام مع القوة الإسلامية الفتية، فأطلع الله رسوله على هذه المؤامرة عن طريق الوحي المبين، وذلك قوله تعالى مخاطبا لنبيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ
لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، وقد كان عبد الله بن أبي ابن سلول وعصابته من النافقين بعثوا إلى يهود " بني النضير ":" إن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، إن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم "، فتربص " بنو النضير " ذلك، وانتظروا نصر المنافقين لهم أثناء فترة الحصار الإسلامي، لكن الله قذف في قلوب المنافقين الرعب فلم ينتصروا لليهود، وقذف في قلوب " بني النضير " الرعب فاستسلموا للمسلمين، وذلك قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} ، وبين كتاب الله السر في فشل يهود " بني النضير " وحلفائهم وإخوانهم من النافقين، وهو أنهم يخافون الخلق أكثر مما يخافون الخالق فقال تعالى مخاطبا رسوله والمؤمنين:{لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} .
ووصفت الآيات الكريمة ما عليه يهود " بني النضير " ومن لف لفهم من الجبن والهلع، فهم لا يقدرون على مواجهة " كتائب " الإسلام الفتية، ومبارزتها وجها لوجه في الفضاء الطلق، وإنما يتسترون ويتترّسون بالحصون والجدر، ليقاتلوا من ورائها، وهم في مأمن من المفاجآت والمغامرات، وذلك قوله تعالى:{لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} ، ثم يكشف كتاب الله عن سر دفين يتبين من خلاله مقدار ما بين المنافقين وكفار أهل الكتاب من التضامن والتعاون، وأن تحالف الفريقين إنما هو تحالف مصالح وأغراض إن اتفقت حينا اختلفت
أحيانا، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} .
وأعاد كتاب الله إلى أذهان المؤمنين ما أصاب كفار قريش " يوم بدر "، مشيرا إلى أن العاقبة كانت عليهم أيضا لا لهم، فما أصاب " بني النضير " إنما هو تتمة لما أصاب كفار قريش من قبل، وذلك قوله تعالى:{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وشبه كتاب الله موقف " المنافقين " الذين شجعوا يهود " بني النضير " على نقض العهد، والتآمر على حياة الرسول عليه السلام، والذين وعدوهم بالنصرة والتأييد، ثم أخلفوا وعدهم وأسلموهم لسوء العاقبة، بموقف الشيطان من الإنسان، عندما يغريه بالكفر فيغتر به، ويكفر تحت تأثير إغرائه، حتى إذا كان يوم القيامة تبرأ الشيطان منه براءة تامة، وتنصل من تبعة عمله كل التنصل، وذلك قوله تعالى:{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} .
واتجه الخطاب الإلهي إلى المؤمنين يناديهم بأحب الصفات إليهم، داعيا إياهم إلى تقوى الله، مكررا أمره بالتقوى في هذا السياق مرتين على التوالي، و " تقوى الله " تقتضي أن يقي المؤمن نفسه من عذاب الله وسخطه، وذلك بالتزام الصلاح والاستقامة،
وسلوك الطريق السوي، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي، " فالغد " الذي هو عبارة عن الحياة القادمة والدائمة مهما كان بعيدا فهو قريب، والتزود له أمر تقضي به الحكمة والرشد، ويستلزمه حسن التدبير، وسلامة التفكير، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} .
وتحدث كتاب الله من جديد عن روحانية القرآن الكريم، وكونه " روحا من أمر الله " يشع من خلال كلماته كل ما لله من صفات الكمال، ومظاهر القدرة والحكمة والجلال، وذلك قوله تعالى:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
وختمت سورة " الحشر " بعقد نفيس من أسماء الله الحسنى يذكر المؤمنين بجملة من مظاهر ربوبيته، وآثار ألوهيته، في الآفاق وفي أنفسهم:{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، ثم يكون " مسك الختام " تسبيحا لله وتنزيها، على لسان جميع المخلوقات في الأرض وفي السماوات، وكما ابتدأت سورة " الحشر " هكذا: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا
فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، تنتهي بنفس المعنى هكذا:{يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ، وبذلك انسجمت البداية مع النهاية.
ولننتقل الآن إلى سورة " الممتحنة: المدنية، مستعينين بالله معتمدين عليه، وأطلق عليها هذا الاسم، أخذا من قوله تعالى في الآية العاشرة منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}، وأول ما يستقبلنا من هذه السورة الكريمة نداء من الله إلى فريق خاص من المؤمنين، يحذرهم فيه من أن يتخذوا أعداءه أولياء، أو يلقوا بالمودة إلى من كفروا بالحق، وألجئوا الرسول والمؤمنين إلى الخروج من " منزل الوحي الأول " مبينا لهم أن " رابطة العقيدة " هي الرابطة التي يجب أن يرعوها حق رعايتها، وما عداها من الأواصر والروابط العائلية أو المالية يجب إخضاعه لهذا الاعتبار قبل أي اعتبار آخر، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} .
ثم بين كتاب الله لهذا الفريق من المؤمنين الذين كانوا لا يزالون على شيء من السذاجة والبساطة أنهم لو سقطوا في أيدي مشركي قريش لنكلوا بهم شر تنكيل، ولفعلوا بهم أقبح الأفاعيل، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً
وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}.
وكشف كتاب الله السر في تحذيره لهذا الفريق من المؤمنين، فقد كانوا لا يزالون متأثرين بروابط القرابة والرحم التي تربطهم بأقربائهم من مشركي مكة، وكانوا يحنون إليهم ما بين الحين والحين، فقال تعالى مخاطبا لهم:{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
وضرب الله المثل لهذا الفريق من المؤمنين ببراءة إبراهيم الخليل من قومه ومن آمن معه ورميه برابطة القرابة معهم عرض الحائط، عندما أصبح الأمر يتعلق بعقيدة التوحيد والإيمان بالله فقال تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ، وكان استغفار إبراهيم لأبيه قبل أن يستيقن إصرار أبيه على الشرك، مصداقا لقوله تعالى في سورة التوبة (114):{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} .
وختم هذا الربع بما يؤكد نفس الغرض ونفس التوجيه، فقال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .