الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الستّين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موضوع حديث اليوم تفسير الربع الأول من الحزب الستين في المصحف الكريم، وبدايته فاتحة سورة "الأعلى"{بسم الله الرحمن الرحيم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} ، ونهايته قوله تعالى في ختام سورة "الفجر" المكية أيضا:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} .
ــ
وأول ما يفتتح به هذا الربع في فاتحة سورة " الأعلى " هو أمر الله لرسوله وللمؤمنين معه بتمجيد اسم الله وتنزيهه، واستحضار أسماءه وصفاته الحسنى، استحضارا تاما وعاما، وذلك قوله تعالى:{بسم الله الرحمن الرحيم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، وذكر " الربوبية " هنا يوحي برعاية الله لخلقه، وإحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، رغم ما هم عليه من جحود وعناد، وإضافة " الرب " إلى " كاف المخاطب " الموجه للرسول عليه السلام تدل على ما له صلى الله عليه وسلم من ارتباط وثيق بالله، وما له من مقام كريم عند الله.
ثم بين كتاب الله أن للحق سبحانه على عباده حقوقا ثابتة في ذممهم، مقابل نعمه المتوالية عليهم، فهو سبحانه الذي انفرد بخلقهم وإبداعهم:{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} .
وهو سبحانه الذي حدد لكل مخلوق رسالته المنوطة به في هذا الوجود، وهداه إلى وسائلها ومسالكها:{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} .
وهو سبحانه الذي أكرم الإنسان والحيوان، فيوفر لكل منهما ما يحتاج إليه من أنواع الغذاء الضرورية للعيش في مختلف فصول السنة، وفي مختلف أجواء الأرض، الحارة والباردة والمعتدلة:{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} ، والمراد " بالمرعى " هنا جميع صنوف النباتات والزروع، والشأن في النبات أن يخرج أخضر، وهو معنى " أحوى "، ثم يذوي وييبس فإذا هو " غثاء ".
واتجه الخطاب الإلهي بعد ذلك إلى خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، ممتنا عليه بأن الله تعالى قد تعهد بإقرائه الذكر الحكيم، كما تعهد سبحانه بإعانته على حفظ آياته البينات، إثر تلقيها له، دون أن يقرب ساحته ذهول ولا نسيان:{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} .
وقوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} ، جار على مقتضى الأدب مع الله، على حد قوله تعالى في آية أخرى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الإنسان: 30)، وقوله تعالى:{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (المدثر: 56)، وقوله تعالى في آية ثالثة:
{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الكهف: 23، 24)، فمشيئة الله فوق كل شيء، وهي الضمان الأول والخير لكل شيء.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} ، تذكير للمؤمنين بوجوب مراقبة الله، ولزوم استشعار ضمائرهم لمراقبته الدائمة باستمرار، فذلك عون لهم على التمسك بالاستقامة، والاعتصام بالتقوى، " والإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " كما في الحديث الشريف.
ثم بشر الحق سبحانه رسوله خاتم الأنبياء والمرسلين ببشرى عظيمة لا تعدلها بشرى، ألا وهي تيسيره " لليسرى ":{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} ، وهذه البشرى مزدوجة، بشارة بما يرافق حياته صلى الله عليه وسلم وحياة أمته من لطف وعناية وتيسير، وبشارة بما يميز شريعته من سماحة وبعد عن كل حرج أو تعسير، على حد قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185). جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما). وروى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن هذا الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه " وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يسّروا ولا تعسّروا ".
وانتقلت الآيات الكريمة إلى تحديد مهمة الرسول عليه السلام، وأنها لا تتجاوز - بالنسبة للمعاندين- مجرد تبليغ الرسالة
والتذكير بها، أما ثمرة التبليغ ونتيجة الدعوة فأمرهما موكول إلى الله، فمن اختار لنفسه طريق السعادة والهدى أقبل على دعوته واتعظ بها، ومن اختار لنفسه الشقاء والضلال تجنبها، وأقفل قلبه دونها، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} .
ثم وصف كتاب الله " مصير " الشقي الذي لم ينفذ نور الإيمان إلى قلبه، وأنه سيعذب في جهنم عذابا لا يتمتع خلاله بنعمة الحياة، ولا ينعم أثناءه براحة الموت، إذ يكون حيا وميتا في آن واحد، فقال تعالى:{الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} .
وبين كتاب الله طريق الفوز والفلاح، لمن أراد سلوكه من أهل التقوى والصلاح، فقال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ، بمعنى أن الفائز برضوان الله هو من أدى ما عليه من حقوق لله، وحقوق لعياله، إذ أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله " كما في الحديث الشريف.
" فحق الله " يؤديه بالذكر والصلاة، وما ناسبهما، و " حق الخلق " يؤديه بالصدقة والزكاة وما شابههما، قال قتادة في تفسير هذه الآية:" قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى "، أي: زكى ماله، وأرضى خالقه، وقال أبو الأحوص: " إذا أتى أحدكم سائل وأنت تريد الصلاة، فلتقدم بين يدي صلاتك زكاة، فإن الله يقول:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ، وروي عن أمير
المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر، ويتلو هذه الآية:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ، وقال ابن كثير:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} ، أي: طهر نفسه من الأخلاق الرذيلة، وتابع ما أنزل الله على رسوله، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} ، أي: أقام الصلاة في أوقاتها، ابتغاء رضوان الله وامتثالا لشرع الله.
ثم اتجه الخطاب الإلهي إلى الذين أسرتهم شهوات الحياة الدنيا، وأغرتهم ملذاتها فنسوا ما وراءها، فقال تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} ، إشارة إلى أن حسن التدبير، وسلامة التفكير، لا ينصحان من له مسكة من العقل بإيثار ما يفنى على ما يبقى، وإيثار ما يزول ويبيد على ما يخلد ويدوم، بل إنهما لينصحانه بأخذ نصيبه من الدنيا، والتزود لنصيبه في الآخرة، إن لم ينصحاه بإيثار آخرته على دنياه، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201).
وخُتمت سورة " الأعلى " المكية بالإشارة إلى ما بين الرسالات الإلهية من توافق وتلاحم وتكامل وصلة رحم، فهذه التوجيهات الإلهية التي تضمنها الذكر الحكيم قد سبق أن نزلت بمضمونها ومحتواها صحف موسى وإبراهيم، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} ، وقد سبق في سورة " النجم " إشارة أخرى لصحف إبراهيم وموسى في قوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (النجم: 36، 37).
روى الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود وابن ماجة في سننهما، أنه لما أنزلت:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة: 74)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعلوها في ركوعكم " فلما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ، قال:" اجعلوها في سجودكم ".
ومن هنا ننتقل إلى سورة " الغاشية " المكية أيضا مستعينين بالله.
و" الغاشية " من أسماء يوم القيامة، سميت بذلك لأنها تغشى الناس وتعمهم كما قال ابن عباس وغيره، وقد تصدت الآيات الكريمة في صدر هذه السورة لوصف مشاهد يوم القيامة وأهوالها، وما يكون عليه الخلق عند حشرهم في عرصاتها، فقال تعالى:{بسم الله الرحمن الرحيم هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" نعم. قد جاءني "، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} ، أي: هناك طائفة من الناس تعلو وجوههم - يوم القيامة- الذلة والكآبة، {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} ، " عاملة " أي: علمت عملا أحبطه الله فلم يقبله منها ولم ينفعها به، فهي من الأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، " ناصبة " أي: هي يوم القيامة في نصب وتعاسة وشقاء، بالعذاب الأليم الذي تتلقاه، لأنها لم تقدم بين يديها عملا صالحا يقبله الله ويثيبها عليه:{تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} ، أي: من عين بلغت
أعلى درجة في الحرارة والغليان، كما قال ابن عباس وغيره {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} ، و " الضريع " شجر شائك مسموم، وقال قتادة " هو شر الطعام وأبشعه وأخبثه ".
وهناك طائفة أخرى من الناس يظهر على وجوهها أثر النعمة يوم القيامة، وهي طائفة السعداء من المقربين والأبرار، وفي وصفها يقول الله تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} ، أي: أنها راضية عن عملها الذي وفقها الله إليه وقدمته بين يديها، {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} ، أي: لا لغو فيها ولا تأثيم، على حد قوله تعالى في آية أخرى:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} (الواقعة: 25، 26)، ثم قال تعالى:{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} ، وهذا من باب التمثيل والتقريب، إذ فيها " ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ".
ثم أخذ كتاب الله يعرض ما أنعم به سبحانه على الإنسان، وما أبدع صنعه في مختلف الأكوان، تذكيرا بما له سبحانه من الفضل والإحسان، وتنبيها على أن هذه النعم تستحق أن تقابل بالشكر والامتنان، لا بالجحود والكفران، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ، وإنما ذكرت " الإبل " في هذا السياق من الآيات، لأنها فعلا من
عجائب المخلوقات، فقد ميزها الله تعالى على غيرها بعينين وأذنين ومنخرين لا يوجد لهما نظير عند بقية الحيوانات، لا في شكلهما ولا في وظيفتهما، كما زودها بقوائم طويلة وأقدام منبسطة جعلت منها " سفينة الصحراء " التي تنقل الإنسان وتحمل الأثقال، على امتداد العصور والأجيال مع استغنائها عن الماء لمدة شهرين متتاليين في فصل الشتاء وتحملها وطأة العطش في فصل الصيف، وحملها لكتل من الشحم في سنامها فوق ظهرها، دفعا لغائلة الجوع عنها، وضمانا لاستمرار سيرها.
وخُتمت سورة " الغاشية " بخاتمة تريح ضمير الرسول عليه السلام، وتحدد مهمته في الاقتصار على تبليغ الرسالة إلى الخلق، وإقامة الحجة عليهم، حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وذلك قوله تعالى:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} على غرار قوله تعالى في آية ثانية: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45)، وقوله تعالى في آية ثالثة:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (الرعد: 40)، وفي ذلك تخفيف عن الرسول ومواساة له من ربه، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحزن حزنا شديدا عندما يرى الضالين مصرين على ضلالهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى في (سورة الشعراء: 3): {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} .
ولننتقل الآن إلى سورة " الفجر " المكية أيضا، وفي مطلع هذه السورة قسم عظيم بأوقات العبادات، وأنواع من القربات،
التي يتقرب بها إلى الله عباده المتقون، وذلك قوله تعالى:{بسم الله الرحمن الرحيم وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} ، أما " الفجر " فمعناه واضح، وأما " الليالي العشر " فالمراد بها عشر ذي الحجة كما قال ابن عباس وغيره، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعا:(ما من أيام، العمل الصالح أحب إلى الله فيهن، من هذه الأيام)، يعني عشر ذي الحجة، وأما " الشفع والوتر " فهي الصلاة، بعضها شفع وبعضها وتر، كما رواه أحمد في مسنده مرفوعا.
وقوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} ، أي: لذي عقل ولب، وإنما سمي العقل " حجرا " لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال.
وانتقلت الآيات الكريمة إلى التذكير بمصرع عاد وثمود وفرعون، جزاء كفرهم وعنادهم وتمردهم على الله:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} .
ثم تحدث كتاب الله عما يداخل الإنسان من زهو بنفسه إذا ناله رخاء، وعما يشعر به من هوان إذا نزلت به شدة، فقال تعالى:{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} ، ورد
الحق سبحانه على الإنسان حتى لا يعتقد هذا الاعتقاد السخيف، فقال تعالى:{كَلَّا} ، أي: ليس الأمر أمر إكرام ولا إهانة كما يزعم الإنسان، فإن الله تعالى يوسع الرزق لمن يحبه ومن لا يحبه، ويضيق الرزق على من يحبه ومن لا يحبه، على حد قوله تعالى في آية أخرى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} (المؤمنون: 55، 56). وكل ذلك منه سبحانه ابتلاء واختبار وامتحان، لمبلغ ما عند الإنسان من ثقة بالله وإيمان.
وانتقد كتاب الله ما عليه أشرار الخلق من الأثرة والأنانية، وقسوة القلب، والتلهف على كسب المال من أي وجه كان، وما هم عليه من شح وبخل وإهمال للبر والإحسان، فقال تعالى:{بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} ، وابتدأ كتاب الله هنا بذكر " اليتيم "، إشارة إلى رعاية الإسلام رعاية خاصة لليتامى لكونهم فقدوا الحنان الأبوي الذي لا يعوضه شيء، ولذلك أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم باليتامى، وبشّر من يكفلهم خير كفالة بمرافقته في الجنة جنبا لجنب، فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود في سننه:(أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، وقرن بين إصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام.
ثم عاد كتاب الله إلى الحديث عن فناء العالم وقيام الساعة، وحشر الخلائق للحساب، إما للعقاب وإما للثواب،