الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الستين
بالمصحف الكريم (ت)
عباد الله
موضوع حديث اليوم تفسير الثمن الثاني من الربع الثالث في الحزب الستين بالمصحف الكريم، ويشتمل هذا الثمن على سورة "البينة" وسورة "الزلزلة" وسورة "العاديات"، وبداية هذا الثمن قوله تعالى في فاتحة سورة "البينة":{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، ونهايته قوله تعالى في سورة "العاديات":{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} .
ــ
أول ما تتحدث عنه سورة " البينة " هو التعريف بموقف الكافرين والمشركين من رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين، ذلك الموقف المضطرب المتناقض، فقد كان أهل الكتاب على أثارة من العلم بالرسول " الخاتم "، وكان المشركون يبررون ما هم عليه بعدم إرسال رسول إليهم مثل غيرهم، فلما جاءهم رسول من عند الله جحدوا الرسالة وكذبوا الرسول، وبدلا من أن يتدبروا ما جاء به من الآيات البينات، وينصرفوا عما هم عليه من فاسد المعتقدات، حسبما كان منتظرا، أصروا على ما هم فيه من الضلال، ولم ينفكوا عن المماحكة والجدال، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:
وتعريفا " بالبينة " التي جاء بها الرسول، وتأكيدا لأن ما جاء به كله دلائل واضحة وبراهين ساطعة من المحسوس والمعقول، قال تعالى:{رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً} ، أي: يقرأ عليكم صحفا منزهة عن كل المطاعن والشبهات، {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} ، أي: فيها آيات مكتوبة كلها ناطقة بالحق، مستقيمة لا عوج فيها، على غرار قوله تعالى في سورة (الكهف: 1): {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} .
ثم خص كتاب الله بالذكر " أهل الكتاب " من اليهود والنصارى لعظم مسؤوليتهم، فقد كانوا على علم بظهور الرسول " الخاتم " والرسالة " الخاتمة "، وكانوا يبشرون المشركين ببعثته ورسالته، مبينا ما آل إليه أمرهم بعد ظهور الرسول والرسالة من الجحود والإنكار، والحسد والاستكبار، مما كان له أثر كبير على المشركين في التمسك بشركهم، اقتداء بتمسك الكافرين بكفرهم، فقال تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} ، والمراد " بتفرقهم " تفرقهم عن الحق، أو تفرقهم فرقا، فمنهم من آمن، ومنهم من أنكر، ومنهم من عرف الحق وعاند.
وانتقل كتاب الله إلى التذكير بمضمون الدعوة الإسلامية،
والتعريف بجوهرها وفحواها، وأنها دعوة جامعة للناس أجمعين، إلى عبادة الله وحده، وإنفراده بالطاعة والعبودية، وأداء حقوق الله -وعلى رأسها إقامة الصلاة- وأداء حقوق العباد - وعلى رأسها إيتاء الزكاة- مع الإخلاص لله في القول والعمل، والابتعاد عن كل ما هو باطل وفاسد، نية واعتقادا، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى، مذكرا أهل الكتاب بما أمروا به في الكتب المنزلة:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} ، أي: لا يميلون إلى الباطل من قريب ولا من بعيد، {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} ، ثم قال تعالى منوها بدين الحق والمبادئ السامية التي يدعو إليها:{وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} ، أي: ذلك دين الملة المستقيمة، ودين الشريعة المستقيمة.
وتولى كتاب الله في هذا السياق التعريف " بخير الخلق "، والتعريف " بشر الخلق "، وما يكون عليه كلا الفريقين في الدنيا والآخرة من حق أو باطل، وسعادة أو شقاء، فقال تعالى واصفا لحال الأشرار في كل عصر:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} ، أي: هم شرار الخلق، وقال تعالى واصفا لحال الأخيار في كل جيل:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} ، أي: هم خيار الخلق، {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} ، أي: جنات استقرار وإقامة ودوام، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ، أي: مقيمين فيها باستمرار، {رضي الله عنهم} ، أي: حقق لهم جميع الأماني، ثم خلع
عليهم رداء الرضوان الذي لا سخط بعده أبدا، {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 72)، {وَرَضُوا عَنْهُ} ، أي: رضوا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا، وشكروا إحسان الله إليهم، ونعمه عليهم، {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} ، أي: إن هذا الجزاء الحسن إنما يناله من اتقى الله حق تقواه، وعبده كأنه يراه، وعلم أنه إن لم يره فإنه يراه.
وبعد الانتهاء من سورة " البينة " المدنية تستقبلنا سورة " الزلزلة " وهي مكية على الأرجح، وهذه السورة تصور حالة الإنسان، وما يكون عليه من الذهول والفزع عندما تقوم الساعة، التي هي " يوم الفزع الأكبر "، ويحشر الناس من كل مكان للجزاء والحساب، والثواب والعقاب، وذلك قوله تعالى بعد البسملة:{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} ، أي: إذا زلزلت الأرض زلزالها الذي لم يسبق له مثيل، وأضيف " الزلزال " إلى " الأرض " لأنه " زلزال كلي " يعم الكوكب الأرضي بأسره من أدناه إلى أقصاه، لا " زلزال جزئي " يخص جانبا منه دون آخر. {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} ، أي: لفظت ما في جوفها من الدفائن والخزائن، والكنوز والمعادن، وألقت ما في بطنها من أفلاذ كبدها، وحشرت مختلف الأحياء الذين يوجدون بها إلى سطحها. {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} ، أي: أن الإنسان على العموم يفاجأ بما يواجهه من أحوال وأهوال لم يسبق له أن عاينها من قبل، " وليس الخبر كالعيان "، " فالمؤمن بالبعث " إنما يتساءل متعجبا مما يراه من الهول العظيم، و " الكافر بالبعث " يتساءل مستنكرا قيام الساعة نفسه، لأنه كان
يعتقد أنه مجرد أسطورة من أساطير الأولين، الأول يقول:{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (يس: 52)، والثاني يقول:{يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} (يس: 52).
وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} ، فسره ابن مسعود والثوري وغيرهما بأن يخلق الله في الأرض نفسها حياة وإدراكا، فتشهد بما عمل عليها من صالح أو فاسد، وفسره ابن جرير وغيره بإحداث الله تعالى في الأرض أحوالا تقوم مقام التحديث باللسان، حتى ينظر من يقول:" مالها "؟ إلى تلك الأحوال، فيعلم أن هذا هو ما كان الأنبياء ينذرون به ويحدثون عنه، ومعنى الآية عند الزمخشري:" تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث "، ومعنى {أَوْحَى لَهَا} ألهمها، أو أذن لها.
وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} ، أي: ليحاسبوا، يمكن تفسيره على وجهين كلاهما صحيح: -الوجه الأول - يصدر الناس عن مخارجهم من القبور إلى موقف الحساب، فرادى، كل واحد وحده لا ناصر له ولا معين، مصداقا لقوله تعالى:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الأنعام: 94). - والوجه الثاني - يصدر الناس عن موقف الحساب متفرقين حسب أعمالهم، بين سعيد يؤمر به إلى الجنة، وشقي يؤمر به إلى النار. وقال السدي:" أشتاتا "، أي، فرقا.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} ، أي: يره في كتاب حسابه ويسره ما يراه، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} ، أي:
يره في سجل حسابه ويحزنه ذلك، وفي الأثر:" من زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة دخل الجنة ". وروى أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ".
والآن وقد فرغنا من تفسير سورة " الزلزلة " نستعين بالله على تفسير سورة " العاديات " المكية، وهي ثالث وآخر سورة في هذا الثمن، وفي مطلعها قسم من الله عظيم، بالخيل التي جعلها الله قوة للجهاد في سبيله، والدفاع عن دينه، فكانت عدة الفتوحات الإسلامية في مختلف بقاع الأرض، وذلك قوله تعالى بعد البسملة:{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} ، أقسم بخيل الغزاة المجاهدين في سبيل الله، " العاديات ضبحا "، أي: التي تجري وتعدو عند سيرها، و " تضبح " أثناء عدوها، و " الضبح " هو الصوت الذي يسمع من جوف الخيل حين تعدو، " الموريات قدحا "، أي: التي ينقدح الشرر من حوافرها إذا أصابت سنابكها الحجارة بالليل، " المغيرات صبحا " أي: التي تغير على الأعداء وقت الصباح، ولا تباغتهم في ظلام الليل، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير صباحا ويستمع الأذان، فإن سمع أذانا أمسك وإلا أغار.
وقوله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} ، وصف لما يقوم به فرسان الإسلام، وتقوم به خيلهم، من إثارة الغبار، عندما تقبل على ساحة المعركة، فتتوسط جموع الأعداء، وتخترق صفوفهم بكل شجاعة وحماس.
وقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} ، هذا هو الشيء المقسم عليه وجواب القسم، وكأن كتاب الله يريد أن يقول: إن نعم الله على الإنسان لا يحصيها عد، وفي مقدمتها تمكينه من وسائل القوة والظفر، وتسخير الحق سبحانه وتعالى له طاقات الحيوان والبشر، وبالرغم من ذلك فإن الإنسان يتنكر لنعم الله، ويصرفها في غير محلها، ويتصرف فيها تصرف المستهترين السخفاء، والطغاة السفهاء، فمعنى قوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} ، إنه لجاحد لنعمة ربه، كافر بها، غير شاكر لها، وقال الحسن:" الكنود هو اللائم لربه الذي يعد المصائب، وينسى نعم الله عليه "، ومعنى قوله تعالى:{إِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} ، إن الجاحد لنعمة الله ليشهد على جحود نفسه بنفسه، إذ لا يستطيع تكذيب ما ينطق به لسان حاله، وما يتجلى في أقواله وأفعاله، ومن ذلك قول الشاعر:" فكل إناء بالذي فيه ينضح "، ومعنى قوله تعالى:{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} ، إن الإنسان تميل نفسه إلى حب المال، والبخل به، والشح في إنفاقه، و " الخير " هنا بمعنى المال، على غرار قوله تعالى في سورة (الفجر: 20): {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} . قال ابن كثير: " وفي معنى هذه الآية مذهبان: أحدهما: أن المعنى، وإنه لشديد المحبة للمال، والثاني: أن المعنى وإنه لحريص بخيل، من أجل محبته للمال، وكلاهما صحيح ".