الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب السابع والخمسين
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موضوع حديث اليوم م تفسير الربع الأول من الحزب السابع والخمسين من المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى في فاتحة سورة "الملك" المكية:{بسم الله الرحمن الرحيم تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، ونهايته قوله جل علاه في سورة "القلم" المكية أيضا؛ {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ} ، وفي هذا الربع سنتناول بحول الله وقوته تفسير سورة "الملك" المكية بأكملها، وتفسير جزء من سورة "القلم" المكية أيضا.
ــ
وسورة " الملك " تدعو إلى التأمل في الحياة والموت وما وراءهما، وتبعث على التفكير في العالم العلوي، والتملي من مظاهر الإبداع الإلهي، المبثوتة في آفاقه الواسعة، وتحدو أسراء الحس إلى استبطان دخائل نفوسهم، والاهتمام بمراقبة ضمائرهم، علاوة على ضبط حواسهم، وتحض على التفكير في مصدر الرزق، وما يتعرض له من سعة وضيق، وإمساك وإطلاق، وهي إلى جانب هذا كله تصف حال المؤمنين وحال الكافرين، ومصير المهتدين ومصير الضالين.
وقد تفرعت آيات هذه السورة كلها عن فاتحتها المتضمنة لحقيقة " الملك " وحقيقة " القدرة " إذ قال تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
فمن " الملك " ومن " القدرة " كان خلق الموت والحياة، وكان الابتلاء بهما، وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح، وكان العلم بالسر والجهر، وكان الرزق كما يشاء الله، ومتى شاء، وكان عذاب الكافرين، وكان نعيم المؤمنين.
فقوله تعالى: {تَبَارَكَ} ، إشارة إلى زيادة بركة الله ومضاعفة نعمته، وشمول رحمته، وذلك نوع من تمجيد الله، والتسبيح باسمه.
وقوله تعالى: {الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ، تذكير لكافة الخلائق، ولا سيما الإنسان، بأن الله تعالى هو وحده الذي يملك -على وجه التحقيق- التصرف الكامل الشامل، في جميع أجزاء الكون، بكل ما فيه، من رقاب ومنافع، وناطق وأعجم، وحي وجامد، وشاهد وغائب، وهو الذي له الملك الحقيقي في الدنيا، والمنفرد بالملك في الآخرة.
وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، تذكير لكافة الخلائق، ولا سيما الإنسان، بأن الله تعالى هو وحده الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه سبحانه قادر على أن يرفع الإنسان إلى " أعلى عليين " إذا ائتمر بأمره وانتهى بنهيه،
وقادر على أن يرده " أسفل سافلين " إذا خالف عن أمره وأعرض عن وحيه.
وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ، تأكيد لما له سبحانه من سلطان شامل كامل على خلقه، وتصرف حر مطلق فيهم من البداية إلى النهاية، فهو سبحانه وحده الذي ينشئهم من العدم، وينفخ فيهم روح الحياة متى شاء، وهو سبحانه وحده الذي يوقف فيهم تيار الحياة ويطفئ مصابيحها في اللحظة التي يريد، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (الأنبياء: 23)، {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} (الطلاق: 3)، {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} (المنافقون: 11). وما دام الإنسان غير قادر على أن يقدم موعد قدومه إلى عالم الأحياء، وغير قادر على أن يؤخر موعد سفره من هذا العالم إلى الوقت الذي يشاء، فهو عاجز كل العجز، ومقهور كامل القهر، وإن ادعى من القدرة والسطوة لنفسه أكبر نصيب.
وقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ، بيان لحكمة الله في خلق الإنسان، وفي تزويده بملكة العقل والتمييز والاختيار، ذلك أن الله تعالى يريد أن يبرز لكل إنسان ما في نفسه من طاقات كامنة، ومن استعدادات للخير والشر، ومن قدرة على اختيار الهدى أو اختيار الضلال، والإنسان لا يكتشف نفسه على حقيقتها إلا عندما تكون وسائل العمل حاضرة بين يديه، وأجهزة التنفيذ متوافرة لديه، وإذ ذاك يتضح اختياره، وتنكشف أسراره، ويتحمل مسؤولية عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فالله تعالى لم يخلق الإنسان عبثا، ولم يتركه سدى، وإنما خلقه ليقوم بدور
مرسوم له في هذه الأرض، وهذا الدور هو الخلافة عن الله في عمارتها وصلاحها، وإقامة شريعة العدل والحق بين أهلها، ومجال السباق فيها مفتوح على مصراعيه أمام المتسابقين " والعاقبة للمتقين ".
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} ، إشارة إلى أن الحق سبحانه وإن كان " عزيزا غالبا " منيع الجناب، فإنه سبحانه يصفح عن الذنوب ويغفر الخطايا لمن تاب إليه وأناب.
وانتقل كتاب الله إلى التحدث عن آثار قدرته، ومظاهر حكمته، فأشار إلى ما خلقه الله من السبع الطباق، وما تميزت به من الضبط الذي لا خلل معه، والنظام الذي لا فوضى بعده، ووجه كتاب الله الدعوة مكررة إلى الإنسان، ليتذكر " صنع الله " في السماوات، ويرى هل يكتشف في صنعه بعض النقائص والآفات، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} ، أي: طبقات على أبعاد متفاوتة، {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} ، أي لا عيب فيه ولا خلل ولا تنافر، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} ، أي: هل ترى من شقوق وخروق، {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} ، أي: مرتين، مرة بعد أخرى، {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} ، أي: كليل من الإعياء بعد تكرار النظر، دون اكتشاف أي نقص، {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} ، أي: زينا السماء القريبة إلى الأرض، بالكواكب والنجوم الظاهرة للعين، {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} ، أي: جعلنا جنس المصابيح رجوما للشياطين، وذلك في صورة " شهب "
كما جاء في سورة (الصافات: 6، 10)، {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ * إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} ثم قال تعالى:{وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} ، أي: علاوة على الشهب التي يرجم الله بها الشياطين في الدنيا أعد الله لهم في الآخرة عذاب جهنم. وتحذيرا من استعمال " علم الفلك والتنجيم " استعمالا سيئا قال قتادة: " إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال، خلقها الله زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به " وهذه الخصال الثلاث التي ذكرها قتادة لا تمنع وجود خصال أخرى وأسرار كبرى يكشف الله عنها لمن يشاء، في الوقت الذي يشاء.
وانتقل كتاب الله، من الإشارة إلى رجم الشياطين بالشهب في الدنيا وعقابهم بعذاب جهنم في الآخرة، إلى الحديث عن " أولياء الشياطين " من الكفار، وما ينتظرهم من العقاب الشديد والعذاب الأليم، واصفا شهيق جهنم وغيظها من كفرهم وعنادهم، واستقبال خزنتها لهم أسوأ استقبال، فقال تعالى:{وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} ، أي: صياحا، {وَهِيَ تَفُورُ} ، أي تغلي بهم، {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} ، أي: تكاد تتمزق من شدة حنقها عليهم، {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} ،
وذلك لإقامة الحجة عليهم، {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} ، أي: أنهم عادوا على أنفسهم باللوم، وندموا حيث لا ينفعهم الندم.
ثم تحدث كتاب الله عن مراقبة الله في " الغيب "، تلك المراقبة الدقيقة التي لا يتم الإيمان بالغيب دونها، وهي أن ينكفّ المؤمن عن معصية الله، وإن كان لا يراه أحد، وأن يقوم بطاعة الله، وإن كان لا يشاهده أحد، " كمن دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، وكمن تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " فاستحقا أن يكونا من " السبعة الذين يظللهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله "، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين. وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى هنا:{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
وامتَنَّ كتاب الله على عباده بالأرض التي سخرها لهم، وأعدها لانتفاعهم، إذ بارك فيها وقدر فيها أقواتها، ودعاهم إلى التمتع بما آتاهم من رزقه، فقال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} .
ثم أعاد كتاب الله الكرة مرة أخرى ليلفت نظر الإنسان إلى
أن جميع ما آتاه الله من النعم معرض للزوال والسلب، إن لم يقابله بالشكر والامتنان، والطاعة والإذعان.
- فهذه الأرض الذلول المستقرة، من الممكن أن يحل بها الخسف والاضطراب، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} .
- وهذه السماء التي ترسل " الغيث " من الممكن أن ترسل " ريحا حاصبا " تأتي على الأخضر واليابس، {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} .
- وهذا الرزق الذي لا يعيش بدونه الإنسان، من الممكن أن يمسكه الله عنه، فيعرضه للجوع والحرمان، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} .
- وهذا الماء الذي يشرب منه الناس ويسقون به الزروع والدواب، من الممكن أن " يغور "، ولا يجدوا منه قطرة واحدة ولو في أعماق الأرض، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} .
ومن هنا ننتقل إلى سورة " القلم " المكية أيضا، وفي مطلعها قسم من الله عظيم " بالقلم والكتابة "، تنويها بهما، وتبيينا لعظم منفعتهما، في حفظ العلم والدين، ونقل ثمرات الحضارة والتمدين، {بسم الله الرحمن الرحيم ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} .
- ثم تحدث كتاب الله عما أكرم به خاتم الأنبياء والمرسلين
من الخلق العظيم، وإنه لتنويه فوق كل تنويه، بمقام الرسول الكريم، فقال تعالى:{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، واتجه الخطاب الإلهي إلى نبيه، منبها إياه إلى رفض كل مساومة من طرف المشركين:{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} .
وسجل كتاب الله وصفا دقيقا لبعض أقطاب الشرك وزعماء الوثنية، وبذلك عرض على المسلمين نموذجا حيا من نماذج الخبال والضلال التي يصادفونها في حياتهم، والتي يجب أن يتجنبوها كل التجنب، ويمقتوها كل المقت، فقال تعالى:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .
- فهو " حلاف "، أي كثير الحلف، ولا يكثر الحلف إلا الكاذب.
- وهو " مهين "، أي: لا يحترم نفسه ولا يحترم الناس.
- وهو " هماز "، أي: يهمز الناس ويعيبهم في حضورهم وغيبتهم.
- وهو " مشاء بنميم "، أي: يمشي بين الناس بما يفسد قلوبهم، ويقطع أرحامهم.
- وهو " مناع للخير "، أي: يمنع الخير عن نفسه وعن الناس.
- وهو " معتد "، أي " متجاوز للعدل وللحق باستمرار.
- وهو " أثيم "، أي: يرتكب المعاصي ويمارس الآثام على الدوام.
- وهو " عتل "، أي: غليظ جافي الطبع، لئيم النفس، سيء المعاملة.
- وهو " زنيم "، أي: مشهور بالخبث والشر إن لم يكن " ظنينا " في النسب.
وعقابا لهذا الصنف من المشركين ومن لف لفهم في سائر العصور والأجيال، عقب كتاب الله قائلا:{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} ، و " الخرطوم " طرف الأنف من الخنزير الوحشي، وذلك تلويح إلى ما هو أهل له من التحقير والتأنيب، والإهانة والتعذيب، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}. (فصلت: 46).