الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكمة الله في النسخ
الآن وقد عرفنا النسخ، وفرقنا بينه وبين ما يلتبس به، وأيدناه بالأدلة، ويجدر بنا أن نبين حكمة الله تعالى فيه، لأن معرفة الحكمة تريح النفس وتزيل اللبس، وتعصم من الوسوسة والدسّ، خصوصا في مثل موضوعنا الذي كثر منكروه وتصيدوا لإنكاره الشبهات من هنا وهناك.
ولأجل تفصيل القول في الحكمة نذكر أن النسخ وقع بالشريعة الإسلامية ووقع فيها.
على معنى أن الله نسخ بالإسلام كل دين سبقه، ونسخ بعض أحكام هذا الدين ببعض.
أما حكمته سبحانه في أنه نسخ به الأديان كلها، فترجع إلى أن تشريعه أكمل تشريع يفي بحاجات الإنسانية في مرحلتها التي انتهت إليها، وبعد أن بلغت أشدها واستوت، ذلك أن النوع الإنساني تقلّب كما يتقلب الطفل في أدوار مختلفة، ولكل دور من هذه الأدوار حال تناسبه غير الحال التي تناسب دورا غيره.
حتى إذا بلغ العالم أوان نضجه واستوائه، وربطت مدنيته بين أقطاره وشعوبه، جاء هذا الدين الحنيف، ختاما للأديان، ومتمما للشرائع، وجامعا لعناصر الحيوية ومصالح الإنسانية، ومرونة القواعد جمعا وفق بين مطالب الروح والجسد، وآخى بين العلم والدين، ونظم علاقة الإنسان بالله وبالعالم كله من أفراد وأسر وجماعات، وأمم وشعوب وحيوان ونبات وجماد، مما جعله بحق دينا عامّا خالدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!.
وأما حكمة الله في أنه نسخ بعض أحكام الإسلام ببعض فترجع إلى سياسة الأمة وتعهّدها بما يرقيها ويمحصها، وبيان ذلك أن الأمة الإسلامية في بدايتها حين صدعها الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته، كانت تعاني فترة انتقال شاقّ، بل كان أشق ما يكون عليها في ترك عقائدها وموروثاتها وعاداتها خصوصا مع ما هو معروف عن العرب الذين شوفهوا بالإسلام، من التحمس لما يعتقدون أنه من مفاخرهم وأمجادهم.
من هنا جاءت الشريعة إلى الناس تمشي على مهل متألفة لهم، متلطفة في دعوتهم، متدرجة بهم إلى الكمال رويدا رويدا، صاعدة بهم في مدارج الرقي شيئا فشيئا، متمشية مع
الإلف والمران والأحداث الجادة عليهم، لتسير بهم من الأسهل إلى السهل، ومن السهل إلى الصعب، ومن الصعب إلى الأصعب حسب أصول التربية، حتى تم الأمر ونجح الإسلام نجاحا لم يعرف مثله في سرعته وامتزاج النفوس به، ونهضة البشرية بسببه!
تلك الحكمة على هذا الوجه تتجلى فيما إذا كان الحكم الناسخ أصعب من
المنسوخ، كموقف الإسلام في سموه ونبله من مشكلة الخمر في عرب الجاهلية، وقد كانت مشكلة معقدة كل التعقيد، يحتسونها بصورة تكاد تكون إجماعية، ويأتونها لا على أنها عادة مجردة، بل على أنها أمارة القوة، ومظهر الفتوّة، وعنوان الشهامة! فقل لي بربك: هل كان معقولا أن ينجح الإسلام في فطامهم عنها لو لم يتألفهم ويتلطف بهم إلى درجة أن يمتن عليهم بها أول الأمر، كأنه يشاركهم في شعورهم.
وإلى حد أنه أبى أن يحرمها عليهم في وقت استعدت فيه بعض الأفكار لتسمع كلمة تحريمه حين سألوه صلى الله عليه وسلم: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [سورة البقرة آية: 219].
أما الحكمة في نسخ الحكم الأصعب بما هو أسهل منه، فهي التخفيف على الناس ترفيها عنهم وإظهارا لفضل الله عليهم ورحمته بهم، وفي ذلك إغراء لهم على المبالغة في شكره وتمجيده، وتحبيب لهم فيه وفي دينه.
وأما الحكمة في نسخ الحكم بمساويه في صعوبته أو سهولته، فالابتلاء والاختبار ليظهر المؤمن فيفوز، والمنافق فيهلك لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.
يبقى الكلام في حكمة بقاء التلاوة مع نسخ الحكم، وفي حكمة نسخ التلاوة مع بقاء الحكم.
أما حكمة بقاء التلاوة مع نسخ الحكم؛ فهي تسجيل تلك الظاهرة الحكيمة، ظاهرة سياسة الإسلام للناس، حتى يشهدوا أنه هو الدين الحق، وأن نبيه نبي الصدق، وأن الله هو العليم الحكيم، الرحمن الرحيم، يضاف إلى ذلك ما يكتسبونه من الثواب على هذه التلاوة، ومن الاستمتاع بما حوته تلك الآيات المنسوخة من بلاغة، ومن قيام معجزات بيانية أو علمية أو سياسية بها.
وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، فحكمته تظهر في كل آية بما يناسبها، وأنه لتبدو لنا حكمة رائعة في مثال مشهور من هذا النوع.
ذلك أنه صح في الرواية عن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب أنهما قالا: كان فيما أنزل من القرآن: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» أي كان هذا النص آية تتلى، ثم نسخت تلاوتها وبقي حكمها معمولا به إلى اليوم، والسر في ذلك أنها كانت تتلى أولا لتقرير حكمها، ردعا لمن تحدثه نفسه أن يتلطخ بهذا العار الفاحش من شيوخ وشيخات حتى إذا ما تقرر هذا الحكم في النفوس نسخ الله تلاوته لحكمة أخرى، هي الإشارة إلى شناعة هذه الفاحشة وبشاعة صدورها من شيخ وشيخة، حيث سلكها مسلك ما لا يليق أن يذكر فضلا عن أن يفعل، وسار بها في طريق يشبه طريق المستحيل الذي لا يقع، كأنه قال: