الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كانت لغة وأشد ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة، حملهم على حظهم بالسيف فنصب لهم الحرب ونصبوا له، وقتل من عليتهم وأعلامهم، وأعمامهم، وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج
عليهم بالقرآن ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه، إن كان كاذبا بسورة واحدة أو بآيات يسيرة، فكلما ازداد تحديا لهم بها، وتقريعا لعجزهم عنها تكشّف عن نقصهم ما كان مستورا، وظهر منه ما كان خفيّا، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا، قال: فهاتوها مفتريات فلم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر، ولا رغب فيه ليتكلفه، ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه، ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم، واستحالة لغتهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم، وكثرة من هجاه منهم وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته؛ لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله، وأفسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج من الأوطان وإنفاق الأموال.
أوجه الإعجاز
لما ثبت كون القرآن معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم، وجب الاهتمام بمعرفة أوجه الإعجاز وقد خاض الناس في ذلك كثيرا فبين محسن ومسيء.
فزعم قوم أن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات، وأن العرب كلفت في ذلك ما لا يطاق وبه وقع عجزها، وهو مردود لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يتصور التحدي به، والصواب ما قاله الجمهور أنه وقع بالدال على القديم وهو الألفاظ.
ثم زعم النظام: أن إعجازه بالصرفة: أي أن الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم، وكان مقدورا لهم، لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات، وهذا قول فاسد بدليل: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
…
[سورة الإسراء آية: 88]، فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره، هذا مع الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة إعجاز، بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله؟!
وأيضا- فيلزم من القول بالصرفة زوال الإعجاز بزوال زمن التحدي، وخلو القرآن من الإعجاز، وفي ذلك خرق لإجماع الأمة أن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم العظمى باقية ولا معجزة له باقية سوى القرآن الكريم.
قال القاضي أبو بكر: ومما يبطل القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزا وإنما يكون بالمنع معجزا فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه، قال: وليس هذا بأعجب من قول فريق منهم: إن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما تأخروا عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به، ولا بأعجب من قول آخرين: إن العجز وقع منهم، وأما من بعدهم ففي قدرته الإتيان بمثله وكل هذا لا يعتد به.
وقال قوم: وجه إعجازه ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة ولم يكن ذلك من شأن العرب.
وقال آخرون: ما تضمنه من الإخبار عن قصص الأولين وسائر المتقدمين حكاية من شاهدها وحضرها.
وقال آخرون: ما تضمنه من الإخبار عن الضمائر من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل كقوله: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [سورة آل عمران آية: 122]، وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ [سورة المجادلة آية: 8].
وقال القاضي أبو بكر: وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب ومباين لأساليب خطاباتهم، قال: ولهذا لم يمكنهم معارضته، قال: ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أودعوها في الشعر؛ لأنه ليس مما يخرق العادة بل يمكن استدراكه بالعلم والتدريب والتصنع به، كقول الشعر، ووصف الخطب، وصناعة الرسالة والحذق في البلاغة، وله طريق تسلك فأما شأو ونظم القرآن فليس له مثال يحتذى، ولا إمام يقتدى به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا، قال: ونحن نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن أظهر وفي بعضه أدق وأغمض.
وقال الإمام فخر الدين: وجه الإعجاز الفصاحة، وغرابة الأسلوب، والسلامة من جميع العيوب.
وقال ابن عطية: الصحيح الذي عليه الجمهور والحذاق في وجه إعجازه، أنه بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه، وذلك أن الله أحاط بكل شيء علما، وأحاط
بالكلام كله، فإذا ترتيب اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح، أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره، والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر لا يحيط بذلك، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيان بمثله فصرفوا عن ذلك، والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط ولهذا ترى البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولا، ثم ينظر فيها فيغير فيها وهلم جرا، وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها، لم يوجد ونحن يتبين لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة.
وقامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة، كما قامت الحجة في معجزة موسى بالسحرة، وفي معجزة عيسى بالأطباء، فإن الله إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير الذي هو أبدع ما يكون في زمن النبي الذي أراد إظهاره، فكان السحر قد انتهى في مدة موسى إلى غايته، وكذلك الطب في زمن عيسى والفصاحة في زمن محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال حازم في منهاج البلغاء: وجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا يوجد له فترة، ولا يقدر عليه أحد
من البشر، وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المعدود، ثم تعرض الفترات الإنسانية فينقطع طيب الكلام ورونقه، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه، بل توجد في تفاريق وأجزاء منه.
وقال الخطابي: إن القرآن إنما صار معجزا؛ لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، مضمنا أصح المعاني من توحيد الله تعالى، وتنزيهه في صفاته، ودعائه إلى طاعته، وبيان لطريق عبادته، من تحليل وتحريم وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها، واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعا أخبار القرون الماضية وما نزل منها من مثلات الله بمن مضى وعائدا منهم منبئا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الآتية من الزمان، جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا عليه وأدل على وجوب ما أمر به ونهى عنه، ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم
وتتسق أمر يعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله، ثم صار المعاندون له يقولون مرة: إنه شعر لما رأوه منظوما، ومرة: إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه، وقد كانوا يجدون له وقعا في القلوب، وقرعا في النفوس يرهبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف، ولذلك قالوا: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وكانوا مرة بجهلهم يقولون: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، مع علمهم أن صاحبهم أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب في نحو ذلك من الأمور، التي أوجبها العناد والجهل والعجز.
ثم قال: وقد قلت في إعجاز القرآن وجها، ذهب عنه الناس وهو صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا، إذا قرع السمع خلص منه إلى القلب من اللذة والحلاوة ما لا مثيل له.
قال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [سورة الحشر آية: 21].
وقال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [سورة الزمر آية: 23].
وقال القاضي عياض في «الشفا» : اعلم أن القرآن منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه:
الأول: حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب، الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن.
الثاني: صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب؛ المخالف لأساليب كلام العرب، ومنها نظمها ونثرها الذي جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آياته، وانتهت إليه فواصل كلماته ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، قال: وكل واحد من هذين النوعين الإيجاز والبلاغة بذاتها والأسلوب الغريب بذاته نوع إعجاز على التحقيق، لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما؛ إذ كل واحد خارج عن قدرتها، مباين لفصاحتها وكلامها، خلافا لمن زعم أن الإعجاز في مجموع البلاغة والأسلوب.
الثالث: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن فوجد كما ورد.
الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الدائرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة، إلا الفذ في أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم
ذلك، فيورده صلى الله عليه وسلم على وجهه ويأتي به على نصه، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، قال:
فهذه الوجوه الأربعة من إعجازه بينة لا نزاع فيها.
ومن الوجوه في إعجازه غير ذلك: آي وردت بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فعلوه ولا قدروا على ذلك كقوله لليهود: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [سورة البقرة آية: 94، 95] فما تمناه أحد منهم وهذا الوجه داخل في الوجه الثالث.
ومنها: الروعة التي تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم، والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته، وقد أسلم جماعة عند سماع آيات منه، كما وقع لجبير بن مطعم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب «بالطور» قال: فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [سورة الطور آية: 35 - 37] فقال: كاد قلبي أن يطير، قال: وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي، وقد مات جماعة عند سماع آيات منه أفردوا بالتصنيف.
ثم قال: ومن وجوه إعجازه كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع ما تكفل الله بحفظه.
ومنها: أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة، وترديده يوجب له محبة، وغيره من الكلام يعادى إذا أعيد ويمل مع الترديد، ولهذا وصف صلى الله عليه وسلم القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد.
ومنها: جمعه لعلوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب ولا أحاط بعلمها أحد في كلمات قليلة وأحرف معدودة، قال: وهذا الوجه داخل في بلاغته فلا يجب أن يعد فنّا مفردا في إعجازه، قال: والأوجه التي قبله تعد في خواصه وفضائله لا إعجازه وحقيقة الإعجاز الوجوه الأربعة الأول فليعتمد عليها. اه.