الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فترك العصر حتى خرج وقته مادام لم يصل إلى بني قريظة، ومنهم من تأول النص وحمله على الكناية في الإسراع فصلّى حين خاف فوات الوقت من قبل أن يصل إلى بني قريظة.
نقول: إن مثل هذا الخلاف حدث على عهد صاحب الرسالة وأقره، تيسيرا على المسلمين وإعلاما بأن الإسلام دين الكافة، يسع جميع البشر في كل العصور والأحوال، وشهد المسلمون بعد ذلك عصرا سعيدا كان أئمة الدين فيه يختلفون فيما بينهم كثيرا، ولكنهم كانوا بجانب هذا يتكارمون ويتعاونون ويتراحمون كثيرا.
وإن كنت في شك فاسأل التاريخ عن إكرام مالك للشافعي، واحترام الشافعي لأحمد بن حنبل، حتى ورد أنه كان يتبرك بغسالة قميصه، أي يتبرك الأستاذ الإمام بغسالة قميص تلميذه المخالف له في الرأي والاجتهاد! ثم سل التاريخ عن معاونة صاحب أبي حنيفة للشافعي، ودفعه إليه كتبه في كرم وحسن ضيافة وصدق محبة! ولا تنس إباء مالك على الخليفة العباسي أن يحمل الناس في بلاد الإسلام كلها على موطئه ومذهبه، ويعتذر إليه بأن الإسلام أوسع من موطئه ومذهبه، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلاد ولكلّ وجهة.
أرأيت هذا النبل والطهر؟ .. أجل .. أجل!! ولكنك يضيق بك الأسف حين ترى بجانبه فئات من المسلمين أيضا تراشقوا بالكفر، وتراموا بالشرك، وتقاذفوا بالتبدّع والهوى لمجرد تأويل يستسيغه النظر، ويتسع له صدر الاستدلال.
ثم اتسع الخرق على الراقع في بعض الظروف حتى دارت معارك طاحنة بين صفوف كلها مسلمة، وأريقت دماء ذكية كلها إسلامية! ولا نزال نشهد من مثل هذا الصراع القائم على التنطع مشاهد ما كان أغنانا عنها، وما كان أحرانا بالحذر منها، خصوصا بعد ما سمعنا من الآيات، وبعد أن أقر الرسول صلى الله عليه وسلم أمثال هذه الخلافيات وبعد أن قال في حديث واحد ثلاث مرات:«هلك المتنطعون» وهي كلمة صغيرة ولكنها كبيرة، تحذر وتنذر، وتمثل الهلاك جاثما بالتنطع بأشكاله وألوانه، في الأنفس والأعراض والأموال، وفي الجماعات والأفراد على سواء.
التفسير بالرأي وبيان ما يجوز منه وما لا يجوز
المراد بالرأي هنا الاجتهاد، فإن كان الاجتهاد موفقا؛ أي مستندا إلى ما يجب الاستناد إليه بعيدا عن الجهالة والضلالة، فالتفسير به محمود، وإلا فمذموم، والأمور التي يجب استناد الرأي إليها في التفسير نقلها السيوطي في الإتقان عن الزركشي فقال ما ملخصه:
للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة (يستمد منها تفسيره) أمهاتها أربعة:
الأولى: النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع التحرز عن الضعيف والموضوع.
الثانية: الأخذ بقول الصحابي، فقد قيل: إنه في حكم المرفوع مطلقا، وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه.
الثالثة: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلى ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب.
الرابعة: الأخذ بما يقتضيه الكلام وتدل عليه الأصول الشرعية، وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس في قوله:«اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» .
فمن فسر القرآن برأيه- أي باجتهاده- ملتزما الوقوف عند هذه الأصول معتمدا عليها فيما يرى من معاني كتاب الله؛ كان تفسيره سائغا جائزا خليقا بأن يسمى التفسير الجائز أو التفسير المحمود، ومن حاد عن هذه الأصول وفسرا القرآن غير معتمد عليها؛ كان تفسيره ساقطا مرذولا خليقا بأن يسمّى التفسير غير الجائز أو التفسير المذموم.
فالتفسير بالرأي الجائز: يجب أن يلاحظ فيه الاعتماد على ما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما ينير السبيل للمفسر برأيه، وأن يكون صاحبه عارفا بقوانين اللغة خبيرا بأساليبها، وأن يكون بصيرا بقانون الشريعة حتى ينزل كلام الله على المعروف من تشريعه.
أما الأمور التي يجب البعد عنها في التفسير بالرأي فمن أهمها: التهجم على تبيين مراد الله من كلامه على جهالة بقوانين اللغة أو الشريعة.
ومنها: حمل كلام الله على المذاهب الفاسدة.
ومنها: الخوض فيما استأثر الله بعلمه، ومنها: القطع بأن مراد الله كذا من غير دليل، ومنها: السير مع الهوى والاستحسان.
ويمكن تلخيص هذه الأمور الخمسة في كلمتين هما: الجهالة، والهوى.
وينبغي أن يعلم أن في القرآن علوما ثلاثة:
الأول: علم لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه، بل استأثر به وحده؛ كمعرفة حقيقة ذاته وصفاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو، وهذا النوع لا يجوز الكلام فيه لأحد إجماعا.
الثاني: ما أطلع الله عليه نبيه صلى الله عليه وسلم واختص به، وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له عليه الصلاة والسلام ولمن أذن له الرسول، قيل: ومنه أوائل السور.
الثالث: العلوم التي علمها الله لنبيه مما أمر بتبليغه، وهذا النوع قسمان: