الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المكي يشير في منظومته بقوله:
وما سوى ذاك مكيّ تنزّله
…
فلا تكن من خلاف الناس في حصر
فليس كل خلاف جاء معتبرا
…
إلا خلاف له حظ من النظر
وقد جرى هذا البيت مجرى الأمثال عند أهل العلم. اه.
إنزالات القرآن
شرّف الله هذا القرآن بأن جعل له ثلاثة إنزالات:
الإنزال الأول: إلى اللوح المحفوظ
،
ودليله قول الله سبحانه: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [سورة البروج آية: 21، 22]. وكان هذا الوجود في اللوح بكيفية لا يعلمها إلا الله تعالى، ثم من أطلعه الله على غيبه، وكان جملة لا مفرّقا؛ لأنه الظاهر من اللفظ عند الإطلاق ولا صارف عنه. ولأن حكمة تنجيم القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم لا يعقل تحقيقها في هذا الإنزال.
وحكمة هذا الإنزال، ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح نفسه، وإقامته سجلا جامعا لكل ما قضى الله وقدر، وكل ما كان وما يكون فهو شاهد ناطق، ومظهر من أروع المظاهر الدالة على عظمة الله وعلمه، وإرادته، وحكمته، وواسع سلطانه وقدرته.
الإنزال الثاني: كان إلى بيت العزة في السماء الدنيا
، والدليل عليه قول الله سبحانه:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [سورة الدخان آية: 3]، وقوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [سورة القدر آية: 1] وقوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [سورة البقرة آية: 185].
دلت هذه الآيات على أن القرآن أنزل في ليلة واحدة توصف بأنها مباركة أخذا من آية الدخان، وتسمى ليلة القدر أخذا من آية سورة القدر، وهي من ليالي شهر رمضان أخذا من آية البقرة. وإنما قلنا ذلك جمعا بين هذه النصوص في العمل بها، ودفعا للتعارض فيما بينها.
ومعلوم بالأدلة القاطعة- كما يأتي- أن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم مفرقا لا في ليلة واحدة، بل في مدى سنين عددا. فتعين أن يكون هذا النزول الذي ذكرته هذه الآيات الثلاث نزولا آخر غير النزول على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاءت الأخبار الصحيحة مبينة لمكان هذا النزول، وأنه في بيت العزة من السماء الدنيا. كما تدل الروايات الآتية:
1 -
أخرج الحاكم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: «فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم» .
2 -
وأخرج النسائي والحاكم والبيهقي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: «أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. ثم قرأ: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [سورة الفرقان آية: 33]. ووَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [سورة الإسراء آية: 106].
3 -
وأخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما من طريق منصور عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النجوم وكان الله ينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه في إثر بعض» .
4 -
وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال:
أوقع في قلبي الشك قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقوله:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وهذا أنزل في شوال، وفي ذي القعدة، وفي ذي الحجة، وفي المحرم، وصفر، وشهر ربيع. فقال ابن العباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام.
قال أبو شامة: رسلا: أي رفقا، وعلى مواقع النجوم: أي على مثل مساقطها.
يريد أنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة، ثم أنزل على مواقع النجوم مفرقا يتلو بعضه بعضا على تؤدة ورفق.
هذه أحاديث من جملة أحاديث ذكرت في هذا الباب، وكلها صحيحة كما قال السيوطي، وهي أحاديث موقوفة على ابن عباس غير أن لها حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لما هو مقرر من أن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه ولم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات، حكمه حكم المرفوع. ولا ريب أن نزول القرآن إلى بيت العزة من أنباء الغيب التي لا تعرف إلا من المعصوم صلى الله عليه وسلم، وابن عباس لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات، فثبت الاحتجاج بها وكان هذا الإنزال جملة واحدة في ليلة واحدة هي ليلة القدر كما علمت؛ لأنه المتبادر من نصوص الآيات الثلاث السابقة، وللتنصيص على ذلك في الأحاديث التي عرضناها عليك. بل ذكر السيوطي أن القرطبي نقل حكاية الإجماع على نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.
وهناك قول ثان بنزول القرآن إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين ينزل في كل ليلة قدر منها ما يقدر الله إنزاله في كل السنة، ثم ينزل بعد ذلك منجما في جميع السنة على النبي صلى الله عليه وسلم.