الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة الثالثة والتسعون: الورع
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فمن الصفات المحمودة التي حث عليها الشرع، ورغب فيها: الورع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وَأَمَّا الْوَرَعُ فَإِنَّهُ الإِمْسَاكُ عَمَّا قَدْ يَضُرُّ، فَتَدْخُلُ فِيهِ الْمُحَرَّمَاتُ وَالشُّبُهَاتُ، لأَنَّهَا قَدْ تَضُرُّ، فَإِنَّ مَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَات وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ»
(1)
.
(2)
أهـ. روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ
(1)
مجموع الفتاوى (10/ 615).
(2)
شرح رياض الصالحين (3/ 485 - 486).
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ»
(1)
.
وروى الحاكم في المستدرك من حديث سعد بن أبي وقاص: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَضْلُ العِلمِ أحبُّ إِلَيَّ مِنْ فَضْلِ العِبَادَةِ، وَخَيْرُ دِيْنِكُمُ الوَرَعُ»
(2)
.
وروى النسائي من حديث الحسن بن علي قال: حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»
(3)
.
وفي صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ البِرِّ وَالإِثْمِ؟ فَقَالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»
(4)
.
والورع بابه واسع يشمل الورع في النظر، والسمع، واللسان، والبطن، والفرج، والبيع، والشراء، وغير ذلك. ويكثر وقوع كثير من الناس في المحرمات والشبهات، بسبب تخلف هذه الأمور الثلاثة: الورع في اللسان، والبطن، والنظر، قال تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: 36]، وقال تعالى:{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]. قال الإمام أحمد بن حنبل:
(1)
صحيح البخاري برقم (52)، وصحيح مسلم برقم (1599) واللفظ له.
(2)
(1/ 283) برقم (320) وقال محققه: الحديث عندي أنه حسن، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، برقم (4214).
(3)
برقم (5711) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن النسائي (3/ 1153) برقم (5269).
(4)
برقم (2553).
«هو الرجل يكون في القوم فتمر به المرأة فيلحقها بصره»
(1)
.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيْهَا، يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ، أَبْعَدَ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ»
(2)
، ومعنى «مَا يَتَبَيَّنُ» أي: ما يتفكر فيها، ولا يتأملها هل هي خير أو شر؟
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْهَا، فَقَالَت: «أَحْمِي سَمْعِي، وَبَصَرِي، مَا عَلِمْتُ إِلَاّ خَيْرًا» ، قَالَت: وَهِيَ الَّتِي كَانَت تُسَامِيْنِي مِن أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَعَصَمَهَا اللهُ بِالوَرَعِ»
(3)
.
وقال وهيب بن الورد، ولو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك حلال أو حرام.
وقد كان عليه الصلاة والسلام إمام الورعين، فروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي لأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا لآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِهَا»
(4)
؛ لأن الصدقة محرمة عليه، وعلى أهل بيته.
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يقتفون أثره عليه السلام، ويتبعون سنته، فروى البخاري في صحيحه من حديث عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ لأَبِي بَكْرٍ غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَاكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ
(1)
الورع للمروذي (ص: 111).
(2)
صحيح البخاري برقم (6477)، وصحيح مسلم برقم (988) واللفظ له.
(3)
صحيح البخاري برقم (4750)، وصحيح مسلم برقم (2770).
(4)
البخاري برقم (2432)، ومسلم برقم (1070).
فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلَاّ أَنِّي خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ، فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ، فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ»
(1)
.
وروى البخاري في صحيحه من حديث نافع - يعني عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب قال: «كَانَ فَرَضَ لِلْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فِي أَرْبَعَةٍ، وَفَرَضَ لاِبْنِ عُمَرَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَخَمْسَمِئَةٍ، فَقِيلَ لَهُ: هُوَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَلِمَ نَقَصْتَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافٍ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا هَاجَرَ بِهِ أَبَوَاهُ. يَقُولُ: لَيْسَ هُوَ كَمَنْ هَاجَرَ بِنَفْسِهِ»
(2)
.
وقال عمر رضي الله عنه: «تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا»
(3)
، وقال عبد الله بن المبارك:«لأن أرد درهمًا واحدًا من شبهة، أحب إلي من أن أتصدق بمئة ألف» ، وكان عمر بن عبد العزيز تسرج له الشمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ أطفأها، وأسرج عليه سراجه، وقال لامرأته يومًا:«عندك درهم أشتري عنبًا؟ قالت: لا. قال: فعندك فلوس؟ قالت: لا، أنت أمير المؤمنين، ولا تقدر على درهم. قال: هذا أهون من معالجة الأغلال في جهنم» .
وتقدم كلام الشيخ ابن عثيمين أن الاشتباه على نوعين: اشتباه في الحكم، فلا يدري المؤمن هل هو من الحلال البين؟ أو من الحرام البين؟ فهذا أمثلته كثيرة جدًّا، لأنها تختلف باختلاف أفهام العلماء، فمنهم من يرى التحريم، ومنهم من يرى الحل، وقد يمثل لذلك ببعض
(1)
برقم (3842).
(2)
برقم (3912).
(3)
مصنف عبدالرزاق (8/ 152) برقم (14683).
المعاملات، والمساهمات المالية المنتشرة في هذه الأيام
(1)
.
الثاني الاشتباه في الحال، وقد يمثل لذلك بالدجاج المستورد من الخارج، فبعض العلماء يرى جوازه؛ لأنه من طعام أهل الكتاب، قال تعالى:{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]، وقد تبين لدى بعض طلبة العلم أن كثيرًا من هذا الدجاج يذبح بالصعق الكهربائي، أو غيرها من طرق الذكاة غير الشرعية، وهذا من المشتبه حاله، فالورع تركه.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن من تورع، وترك الشبهات، فإن الله يعوضه خيرًا مما فاته، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي قتادة، وأبي الدهماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلَّهِ عز وجل إِلَاّ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ»
(2)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
ولمزيد من التفصيل انظر كتاب "الأسهم المختلطة" للشيخ صالح العصيمي فقد أجاد فيه وأفاد.
(2)
سبق تخريجه.