الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة المئة وثلاث وثلاثون: تحريم الإسبال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
قال تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26].
فاللباس نعمة عظيمة من نعم الله الكثيرة على عباده لستر العورات، ووقاية من الحر والبرد وسائر الآفات، وقد جاءت الشريعة بأحكامه مفصلة، مبينة، وبينت القدر الواجب ستره، والمستحب من اللباس، والمحرم والمكروه والمباح مقدارًا وكيفية.
ومما وردت به تحريم ما نزل عن الكعبين من كل ما يلبس من إزار أو ثوب أو بشت أو سروال أو بنطال إلى غير ذلك، مما يلبسه الرجال، فقد روى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإِسْبَالُ فِي الإِزَارِ وَالْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ، مَنْ جَرَّ مِنْهَا شَيْئًا خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(1)
، وأحاديث النهي عن الإسبال بلغت مبلغ التواتر المعنوي في الصحاح والسنن والمسانيد، وغيرها، برواية جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم: ابن عباس، وابن عمر، وابن مسعود،
(1)
برقم (4094) وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 771) برقم (3450).
وأبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم، وجميعها تفيد النهي الصريح، نهي التحريم، لما فيها من الوعيد الشديد، ومعلوم أن كل متوعد عليه بعقاب من النار، أو غضب، أو نحوها، فهو محرم، وهو كبيرة من كبائر الذنوب، ولا يقبل النسخ، ولا يُرفع حكمه، بل هو من الأحكام الشرعية المؤبدة في التحريم.
والإسبال فيه عدة محاذير:
أولاً: مخالفة السنة، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إِلَى عَضَلَةِ سَاقَيْهِ
(1)
، ثُمَّ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، ثُمَّ إِلَى كَعْبَيْهِ، فَمَا كَانَ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي النَّارِ»
(2)
وفي رواية أخرى: «فَإِنْ أَبَيْتَ فَأَسْفَلَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَلَا حَقَّ لِلإِزَارِ فِي الْكَعْبَيْنِ»
(3)
، والكعبان هما العظمان الناتئان في جانبي مفصل الساق من القدم.
ثانيًا: الوعيد الشديد لمن أسبل إزاره تحت الكعبين، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ»
(4)
.
ثالثًا: أنه من الخيلاء التي تورث في النفس العجب، والترفع، والكبر، ونسيان نعمة الله على عبده، وكل هذا من موجبات مقت الله للمسبل، ومقت الناس له، قال تعالى:{إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
(1)
وعضلة الساقين هي حد أعلى من أنصاف الساقين بقليل.
(2)
(13/ 247) برقم (7857) وقال محققوه: حديث صحيح.
(3)
سنن الترمذي برقم (1783) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4)
برقم (5787).
رابعًا: التشبه بالنساء، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:«لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ»
(1)
.
خامسًا: تعريض الملبوس للنجاسة والقذر، والمؤمن مأمور باجتناب النجاسات، والبعد عنها، قال تعالى:{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]. ولهذا أمر عمر رضي الله عنه الرجل الذي زاره وهو على فراش الموت برفع إزاره، وقال له: هُوَ أَنقَى لِثَوبِكَ، وَأَتقَى لِرَبِّكَ
(2)
.
سادسًا: تعريض عبادته لعدم القبول، فقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود، عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَسْبَلَ إِزَارَهُ فِي صَلَاتِهِ خُيَلَاءَ، فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي حِلٍّ وَلَا حَرَامٍ»
(3)
(4)
.
(1)
برقم (5885).
(2)
صحيح البخاري برقم (3700) باب قصة البيعة - مقتل عمر بن الخطاب.
(3)
قال محمد شمس الحق العظيم آبادي: أي في أن يجعله في حل من الذنوب، وهو أن يغفر له، ولا في أن يمنعه ويحفظه من سوء الأعمال، أو في أن يحل له الجنة، وفي أن يحرم عليه النار، أو ليس هو في فعل حلال، ولا له احترام عند الله تعالى. عون المعبود (2/ 240).
(4)
برقم (637). قال أبو داود: روى هذا جماعة عن عاصم موقوفًا على ابن مسعود، منهم: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأبو الأحوص، وأبو معاوية، وصحح الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 126) برقم (595). وروى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة قال: بينما رجل يصلي مسبلًا إزاره إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذهب فتوضأ، فذهب فتوضأ، ثم جاء، ثم قال: اذهب فتوضأ، فذهب فتوضأ، ثم جاء، فقال له رجل: يا رسول الله، ما لك أمرته أن يتوضأ، ثم سكت عنه؟ فقال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره، وإن الله تعالى لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره)، قال المنذري في مختصره: في إسناده أبو جعفر، وهو رجل من أهل المدينة لا يعرف اسمه، قال النووي في رياض الصالحين بعد إيراده لهذا الحديث: رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم، (ص: 259) برقم (797).
سابعًا: إن الإسبال من الكبائر، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر الغفاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ» ، قَالَ: فَقَرَأَهَا رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثٍ مِرَارٍ. قَالَ أَبُوْ ذَرٍّ: خَابُوْا وَخَسِرُوَا، مَنْ هُمْ يَا رَسُوْلَ اللهِ؟ قَالَ:«المُسْبِلُ، وَالمَنَّانُ، وَالمُنْفِقُ سِلعَتَهُ بِالحَلِفِ الكَاذِبِ»
(1)
، قال الشيخ بكر أبو زيد: «فلهذه الوجوه السابقة
(2)
، ورد النهي مطلقًا عن الإسبال في حق الرجال، وهذا بإجماع المسلمين إن كان لخيلاء، فإن كان لغير الخيلاء فهو محرم مذموم»، فقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث جابر مرفوعًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الإِزَارِ، فَإِنَّ إِسْبَالَ الإِزَارِ مِنَ الْمَخِيلَةِ، وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمَخِيلَةَ»
(3)
.
وظاهره أن مجرد الإسبال يستلزم الخيلاء، ولو لم يقصد اللابس ذلك، إضافة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على المسبل إسباله دون النظر في قصده الخيلاء أم لا، فقد أنكر على ابن عمر، وجابر بن سليم، وعلى عمرو الأنصاري، فرفعوا أُزرهم إلى أنصاف سوقهم، وهذا يدل بوضوح على أن الوصف بالخيلاء، وتقييد النهي به في بعض الأحاديث إنما خرج مخرج الغالب، والقيد إذا خرج مخرج الأغلب، فإنه لا مفهوم له عند عامة الأصوليين كما في قوله تعالى:{وَرَبَائِبُكُمُ اللَاّتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]، ويستثنى من هذا
(1)
برقم (106).
(2)
ما تقدم مأخوذ من رسالة (حد الثوب والأزرة وتحريم الإسبال ولباس الشهرة) للشيخ بكر أبو زيد (بتصرف).
(3)
(34/ 238) برقم (20635) وقال محققوه: حديث صحيح.
الأصل ثلاث حالات:
الحالة الأولى: من لم يقصد الإسبال لعارض من نسيان أو استرخاء مع تعاهد له برفعه، كما جاء في حديث أبي بكر المشهور.
الحالة الثانية: من أسبل لمرض في قدميه، وللضرورة أحكامها.
الحالة الثالثة: النساء فقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم لهن بإرخاء ذيول ثيابهن لستر القدمين، وهما من عورة النساء
(1)
.
ومما سبق يتبين أن الإسبال في حق الرجال منهي عنه مطلقًا، وأنه في ذاته خيلاء، وان المسبل مرتكب لمحرم وكبيرة من كبائر الذنوب، معرض نفسه لعقوبة الله تعالى في الدنيا والآخرة
(2)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
سنن النسائي برقم (5336) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (3/ 1080) برقم (4929).
(2)
انظر: رسالة الشيخ بكر أبو زيد (حد الثوب والأزرة وتحريم الإسبال ولبس الشهرة)(ص: 22 - 24) بتصرف.