الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة المئة وخمس وأربعون: طلب العلم الشرعي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من أفضل العبادات، وأجل الطاعات التي حث عليها الشرع طلب العلم الشرعي، والمقصود بالعلم الشرعي، علم الكتاب والسنة، قال تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، وقال تعالى:{شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، وقال تعالى:{يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11].
روى البخاري ومسلم من حديث معاوية رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»
(1)
.
قال بعض أهل العلم: «من لم يفقه في الدين لم يرد به خيرًا» ، وروى أبو داود في سننه من حديث أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا، سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ، وَمَنْ فِي الأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ
(1)
البخاري برقم (71)، ومسلم برقم (1037).
الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ»
(1)
.
قال الأوزاعي: «الناس عندنا هم أهل العلم، ومن سواهم فلا شيء» ، وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:«حاجة الناس إلى العلم الشرعي أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب» . قال سفيان الثوري: من أراد الدنيا والآخرة فعليه بطلب العلم، وقال أبو جعفر الطحاوي: كنت عند أحمد بن أبي عمران فمر بنا رجل من بني الدنيا فنظرت إليه وشغلت به عما كنت فيه من المذاكرة، فقال لي: كأني بك قد فكرت فيما أُعطي هذا الرجل من الدنيا، قلت له: نعم، قال: هل أدلك على خلة؟ هل لك أن يحول الله إليك ما عنده من المال ويحول اليه ما عندك من العلم فتعيش أنت غنياً جاهلاً ويعيش هو عالماً فقيراً؟ فقلت: ما أختار أن يُحَوِّلَ اللهُ ما عندي من العلم إلى ما عنده فالعلم غنى بلا مال، وعز بلا عشيرة، وسلطانٌ بلا رجال، وفي ذلك قيل:
العلمُ كَنزٌ وذخرٌ لا نفادَ لهُ
…
نِعْم القرينُ إذا ما صَاحبَ صَحبا
قد يجمعُ المرءُ مالاً ثُمَّ يُحرَمُهُ
…
عما قليلٍ فيَلقَى الذلَّ والحَربَا
وجامِعُ العلمِ مغبوطٌ به أبداً
…
ولا يحاذرُ منه الفَوتَ والسَلبَا
يا جامعَ العلمِ نِعمَ الذُّخرُ تَجمَعُهُ
…
لا تَعْدلَنَّ به دُراً ولا ذَهَبَا
(2)
ومن فضائل هذا العلم: أنه يبقى أجره بعد انقطاع أجل صاحبه، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
برقم (3641) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/ 694) برقم (3096).
(2)
جامع الآداب لابن القيم، تحقيق: يسري السيد محمد (1/ 271 - 272).
(1)
.
ومنها: أن أهل العلم هم القائمون بأمر الله حتى تقوم الساعة، روى البخاري ومسلم من حديث معاوية رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَاتِيَ أَمْرُ اللهِ، وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ»
(2)
، روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال عن هذه الطائفة:«إن لم يكونوا من أهل الحديث فلا أدري من هم» .
قال عبد الله بن داود: سمعت سفيان الثوري يقول: إن هذا الحديث عز، فمن أراد به الدنيا وجدها ومن أراد الآخرة وجدها
…
وكان الشافعي إذا رأى شيخاً سأله عن الحديث والفقه، فإن كان عنده شيء وإلا قال له: لا جزاك الله خيراً عن نفسك ولا عن الإسلام، قد ضيعت نفسك وضيعت الإسلام
(3)
.
ومنها: أنه طريق عظيم إلى الجنة، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ»
(4)
.
ومنها: أن العالم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
صحيح البخاري برقم (3641)، وصحيح مسلم برقم (1037) واللفظ له.
(3)
جامع الآداب لابن القيم، تحقيق: يسري السيد محمد (1/ 271 - 273).
(4)
قطعة من حديث برقم (2699).
أَهْلِ الأَرْضِ؟ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِئَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ؟ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِئَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ »
(1)
.
ومنها: أن الله تعالى يقذف لأهل العلم الربانيين هيبة ومحبة، وتقديرًا في قلوب الناس، فتجد الألسن تتابع في الثناء عليهم، والقلوب تتفق على احترامهم وتقديرهم، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96].
ومنها: أن طلب العلم خير للمرء من متاع الدنيا، روى مسلم في صحيحه من حديث عقبة ابن عامر رضي الله عنه قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ:«أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَاتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟ » فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، نُحِبُّ ذَلِكَ. قَالَ:«أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَيَعْلَمَ أَوْ يَقْرَأَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عز وجل، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ»
(2)
.
ووسائل طلب العلم كثيرة، كحضور الدروس العلمية للعلماء والمشايخ، والمحاضرات العامة، والكلمات في المساجد، وقراءة الكتب النافعة، والاستماع إلى الأشرطة المفيدة، وسؤال أهل العلم عما أشكل، وحفظ كتاب الله فهو رأس العلوم كلها. ولله دَرُّ الشافعي عندما قال:
كل العُلُومِ سِوَى القُرآنِ مَشغَلَةٌ
…
إِلَاّ الحديثَ وعِلمَ الفِقْهِ فِي الدِّين
(1)
صحيح البخاري برقم (3470)، وصحيح مسلم برقم (2766) واللفظ له.
(2)
برقم (803).
العلمُ ما كان فيه قال حدثنا
…
وما سِوى ذَاكَ وسْوَاسُ الشَّياطِين
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة أن يرفع العلم، ويكثر الجهل، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا، وَأَضَلُّوا»
(1)
.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من علم لا ينفع، روى النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الأَرْبَعِ: مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ»
(2)
.
وروى ابن ماجة من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سَلُوا اللهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ»
(3)
.
ويجب على المسلم أن يطلب العلم الشرعي خالصًا لوجه الله، لا من أجل منصب، أو مال، أو عرض من الدنيا، روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ عز وجل، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَاّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، يَعْنِي: رِيحَهَا
(4)
.
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ
(1)
البخاري برقم (100)، ومسلم برقم (2673).
(2)
برقم (5467) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (3/ 1125) برقم (5110).
(3)
برقم (3843) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 327) برقم (3100).
(4)
برقم (3664) وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (2/ 697) برقم (3112).
الْكَثِيرِ، أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَاسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ»
(1)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
صحيح البخاري برقم (79)، وصحيح مسلم برقم (2282).