الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة المئة وخمسون: سورة الفاتحة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من سور القرآن العظيم التي نقرؤها في كل صلاة فرضًا ونفلاً: سورة الفاتحة، وهي أعظم سور القرآن، روى البخاري في صحيحه من حديث أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ:«أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: {اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]؟ ثُمَّ قَالَ لِي: لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ: لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، الَّذِي أُوتِيتُهُ»
(1)
.
وروى الترمذي في سننه من حديث أبي بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الإِنْجِيلِ، وَلَا فِي الزَّبُورِ، وَلَا فِي الْفُرْقَانِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ
(1)
برقم (4474).
الَّذِي أُعْطِيتُهُ»
(1)
.
وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس قال: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَاسَهُ فَقَالَ: هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَاّ الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَاّ الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ فَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا، لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَاّ أُعْطِيتَهُ
(2)
.
قوله تعالى: {الحَمْدُ للهِ} الحمد هو الثناء، على الله بصفات الكمال، وبأفعاله الدائرة بين الفضل والعدل، فله الحمد الكامل بجميع الوجوه.
و{رَبِّ العَالَمِينَ} الرب هو المتولي جميع العالمين، وهو الذي أوجد الخلق من العدم، وأنعم عليهم بالنعم العظيمة التي لو فقدوها لم يمكن لهم البقاء، فما بهم من نعمة فمنه تعالى، قال سبحانه:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل: 53].
والرب هو المالك المتصرف، ويُطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح، ولا يستعمل الرب لغير الله إلا بالإضافة، تقول: رب الدار، ولا تقول الرب على غير الله.
قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة، التي وسعت كل شيء، وعمت كل حي، وكتبها الله للمتقين المتبعين لأنبيائه ورسله، فهؤلاء لهم الرحمة المطلقة، ومن
(1)
برقم (2875) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2)
برقم (806).
عداهم فلهم نصيب منها، قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156].
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللهِ مِنَ الرَّحْمَةِ، مَا قَنِطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ»
(1)
.
قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، أي: هو المتصرف في ذلك اليوم، وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه، فهو مالك الدنيا والآخرة، وإنما أضيف الملك إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئًا، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه، قال تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38].
وقال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ} [الإنفطار: 17 - 19]. وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ * يوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ} [غافر: 15 - 16].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا»
(2)
.
قال ابن عباس: «لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكمًا كملكهم في الدنيا، قال: ويوم الدين يوم الحساب للخلائق، وهو يوم القيامة،
(1)
برقم (2755).
(2)
البخاري برقم (2753)، ومسلم برقم (204).
يدينهم بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، إلا من عفا عنه»، وكذا قال غيره من الصحابة والتابعين.
قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فالعبادة كمال المحبة، وكمال الخضوع، والخوف والذل، وقدم المفعول - وهو إياك - وكرر للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين، ولذلك قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فالأول التبرؤ من الشرك، والثاني: التبرؤ من الحول والقوة. بل إن الصلاة لا تصح لمن لم يقرأ بهذه السورة، روى البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»
(1)
.
قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} فهذا هو الدعاء الصريح الذي هو حظ العبد من الله، وهو التضرع إليه والإلحاح عليه أن يرزقه هذا المطلب العظيم، الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه، كما من الله على رسوله بعد الفتح بقوله:{وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2].
والهداية ههنا التوفيق والإرشاد، فليتأمل العبد ضرورته إلى هذه المسألة، فإن الهداية إلى ذلك تتضمن العلم النافع، والعمل الصالح على وجه الاستقامة والكمال والثبات على ذلك إلى أن يلقى الله. و {الصِّرَاطَ} هو الطريق الواضح والمستقيم الذي لا عوج فيه، والمراد بذلك الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم، وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ
(1)
البخاري برقم (756)، ومسلم برقم (394).
فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
وأنت دائمًا في كل ركعة تسأل الله أن يهديك إلى طريقهم، وعليك من الفرائض أن تصدق الله أن طريقه هو المستقيم، وكل ما خالفه من طريق أو علم أو عبادة فليس بمستقيم، بل معوج، وهذه أول الواجبات من هذه الآية، واعتقاد ذلك بالقلب، وليحذر المؤمن من خدع الشيطان، وهو اعتقاد ذلك مجملاً وتركه مفصلاً، فإن أكثر الناس من المرتدين يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق، وأن ما خالفه باطل، فإذا جاء بما لا تهوى أنفسهم، فكما قال تعالى:{كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70].
وأما قوله: {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فالمغضوب عليهم هم العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون العاملون بلا علم، فالأول صفة اليهود، والثاني صفة النصارى، وكثير من الناس إذا رأى في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم، وأن النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يقر أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء، ويتعوذ من طريق أهل هذه الصفات، فيا سبحان الله، كيف يعلمه الله، ويختار له، ويفرض عليه أن يدعو به دائمًا، مع أنه لا حذر عليه منه، ولا يتصور أنه يفعله، هذا من ظن السوء بالله
(1)
.
ويستحب لمن قرأ الفاتحة أن يقول بعدها: آمين، ومعناها: اللهم استجب، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَامِينُهُ
(1)
انظر: رسالة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في تفسير سورة الفاتحة (ص: 18 - 27).
تَأمِينَ الْمَلَائِكَةِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»
(1)
.
اللهم اجعل هذا القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، واجعله شافعًا وحجة لنا يوم القيامة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
البخاري برقم (780)، ومسلم برقم (410).