الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة المئة وعشرون: الأمانة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من الأخلاق الجميلة التي وصف الله بها أنبياءه وعباده المؤمنين الأمانة.
…
فوصف بها موسى عليه السلام في قوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَاجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]. ووصف بها يوسف عليه السلام في قوله تعالى: {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54].
وكذلك غيرهما من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، حيث كان كل واحد منهم يقيم الحجة على قومه بوجوب طاعته؛ لأن الله ائتمنه على رسالته، كما في قوله تعالى:{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 107، 108].
ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم كان في قومه قبل الرسالة وبعدها مشهورًا بينهم بأنه الأمين، فكان الناس يختارونه لحفظ ودائعهم، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وكَّل عليًّا رد الودائع إلى أصحابها، وجبريل عليه السلام أمين الوحي، قد وصفه الله بذلك في قوله سبحانه:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ} [الشعراء: 192 - 194].
روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:
أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَامُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ
(1)
.
وهي من صفات المؤمنين المفلحين، كما في قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11].
وبهذه الأمانة يحفظ الدين، والأعراض، والأموال، والأرواح، والمعارف، والعلوم، والولاية، والوصاية، والشهادة، والقضاء، والكتابة، قال تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} [الأحزاب: 72].
قال بعض المفسرين: المعنى أن الله تبارك وتعالى عرض طاعته وفرائضه على السماوات والأرض والجبال على أنها إن أحسنت أثيبت وجوزيت، وإن ضيعت عوقبت، فأبت حملها شفقًا منها ألا تقوم بالواجب عليها، وحملها آدم إنه كان ظلومًا لنفسه، جهولًا بالذي فيه الحظ له. اهـ
(2)
.
قال ابن جرير تعليقًا على الآية الكريمة: وأولى الأقوال في ذلك
(1)
البخاري برقم (2681)، ومسلم برقم (1773).
(2)
تفسير الطبري (10/ 339).
بالصواب ما قاله الذين قالوا إنه عني بالأمانة في هذا الموضع جميع معاني الأمانات في الدين، وأمانات الناس، وذلك أن الله لم يخص بقوله:{عَرَضْنَا الأَمَانَةَ} بعض معاني الأمانات لما وصفنا
(1)
.
قال القرطبي: الأمانة تعم جميع وظائف الدين، ونسب هذا القول لجمهور المفسرين، وقال بعضهم: كل ما افترض الله على العباد فهو أمانة، كالصلاة، والزكاة، والصيام، وأداء الدين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار
(2)
.
روى الطبراني في المعجم الكبير من حديث شداد بن أوس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ أَوَّلَ مَا تَفقِدُونَ مِن دِينِكُمُ الأَمَانَةَ»
(3)
.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فقدان الأمانة من علامات الساعة، فروى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال:«إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ» قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»
(4)
.
وروى البخاري ومسلم من حديث حذيفة قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنَا:«أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ» ، وَحَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِهَا فَقَالَ: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ، فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا، - أي مرتفعًا - وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ،
(1)
تفسير الطبري (8/ 6715).
(2)
انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/ 245).
(3)
(7/ 295) برقم (7182)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1793).
(4)
برقم (59).
فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلاً أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجْلَدَهُ! وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ»
(1)
.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن إضاعة الأمانة من علامات النفاق، فروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»
(2)
.
وقد ذكرت الأمانة في القرآن على ثلاثة أوجه، قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال 27]. والمراد الفرائض.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]. والمقصود الودائع، وقال تعالى:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَاجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَاجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26]. والمراد العفة والصيانة.
ومن الأمانة حفظ الأسرار الزوجية، فروى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَمَانَةِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الرَّجُلَ يُفْضي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا»
(3)
.
ومنها عدل الحاكم بين الرعية، فروى مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي،
(1)
البخاري برقم (6496)، ومسلم برقم (143).
(2)
البخاري برقم (33)، ومسلم برقم (59).
(3)
برقم (1437).
(1)
.
ومما تقدم يتبين أن الأمانة أوسع مما يتصور بعض الناس أنها مقصورة على الودائع، فإنها تشمل أمانة الرجل على دينه أن يقوم به ويحافظ عليه، فوقت المسلم أمانة، وعرضه أمانة، وماله أمانة عنده، وسمعه وبصره ولسانه أمانة، وجوارحه على وجه العموم أمانة.
ومنها أمانة الراعي على رعيته، والرجل على أهل بيته، والمرأة على بيتها وأولادها، والمدير على موظفيه الذين يعملون عنده، والموظف في وظيفته، والمدرس على طلابه، وبالجملة فإن الأمانة تشمل جميع وظائف الدين، كما قال القرطبي رحمه الله.
اللهم اجعلنا ممن إذا اؤتمن أدى الأمانة، اللهم إنا نعوذ بك من الخيانة وسائر الصفات الذميمة، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، واجعلنا من الراشدين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
برقم (1825).