الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة المئة وتسع: تفسير آية الكرسي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة، والصفات الكريمة، فلقد كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردًا للإنسان في أوقاته صباحًا ومساءً، وعند نومه، وأدبار الصلوات المكتوبات. اهـ
(1)
.
وتُسمى آية الكرسي لذكر الكرسي فيها.
قوله: {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وهو الحي في نفسه، الذي لا يموت أبدًا،
(1)
تفسير ابن سعدي، (ص: 112).
القيم بغيره، ومن تمام حياته وقيوميته أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، والسِّنَةُ هي النعاس، وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال:«إِنَّ اللهَ عز وجل لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَه أَن يَنَامَ، يَخفِضُ القِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّوْرُ لَو كَشَفَهُ لأَحْرَقَت سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِن خَلقِهِ»
(1)
.
قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} إخبار بأن الجميع عبيده، وفي ملكه، وتحت قهره وسلطانه، كقوله:{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَاّ آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: 93 - 95].
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} ، هذا من عظمته وجلاله، وكبريائه عز وجل أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع عنده إلا بإذنه، كما قال تعالى:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 28].
وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَاذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26].
وفي حديث الشفاعة الطويل قال صلى الله عليه وسلم: «فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عز وجل، ثُمَّ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيَّ مِن مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَم يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَع رَاسَكَ، وَسَل تُعْطَهُ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ»
(2)
.
(1)
برقم (179).
(2)
البخاري برقم (4712)، ومسلم برقم (194).
وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كقوله تعالى إخبارًا عن الملائكة:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَاّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].
وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ} قال ابن كثير: أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل، وأطلعه عليه، ويحتمل أن يكون المراد: لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه، كقوله:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]
(1)
.
قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ؛ روى الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «الكُرْسِيُّ مَوْضِعُ القَدَمَيْنِ، وَالعَرْشُ لَا يَقدِرُ أَحَدٌ قَدْرَهُ»
(2)
. وهذا يدل على كمال عظمة الله وسعة سلطانه، فإذا كان هذا حال الكرسي، أنه يسع السماوات والأرض على عظمتهما وعظمة من فيهما، فكيف بالعرش الذي هو أعظم من الكرسي؟ !
قال الطحاوي: والعرش والكرسي حق، قال ابن أبي العز الحنفي: العرش سرير ذو قوائم تحمله الملائكة وهو كالقبة على العالم
(3)
، وهو سقف المخلوقات، قال عبدالله بن رواحة:
شَهِدتُ بأَنَّ وَعْدَ اللهِ حقٌ
…
وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الكَافِرينَا
(1)
تفسير ابن كثير (1/ 309).
(2)
(2/ 678) برقم (3170)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الشيخ مقبل الوادعي في تخريجه لأحاديث تفسير ابن كثير (1/ 571)، وأخرجه الذهبي في كتابه العلو (ص: 76)، وصححه الألباني في مختصر العلو (ص: 45).
(3)
شرح العقيدة الطحاوية (ص: 311).
وَأَنَّ العَرشَ فَوْقَ الماءِ طَافٍ
…
وَفَوقَ العَرشِ ربُّ العَالمِينَا
وتَحْمِلهُ مَلائِكةٌ شِدَادُ
…
مَلائِكةُ الإلَهِ مُسَوَّمِينَا
(1)
روى أبو داود في سننه من حديث جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَةِ اللهِ مِنْ حَمَلَةِ العَرْشِ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِمِائَةِ عَامٍ»
(2)
.
وقوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} ، أي: لا يثقله ولا يكترثه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما، ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، وهو العلي بذاته، فوق عرشه، العلي بقهره لجميع المخلوقات، العلي بقدره لكمال صفاته، العظيم الذي يتضاءل عند عظمته جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة.
ومن فوائد الآية الكريمة:
أولاً: أنها أعظم آية في القرآن، وقد وردت نصوص كثيرة في فضلها، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا المُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِن كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ » قَالَ: قُلتُ: اللهُ وَرَسُوْلُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:«يَا أَبَا المُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِن كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟ » قَالَ: قُلتُ: «اللهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الحَيُّ القَيُّوْمُ» ، قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي وَقَالَ: «لِيَهْنِكَ العِلمُ أَبَا المُنْذِرِ»
(3)
.
وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:
(1)
العقيدة الطحاوية (ص: 311).
(2)
برقم (4727)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (151).
(3)
برقم (810).
وَكَّلَنِي رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ، فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلتُ: لأَرَفَعَنَّكَ إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ الحَدِيْثَ فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأ آيَةَ الكُرْسِيِّ، لَن يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوْبٌ، ذَاكَ شَيْطَانٌ»
(1)
.
ثانيًا: سعة علم الله وإحاطته بكل شيء، فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، قال تعالى:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59].
ثالثًا: عظمة الله سبحانه، وسعة سلطانه، قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].
رابعًا: أن الله تعالى لا يثقله ولا يكترثه حفظ السماوات والأرض، بل ذلك سهل يسير عليه، قال تعالى:{إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [فاطر: 41].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
برقم (3275).