الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة المئة واثنتا عشرة: الابتلاء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان، يبتلى فيها المؤمن بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والشهوات والشبهات، قال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].
أي نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم تارة أخرى، فننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، قال ابن عباس:«{وَنَبْلُوكُمْ}: أي نبتليكم بالشر والخير، أي بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال»
(1)
. ثم قال تعالى: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي: فنجازيكم على مواقفكم من هذه الأحوال، فمن وقف موقف المؤمن واتقى الله في كل حالة نال المثوبة، ومن أساء نال العقوبة.
قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ
(1)
تفسير ابن كثير (3/ 178).
وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157].
روى البخاري في صحيحه من حديث خباب بن الأرت قال: شَكَوْنَا إِلَى رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، قُلنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيْمَن قَبْلَكُم يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيْهِ، فَيُجَاءُ بِالمِنْشَارِ فَيُوْضَعُ عَلَى رَاسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَن دِيْنِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيْدِ مَا دُوْنَ لَحْمِهِ مِن عَظْمٍ أَو عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَن دِيْنِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيْرَ الرَّاكِبُ مِن صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَاّ اللهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُم تَسْتَعْجِلُوْنَ»
(1)
.
وروى الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ:«الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»
(2)
.
وسأل رجل الشافعي رحمه الله فقال: يا أبا عبد الله، أيهما أفضل للرجل: أن يمكن فيشكر الله عز وجل؟ أو يبتلى فيصبر؟ فقال الشافعي: لا
(1)
برقم (3612).
(2)
برقم (2398) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
يُمكَّن حتى يُبتَلَى، فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم ومحمدًا صلوات الله عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم الله فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة. اهـ
(1)
.
قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55].
قال ابن القيم رحمه الله: والله أسأل أن يجعلكم ممن إذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإن هذه الأمور الثلاثة عنوان سعادة العبد، وعلامة فلاحه في دنياه وأخراه، ولا ينفك عبد عنها أبدًا، فإن العبد دائم التقلب بين هذه الأطباق الثلاثة. اهـ
(2)
.
والمؤمن يصيبه البلاء تكفيرًا لسيئاته، ورفعة لدرجاته، وحتى يتميز الخبيث من الطيب، وغير ذلك من الحكم.
روى البخاري في صحيحه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكًا شديدًا، فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك لتوعك وعكًا شديدًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أَجَل، إِنِّي أُوَعَكُ كَمَا يُوَعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُم» ، فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَجَل» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلَاّ حَطَّ اللهُ لَهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا»
(3)
.
وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن
(1)
الفوائد لابن القيم (ص: 232 - 233).
(2)
الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص: 3).
(3)
برقم (5660).
النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ»
(1)
.
قال أبو عبيدة الهروي: أي يبتليه بالمصائب ليثيبه عليها، وقد تبتلى أمة الإسلام بتكالب الكفار واعتدائهم عليها، إما عقوبة لها على تقصيرها في طاعة ربها، أو ابتلاء واختبارًا لها، قال تعالى:{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4].
وقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2].
وما نراه في هذه الأزمان من تكالب أمم الكفر من كل مكان، واتحادهم ضد المسلمين، ما هو إلا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أبو داود من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا» ، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ» ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ:«حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»
(2)
.
ولن يكون الخلاص والنجاة من ذلك إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والبراءة من الشرك وأهله، ويجب على المؤمن أن يكون على ثقة ويقين بنصر الله القريب، وإن كثر الأعداء، وعظمت قوتهم، فإن الله سينصر دينه والمؤمنين، قال تعالى:{حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَاسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].
(1)
برقم (5645).
(2)
برقم (4297) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 810) برقم (3610).
وقال تعالى: {وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَاّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف: 87].
وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51 - 52].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.