الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة المئة واثنتان وعشرون: وقفة مع سورة الماعون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فمن سور القرآن العظيم التي تتكرر على أسماعنا، وتحتاج منا إلى تأمل وتدبر، سورة الماعون، قال تعالى:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ} [الماعون: 1 - 7].
قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} أي: أرأيت يا محمد الذي لا يصدق بالجزاء وما فيه من ثواب وعقاب، وقيل: إنه عام لكل من يتوجه إليه الخطاب، وهؤلاء هم الذين ينكرون البعث، {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة: 47]، ويقول القائل منهم:{قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78].
قوله تعالى: {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ} أي الذي يقهر اليتيم، ويظلمه حقه، ولا يطعمه، ولا يحسن إليه، واليتيم هو الذي مات أبوه، وهو دون سن البلوغ، ذكرًا كان أو أنثى.
قوله تعالى: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} أي لا يأمر به من أجل بخله، أو تكذيبه بالجزاء، كما في قوله تعالى: {كَلَاّ بَل لَا تُكْرِمُونَ
اليَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} [الفجر: 17 - 18].
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5] فويل: أي عذاب لهم، قال بعض المفسرين: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، فلا يصلونها إلا بعد خروج الوقت.
روى أبو يعلى في مسنده من حديث مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ ابْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي: يَا أَبَتَاهُ، أَرَأَيْتَ قَوْلَهُ تبارك وتعالى:{الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} أَيُّنَا لَا يَسْهُو؟ أَيُّنَا لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ؟ ! قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، إِنَّمَا إِضَاعَةُ الْوَقْتِ يَلْهُو حَتَّى يَضِيعَ الْوَقْتُ
(1)
.
قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].
وقال آخرون: يتركونها فلا يصلونها، وقد ورد ذلك عن ابن عباس، وقال: هم المنافقون الذين يتركون الصلاة سرًّا، ويصلونها علانية.
قال ابن كثير رحمه الله: أي يؤخرون الصلاة إلى آخر الوقت دائمًا أو غالبًا، وإما يقصرون عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها، فاللفظ يشمل ذلك كله، وكل من اتصف بشيء من ذلك له قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها، وكمل النفاق العملي، كما في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ
(1)
(1/ 336) برقم (700)، وقال المنذري في كتابه الترغيب والترهيب (1/ 441): إسناده حسن.
فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَاّ قَلِيلاً»
(1)
.
فهذا آخر صلاة العصر التي هي الوسطى كما ثبت به النص الى آخر وقتها وهو وقت كراهة، ثم قام إليها فنقرها نقر الغراب، لم يطمئن، ولا خشع أيضًا، ولهذا قال: لا يذكر الله فيها إلا قليلاً، ولعله إنما حمله على القيام إليها مراءاة الناس، لا ابتغاء وجه الله، فهو كما إذا لم يُصل بالكلية، قال تعالى:{إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَاّ قَلِيلاً} [النساء: 142].
وقال تعالى ههنا: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} .
قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ} أي: لا أحسنوا عبادة ربهم بإخلاص العبادة له، ولا أحسنوا إلى خلقه، حتى ولا بإعارة ما يُنتفع به، ويُستعان به مع بقاء عينه ورجوعه إليهم كالإناء، والدلو، والفأس، فهؤلاء؛ لمنع الزكاة وأنواع القربات أولى
(2)
. أهـ.
ومن فوائد السورة الكريمة:
أولاً: أن فيها الحث على إطعام اليتيم والمسكين، والتحضيض على ذلك، روى البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا» وقال بإصبعيه السبابة والوسطى
(3)
.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ» ، وَأَحْسِبُهُ قَالَ:«وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ»
(4)
.
(1)
برقم (622).
(2)
تفسير ابن كثير (14/ 468 - 471).
(3)
برقم (6005).
(4)
صحيح البخاري برقم (6007)، وصحيح مسلم برقم (2982) واللفظ له.
ثانيًا: الحث على أداء الصلاة في وقتها، قال تعالى:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»
(1)
.
ثالثًا: الحث على فعل المعروف، وبذل الأموال الخفيفة، كعارية الإناء، والدلو، والكتاب، والفأس، ونحو ذلك؛ لأن الله ذم من لم يفعل ذلك.
روى البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَرْبَعُونَ خَصْلَةً، أَعْلَاهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ، مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا، وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلَاّ أَدْخَلَهُ اللهُ بِهَا الْجَنَّةَ»
(2)
.
قَالَ حَسَّانُ: فَعَدَدْنَا مَا دُونَ مَنِيحَةِ الْعَنْزِ، مِنْ رَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَإِمَاطَةِ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَنَحْوِهِ، فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً
(3)
.
رابعًا: الحث على الإخلاص في العمل، والتحذير من الرياء والسمعة، كما قال تعالى عن عباده المؤمنين:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8 - 9].
روى البخاري ومسلم من حديث جندب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللهُ بِهِ»
(4)
.
المعنى: أن من سمع فضحه الله، وبين للناس أن الرجل ليس
(1)
سبق تخريجه.
(2)
برقم (2631).
(3)
برقم (2631).
(4)
البخاري برقم (6499)، ومسلم برقم (2987).
مخلصًا، ولكنه يريد أن يسمعه الناس فيمدحونه على عبادته، ومن راءى كذلك يفضحه الله، ويبين أمره إن عاجلاً أو آجلاً.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.