الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة السابعة والتسعون: حوض النبي صلى الله عليه وسلم
-
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر: 1 - 3]، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:«الكَوثَرُ الخَيرُ الكَثِيرُ الَّذِي أَعطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ، قَالَ أَبُو بِشرٍ: قُلتُ لِسَعِيدٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزعُمُونَ أَنَّهُ نَهرٌ فِي الجَنَّةِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهرُ الَّذِي فِي الجَنَّةِ مِنَ الخَيرِ الكَثِيرِ الَّذِي أَعطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ»
(1)
.
وروى البخاري في صحيحه من حديث أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بَينَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الجَنَّةِ إِذ أَنَا بِنَهرٍ حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ المُجَوَّفِ، قُلتُ: مَا هَذَا يَا جِبرِيلُ؟ قَالَ: الكَوثَرُ الَّذِي أَعطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِينُهُ مِسكٌ أَذفَرُ»
(2)
.
وهذا الكوثر يصب منه ميزابان في حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر الحوض قال: «يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَا»
(3)
،
(1)
برقم (6578).
(2)
برقم (6581).
(3)
برقم (2300).
وفي رواية أخرى لمسلم: «يَغُتُّ فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَالآخَرُ مِنْ وَرِقٍ»
(1)
.
وهذا الحوض، وصفته ثبتت بطرق عن جمع من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واشتهر ذلك واستفاض، بل تواترت في كتب السنة من الصحاح، والحسان، والمسانيد، والسنن، والحوض هو مجمع الماء.
قال النووي رحمه الله: «وَهَذَا تَصرِيحٌ بِأَنَّ الحَوضَ حَقِيقِيٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ كَمَا سَبَقَ، وَأَنَّهُ مَخلُوقٌ مَوجُودٌ اليَومَ»
(2)
.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «وَالحَوضُ مَوجُودٌ الآنَ»
(3)
لما رواه البخاري، ومسلم من حديث عقبة بن عامر: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَومًا فَصَلَّى عَلَى أَهلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى المَيْتِ، ثُمَّ انصَرَفَ عَلَى المِنبَرِ، فَقَالَ:«إِنِّي فَرَطٌ لَكُمْ، وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ، وَإِنِّي وَاللهِ لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضي الآنَ»
(4)
.
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي»
(5)
.
ولهذا يحتمل أنه في هذا المكان، لكن لا نشاهده لأنه غيبي، ويحتمل أن المنبر يوضع يوم القيامة على الحوض
(6)
. اهـ.
وأما في كيفية مائه، فإنه أشد بياضًا من اللبن، هذا اللون، أما في الطعم فإنه أحلى من العسل، وفي الرائحة أطيب من المسك.
روى مسلم من حديث أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر الحوض
(1)
برقم (2301).
(2)
شرح صحيح مسلم (5/ 59).
(3)
شرح العقيدة الواسطية (2/ 157).
(4)
البخاري برقم (6590)، ومسلم برقم (2296).
(5)
البخاري برقم (6588)، ومسلم برقم (1391).
(6)
شرح العقيدة الواسطية (2/ 157).
قال: «مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ»
(1)
، وفي رواية في الصحيحين:«وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ»
(2)
.
أَمَّا آنِيَتُهُ فَعَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ، وَهَذَا وَرَدَ فِي بَعضِ أَلفَاظِ الحَدِيثِ فِي الصَّحِيحَينِ
(3)
، وفي بعضها:«آنِيَتُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ»
(4)
، وهذا لفظ أشمل لأنه يكون كالنجوم في العدد، وفي الوصف بالنور واللمعان، فآنيته كنجوم السماء كثرة، وإضاءة، وفي بعض روايات الصحيح: أَنَّ هَذِهِ الأَبَارِيقَ مِن ذَهَبٍ، وَفِضَّةٍ
(5)
.
ومساحة هذا الحوض طوله شهر، وعرضه شهر، قال الشيخ ابن عثيمين: وهذا يقتضي أن يكون مدورًا، لأنه لا يكون بهذه المساحة من كل جانب إلا إذا كان مدورًا، وهذه المسافة باعتبار ما هو معلوم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من سير الإبل المعتاد
(6)
، فقد جاء في الصحيحين:«أَنَّ عَرْضَهُ مِثْلُ طُولِهِ مِن عَمَّانَ إِلَى أَيْلَةَ» ، وعمان بلدة بالبلقاء من الشام، وأيلة بلدة بطرف بحر القلزم من طرف الشام، وهي الآن خراب يمر بها الحاج من مصر
(7)
.
وفي رواية أخرى: «مَا بَيْنَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ» ، وهما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام
(8)
، وفي رواية أخرى: «قَدْرُ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ
(1)
برقم (2301).
(2)
صحيح البخاري برقم (6579)، وصحيح مسلم برقم (2292).
(3)
البخاري برقم (6580)، ومسلم برقم (2303).
(4)
صحيح البخاري برقم (6579)، وصحيح مسلم برقم (2292).
(5)
صحيح مسلم برقم (2303).
(6)
شرح العقيدة الواسطية (2/ 159).
(7)
صحيح مسلم برقم (2300).
(8)
صحيح البخاري برقم (6577)، وصحيح مسلم برقم (2299).
أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ»
(1)
، وفي أخرى:«مَا بَيْنَ نَاحِيَتَييْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ»
(2)
.
وذكر بعض العلماء تأويلات لاختلاف هذه المسافات التي ذكرت في عرض الحوض وطوله.
منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بالمسافة اليسيرة، ثم أعلم بالمسافة الطويلة، فأخبر بها كأن الله تفضل عليه باتساعه شيئًا بعد شيء، فيكون الاعتماد على ما يدل على أطولها مسافة، وقيل غير ذلك
(3)
.
وزمن الورود على الحوض قبل العبور إلى الصراط، لأن المقام يقتضي ذلك، حيث إن الناس في حاجة إلى الشرب في عرصات القيامة قبل العبور إلى الصراط، وقد رجح بعض أهل العلم ذلك، ومن شرب من الحوض لم يظمأ أبدًا، لما ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو:«وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَا أَبَدًا»
(4)
.
أما أسباب الورود على الحوض، فمنها:
أولاً: التمسك بالكتاب والسنة، والثبات على ذلك، والبعد عن البدع المحدثة في الدين وكبائر الذنوب، روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي قَد تَرَكْتُ فِيْكُم شَيْئَيْنِ لَن تَضِلُّوْا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَن يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَى الحَوْضِ»
(5)
.
(1)
البخاري برقم (6580)، مسلم برقم (2303).
(2)
البخاري برقم (6591)، ومسلم برقم (2298).
(3)
انظر: فتح الباري (11/ 472).
(4)
البخاري برقم (6579)، ومسلم برقم (2292).
(5)
(1/ 284) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (2937).
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَنَا فَرَطُكُم عَلَى الحَوْضِ، مَن مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَن شَرِبَ لَم يَظْمَا أَبَدًا، وَلَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُم وَيَعْرِفُوْنِي ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُم، فَأَقُوْلُ: إِنَّهُم مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوْا بَعْدَكَ. فَأَقُوْلُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَن غَيَّرَ بَعْدِي» ، فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا، أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا
(1)
.
قال ابن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض، كالخوارج، والروافض، وسائر أصحاب الأهواء، قال: وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق، والمعلنون للكبائر، قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر، والله أعلم
(2)
. اهـ.
ثانياً: عدم إعانة الولاة الظلمة على ظلمهم، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«أعاذَكَ اللهُ من إِمارَةِ السُّفهاءِ، قال: وما إمارةُ السفهاءِ؟ قال: أمراءُ يكونون بَعْدِي لا يَقْتَدُونَ بِهَدْيِي وَلا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي فمن صَدَّقَهُم بِكَذِبِهِمْ وأعَانَهُم على ظُلْمِهِم فَأُولئكَ لَيْسُوا مِنِّي ولَسْتُ مِنْهُم ولا يَرِدُوا عليَّ حَوْضِي، ومنْ لَمْ يُصَدِّقْهم بِكَذِبِهِمْ، ولمْ يُعِنْهُم على ظُلْمِهِم فَأُولَئِك مِنِّي وأنا مِنْهم وسَيَرِدُوا عليَّ حَوْضِي»
(3)
.
ثالثاً: الصبر على ما يصيب المؤمن من نقص في الدنيا، واستئثار غيره بها، روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1)
صحيح البخاري برقم (6583 - 6584، 6593)، وصحيح مسلم برقم (2290).
(2)
شرح صحيح مسلم للنووي (1/ 137).
(3)
(22/ 332) برقم (14441) وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم.
قال لأصحابه الأنصار: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْحَوْضِ»
(1)
.
رابعاً: المحافظة على الوضوء، روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر الحوض قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَذُودُ عَنْهُ الرِّجَالَ، كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ الإِبِلَ الْغَرِيبَةَ عَنْ حَوْضِهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَتَعْرِفُنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، لَيْسَتْ لأَحَدٍ غَيْرِكُمْ»
(2)
.
اللهم أوردنا حوض نبيك، واجعلنا من المتبعين لسنته، اللهم اسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبدًا، اللهم احشرنا في زمرته، واجعلنا من أتباعه مع النبيين، والصديقين والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
البخاري برقم (3147)، ومسلم برقم (1845).
(2)
برقم (248).