الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة المئة وأربع عشرة: العافية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من أعظم نعم الله على عباده بعد نعمة الإيمان والإسلام، نعمة العافية، قال تعالى عن نبي الله هود عليه السلام وهو يخاطب قومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا
…
إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ}
…
[هود: 52].
روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «نِعْمَتَانِ مَغْبُوْنٌ فِيْهِمَا كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ»
(1)
.
والغبن أن يشتري الإنسان السلعة بأكثر من ثمنها، فمن صح بدنه وتفرغ من الأشغال العالقة به، ولم يسع لإصلاح آخرته يقال عنه: رجل مغبون.
روى الترمذي في سننه من حديث عبيد الله بن محصن الخطمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»
(2)
.
قوله: «آمِنًا فِي سِرْبِهِ» ، أي: آمنًا على نفسه وأهله وعياله وماله.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
قوله: «مُعَافًى فِي جَسَدِهِ» ، أي: من الأمراض، أي: صحيحًا سالمًا من العلل والأسقام.
قوله: «عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ» ، أي: كفاية قوته وحاجته من وجه حلال.
قوله: «فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» ، أي: ضمت وجمعت، فمن جمع الله له بين عافية بدنه، وأمن قلبه حيث توجه، وكفاف عيشه بقوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع الله له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها، فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها، بأن يصرفها في طاعة المنعم، لا في معصيته.
وإن من أعظم المطالب، وأرفع المراتب التي ينبغي للمؤمن أن يحرص عليها سؤال الله العافية، روى الترمذي في سننه من حديث رفاعة بن رافع قال: قَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ بَكَى فَقَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الأَوَّلِ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ بَكَى، فَقَالَ:«سَلُوا اللهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ، فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنَ الْعَافِيَةِ»
(1)
.
قال ابن القيم رحمه الله تعليقًا على الحديث المذكور: «فجمع بين عافيتي الدين والدنيا، ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه، فجمع أمر الآخرة في كلمة، وأمر الدنيا كله في كلمة»
(2)
.
وروى ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ دَعْوَةٍ يَدْعُو بِهَا الْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
تحفة الذاكرين (ص: 305).
الْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»
(1)
.
فبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن أفضل ما سأله العباد أن يعافيهم الله، لأن العمدة الكبرى، والمنحة العظمى في نيل السعادة الدنيوية والأخروية هي العافية.
وروى البزار في كشف الأستار من حديث أنس بن مالك: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِقَوْمٍ مُبْتَلَينَ، فَقَالَ:«أَمَا كَانَ هَؤُلاءِ يَسْأَلُونَ اللهَ الْعَافِيَةَ؟ ! »
(2)
، وفي الحديث دليل على أن سؤال الله العافية يدفع كل بلية، ويرفع كل محنة، ولهذا جاء صلى الله عليه وسلم بهذا الاستفهام بمعنى الاستنكار، فكأنه قال لهم: كيف تتركون أنفسكم في هذه المحنة والابتلاء؟ وأنتم تجدون الدواء الحاسم لها، والمرهم الشافي لما أصابكم منها، وهو الدعاء بالعافية، واستدفاع هذه المحنة النازلة بكم، بهذه الدعوة الكافية، وفي هذا ما يزيد النفوس نشاطًا والقلوب بصيرةً، باستعمال هذا الدواء عند عروض كل داء، ومساس كل محنة، ونزول كل بلية، قال أحد الصالحين:«أكثروا من سؤال العافية، فإن المبتلى وإن اشتد بلاؤه لا يأمن ما هو أشد منه، وإن المبتلى وإن اشتد بلاؤه ليس بأحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء، وما المبتلون اليوم إلا من أهل العافية بالأمس، وما المبتلون بعد اليوم إلا من أهل العافية اليوم» . والذي يزور مستشفيات المسلمين ويرى ما ابتلي به إخوانه من الأمراض الخطيرة التي عجز الطب الحديث عن علاج بعضها، ليحمد الله عز وجل صباحًا ومساءً على نعمة العافية.
(1)
برقم (3851)، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه برقم (3106).
(2)
(4/ 36) برقم (3134) وصححه العلامة الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (2197).
قال الشاعر:
إني وإن كَان جَمْعُ المالِ يُعْجِبُنِي
…
ما يعدلُ المالُ عِندي صِحَّة الجَسَد
المالُ زينٌ وفي الأَولادِ مَكْرُمَةٌ
…
والسُقْمُ يُنسِيك ذِكرَ المَالِ والوَلَد
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه العافية صباحًا ومساءً، وحتى عند نومه، فروى أبو داود في سننه من حديث ابن عمر قال: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي»
(1)
. قال أبو داود: قال وكيع: يعني الخسف، وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن الحارث، يحدث عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلاً إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ أَن يَقُولَ: «اللَّهُمَّ خَلَقْتَ نَفْسِي
…
الحديث، وقال في آخره: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ»، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ عُمَرَ؟ فَقَالَ: مِنْ خَيْرٍ مِنْ عُمَرَ، مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم
(2)
.
والعافية في الدنيا هي دفع الله عن العبد جميع الأسقام والبلايا وجميع ما يكرهه ويشينه، والعافية في الآخرة هي دفع الله عنه جميع أهوال الآخرة وأفزاعها، ولا يخرج مطلوب العبد من هذين القسمين.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من سيئ الأسقام، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوْذُ بِكَ مِنَ
(1)
سبق تخريجه.
(2)
برقم (2712).
البَرَصِ، وَالجُنُوْنِ، وَالجُذَامِ، وَمَن سَيِّئِ الأَسْقَامِ»
(1)
.
وأرشد عليه الصلاة والسلام أمته إلى اغتنام الصحة قبل المرض، فروى الحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«اغتَنِم خَمسًا قَبلَ خَمسٍ .. ذكر منها: صِحَّتَكَ قَبلَ سَقَمِك»
(2)
: وكَانَ ابْنُ عُمَرَ كما في صحيح البخاري يَقُوْلُ: «إِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَإِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاح، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ»
(3)
(4)
.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
(3)
برقم (6416).
(4)
انظر: رسالة الشيخ عبدالهادي وهبي "الوسيلة الكافية لتحقيق العافية".