الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة المئة وأربعة: نعمة الهداية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من أعظم نعم الله على عباده نعمة الهداية لهذا الدين، قال تعالى عن الأعراب:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17]، وقال تعالى ممتنًّا على نبيه بهذه النعمة:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وقال تعالى:{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى: 7]. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: «أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَاّلاً فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي؟ ! »
(1)
. وامتن الله على أهل الجنة بهذه النعمة، فقال سبحانه:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ} [الأعراف: 43]. والهداية على قسمين:
1 -
هداية الدلالة والإرشاد والبلاغ، وهي المذكورة في قوله تعالى:{وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7]، وفي قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
(1)
صحيح البخاري برقم (4330)، وصحيح مسلم برقم (1061).
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]، وفي قوله تعالى:{فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلَاغُ المُبِينُ} [المائدة: 92]. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: «فَوَاللهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ»
(1)
.
2 -
هداية التوفيق لقبول الحق والإعانة عليه، وهي التي تفرد بها سبحانه فقال لنبيه:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} [القصص: 56]، وقال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99]، وقال سبحانه:{وَلَوْ شِئْنَا لآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ القَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13].
ومن أنواع الهداية:
أن يهدي الله العبد للقيام بالأعمال الصالحة، والأخلاق الحسنة مع الناس، روى الحاكم في المستدرك من حديث أبي أيوب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَائِي وَذُنُوْبِي كُلَّهَا، اللَّهُمَّ أَنعِمْنِي، وَأَحْيِنِي، وَارْزُقْنِي، وَاهْدِنِي لِصَالِحِ الأَعْمَالِ وَالأَخْلَاقِ، فَإِنَّهُ لَا يَهْدِي لِصَالِحِهَا إِلَاّ أَنْتَ، وَلَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَاّ أَنْتَ»
(2)
.
ومن أعظم أنواع الهداية أن يهدي الله العبد للقيام بالتوحيد، والبعد عن الشرك، فإن من قام بذلك نال الأمن في الدنيا والآخرة قال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ
(1)
صحيح البخاري برقم (2942)، وصحيح مسلم برقم (2406) واللفظ له.
(2)
(4/ 578 - 579) برقم (5996) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1266).
مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه الهداية، روى مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى»
(1)
، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو لأصحابه بالهداية، وأرشد أمته إلى ذلك، روى البخاري ومسلم من حديث جرير بن عبد الله أنه قال: لقد شكوت إليه - أي النبي صلى الله عليه وسلم أني لا أثبت على الخيل، فضرب بيده في صدري، وقال:«اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا»
(2)
.
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن دوسًا عصت وأبت، فادع الله عليها. فقيل: هلكت دوس. قال: «اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا، وَائْتِ بِهِمْ»
(3)
.
وروى مسلم في صحيحه من حديث علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «قُلْ: اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى، هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ، سَدَادَ السَّهْمِ»
(4)
.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث البراء بن عازب قال: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ، حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ، وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الشَّعَرِ، وَهْوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللهِ:
اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
…
وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
(1)
برقم (2721).
(2)
البخاري برقم (3036)، ومسلم برقم (2475).
(3)
البخاري برقم (2937)، ومسلم برقم (2524).
(4)
برقم (2725).
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
…
وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
إِنَّ الأَعْدَاءَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
…
إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا»
(1)
(2)
.
قال ابن القيم رحمه الله: «إن العبد إذا آمن بالكتاب واهتدى به مجملاً، وقبل أوامره، وصدق بأخباره كان ذلك سببًا لهداية أخرى تحصل له على التفصيل فإن الهداية لا نهاية لها، ولو بلغ العبد فيها ما بلغ»
(3)
، قال تعالى:{وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا} [مريم: 76]، وقال تعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].
وأخبر عز وجل أن من أراد هدايته لهذا الدين فإنه يشرح صدره له، وعلى العكس من ذلك من أراد له الشقاء والغواية، فإنه يضيق بهذا الدين ذرعًا، قال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125].
ومن أسباب الثبات على الهداية:
الدعاء: فقد روى الترمذي في سننه من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله يكثر أن يقول: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» فقلت: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال:
(1)
البخاري برقم (3034)، ومسلم برقم (1803).
(2)
الفتاوى (14/ 37) بتصرفز
(3)
الفوائد (1/ 151).
«نَعَمْ إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ يَقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ»
(1)
.
ومنها المسارعة إلى الأعمال الصالحة، قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 66 - 68].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
برقم (2140) وقال: هذا حديث حسن.