الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلمة المئة وسبع عشرة: وقفة مع قوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا
.. } الآية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71، 72].
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: «هذا خطاب لسائر الخلائق برهم وفاجرهم، ومؤمنهم وكافرهم، أنه ما منهم من أحد إلا سيرد النار حكمًا حتمه الله على نفسه، وأوعد به عباده، فلا بد من نفوذه، ولا محيد عن وقوعه»
(1)
. اهـ.
روى الإمام الترمذي في سننه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَرِدُ النَّاسُ النَّارَ، ثُمَّ يَصْدُرُونَ مِنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ، فَأَوَّلُهُمْ كَلَمْحِ الْبَرْقِ، ثُمَّ كَالرِّيحِ، ثُمَّ كَحُضْرِ الْفَرَسِ، ثُمَّ كَالرَّاكِبِ فِي رَحْلِهِ، ثُمَّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، ثُمَّ كَمَشْيِهِ»
(2)
.
وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين، والصراط الذي وردت
(1)
تفسير ابن سعدي (ص: 580).
(2)
برقم (3159) وقال: هذا حديث حسن.
الإشارة إليه في الأحاديث هو جسر منصوب على متن جهنم، وهو صراط دقيق جدًّا كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال:«بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ»
(1)
.
والصراط ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال السفاريني رحمه الله: والصراط شرعاً جسر ممدود على متن جهنم يرده الأولون والآخرون فهو قنطرة جهنم بين الجنة والنار وخُلِق من حين خلقت جهنم
(2)
.
قال الشاعر:
أَمَامِي مَوْقف قُدَّامَ رَبّي
…
يُسَائِلُنِي وَيَنْكَشِف الغِطَاءُ
وَحَسْبِي أَن أَمُر على صِراطٍ
…
كَحَد السَّيْفِ أَسْفَلُهُ لَظَاءُ
روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل: «ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ، وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: دَحْضٌ مَزِلَّةٌ - قال في الحاشية: «الدحض والمزلة بمعنى واحد وهو الموضع الذي تزل فيه الأقدام، ولا تستقر» - فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ، وَحَسَكٌ - الخطاف هو الحديدة المعوجة كالكلوب يختطف بها الشيء، والكلاليب هي حديدة معطوفة الرأس، ويعلق عليها اللحم، والحسك هي شوكة صلبة معروفة - فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ، وَكَالْبَرْقِ، وَكَالرِّيحِ، وَكَالطَّيْرِ، وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ، وَالرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ
(1)
صحيح مسلم برقم (183).
(2)
لوامع الأنوار البهية للسفاريني (2/ 189).
يُسْحَبُ سَحْبًا
…
الحديث»
(1)
.
قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72].
قال ابن كثير: أي إذا مر الخلائق كلهم على النار، وسقط فيها من سقط من الكفار، والعصاة ذوي المعاصي بحسبهم، نجّى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم، فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا
(2)
. اهـ.
ومن فوائد الآيتين الكريمتين:
أولاً: أن الورود على النار لا بد منه لكل الناس، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أم مبشر امرأة زيد بن حارثة قالت: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ حَفْصَةَ، فَقَالَ:«لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ» قَالَتْ حَفْصَةُ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللهُ تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا»
(3)
.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَمُوتُ لأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ إِلَاّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ»
(4)
.
ثانيًا: الصراط حق يجب الإيمان به، والاستعداد له بالعمل الصالح، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: «والصراط حق، يوضع على شفير جهنم، ويمر الناس عليه، والجنة من وراء ذلك، نسأل الله
(1)
صحيح البخاري برقم (4581)، وصحيح مسلم برقم (183) مختصراً.
(2)
تفسير ابن كثير (9/ 287).
(3)
(44/ 590) برقم (27042) وقال محققوه: صحيح.
(4)
صحيح البخاري برقم (6656)، وصحيح مسلم برقم (2632) واللفظ له.
السلامة في الجواز» (2).
ثالثًا: أن التقوى سبب النجاة في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72].
وقال تعالى: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61].
رابعًا: أن الظلم عاقبته الهلاك في الدنيا والآخرة، لقوله في هذه الآية:{وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 72].
وقال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 52].
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» . قَالَ ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]
(1)
.
وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].
خامسًا: أن سرعة مرور المؤمن على الصراط بقدر أعماله التي كانت في الدنيا؛ فلذلك ينبغي له المسارعة إلى الخيرات والأعمال الصالحة، قال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].
وقال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
(1)
البخاري برقم (4686)، ومسلم برقم (2583).
وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} [فاطر: 32].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب»
(1)
.
ومن أمثلة المبادرة إلى الأعمال الصالحة التبكير في الحضور إلى المسجد لأداء صلاة الجماعة أو الجمعة، والإكثار من نوافل الصلاة، والصيام، والحج، والعمرة، والصدقة على الفقراء والمساكين، وغير ذلك من أبواب الخير العظيمة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1)
تفسير ابن كثير (11/ 323).